لاشك أنه قد كانت هناك وظيفة هامة تلعبها الفلسفة على مدي عصورها المختلفة ، فلا يُعقل أبداً أن يبذل البشر جهداً عظيماً كهذا الذي بذلوه ويبذلونه في النشاط الفلسفي ويكون هذا الجهد ، وهذا النشاط بلا وظيفة يؤديها أياً كانت نوعيتها. وعند تأمل تاريخ الفلسفة نجد أن الوظيفة التي كانت تؤديها الفلسفة لمعاصريها قد اختلفت من عصر إلي عصر ، ومن أمة إلي أخرى. ويمكننا أن نميز بين نوعين من الوظائف التي كانت تؤديها الفلسفة ولا تزال لمعاصريها، نوع من الممكن لنا أن نصفه بأنه وظيفة خاصة ، والأخر من الممكن أن نصفه بالوظيفة العامة. الأولي نقصد به الوظيفة الجزئية التي كانت الفلسفة تؤديها لأهل عصر بعينه من العصور ، وهي تختلف في طبيعتها من عصر لأخر حسب احتياجات أهل هذا العصر ، وحسب تنوع المشكلات التي تواجه هذا العصر وتتطلب حلاً معينا ، فتضطلع الفلسفة بهذه المهمة. أما الوظيفة العامة فنقصد بها تلك الوظيفة التي ظلت وسوف تظل الفلسفة تؤديها عبر كل العصور ، الوظيفة التي لو تخلت عن أدائها الفلسفة ما جاز لنا على الإطلاق بأن نصفها بوصف الفلسفة أصلا. وسوف نتحدث عن كل نوع من هذين النوعين من الوظائف ليكون حديثنا هذا بمثابة التمهيد للحديث الأصلي لنا عن أهمية وجود الفلسفة أصلا في حياتنا.

    ففيما يتعلق بالوظيفة الخاصة للفلسفة يمكننا أن نقول إنها تنوعت من عصر إلي أخر ، ففي العصور القديمة كانت الوظيفة التي تؤديها الفلسفة لمعاصريها هي خدمة الحياة العملية ومقتضيات الحياة الدينية في بلاد الشرق القديم. فقد عرفت حضارات الشرق القديم بعض الأفكار الفلسفية التي دفعت إليها المعتقدات الدينية كالتأمل في طبيعة الكون والرغبة في معرفة أصله ومصيره ، والنزوع إلي الوقوف على حقيقة الخير والشر. وكانت وظيفة الكشف عن الحقيقة لذاتها بغض النظر عما يمكن أن يترتب على هذا الكشف من منافع عملية في الحياة في بلاد اليونان. لقد كانت الفلسفة عند اليونان بحثاً في طبيعة الأشياء أو حقيقة الموجودات، أو كما وصفها أرسطو بحثاً في الوجود بما هو كذلك لأجل الكشف عن علله البعيدة. وكان هذا الكشف عن الحقيقة مطلوباً لإشباع رغبة الإنسان الباطنية آنذاك في أن يعرف ، وأن يفض أسرار الكون من حوله. وكان اليونان يعتبرون إشباع هذه الرغبة إلي المعرفة أسمى درجات السعادة. لذلك اعتبر أرسطو الحياة العقلية غاية في ذاتها ، وأنه بالتأمل الدائم والنظر العقلي الخالص تتحقق للإنسان سعادة ليس وراءها سعادة.[1] 

   وبعد أرسطو تغيرت وظيفة الفلسفة الخاصة عند اليونان تحت ضغط قسوة الحياة والظروف السياسية والاجتماعية القاسية إلي عملية السعي إلي تحقيق كمال الحياة الخلقية بوجه عام، أي تخلت الفلسفة في هذا العصر عن وظيفتها النظرية ، وتحولت تحولاً كاملاً إلي الناحية العملية. أما في العصور الوسطي (الإسلامية والمسيحية على السواء) فقد أصبحت وظيفة الفلسفة التوفيق بين العقل والنقل ، أو بين الحكمة والشريعة من أجل تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة. فعلى سبيل المثال رأي أبو نصر الفارابي في كتابه "التنبيه على سبيل السعادة" أن السعادة وهي الخير المطلوب لذاته تتحقق بالبحث والدراسة والنظر العقلي ، يقول " لما كانت السعادة إنما ننالها متى كانت لنا الأشياء الجميلة قنية (مملوكة) ، وكانت الأشياء الجميلة إنما تصير قنية بصناعة الفلسفة ، فلزم ضرورة أن تكون الفلسفة هي التي تنال بها السعادة." وبالنظر العقلي يبلغ الفيلسوف درجة الفيض والإلهام ، ويتقبل النوار الإلهية."[2] أما وظيفتها في العصور الحديثة فقد أضحت خدمة الحياة العملية ، كما هو واضح عند رواد الفكر الحديث ومن تلاهم ممن رأوا أن غاية الفلسفة المباشرة هي الكشف عن الحقائق ، وغايتها البعيدة هي الإفادة من هذه الحقائق في دنيا العمل.[3]

    لقد اشترك العقليون مع التجريبيين ـ رغم الخلاف التقليدي بينهما ـ في العصور الحديثة في الرغبة على ربط الفلسفة بالحياة العملية. فقد نادى ديكارت في كتابه "مقال عن المنهج" بضرورة الاستعاضة عن الفلسفة النظرية التي تعلم في المدارس بالكشف عن طريقة عملية تمكننا متى عرفنا في دقة قوة النار والماء والهواء والسماوات .. تمكننا هذه الطريقة العملية من أن نستخدم هذه المعرفة في كل المجالات التي تصلح لها ، حتى نسود الطبيعة ونتحكم في مواردها. بل ويصرح بأن وظيفة الفلسفة الرئيسية تحصيل علم كامل بكل ما يمكن العلم به . ويقول في كتابه "مبادئ الفلسفة" إن غرض الفلسفة هداية سلوك الإنسان في حياته والمحافظة على صحته وكشف الفنون. لقد اُعتبرت المعرفة في التفكير الأوربي والأمريكي منذ القرن التاسع عشر أداة للعمل ليس ألا. هكذا كانت وظيفة الفلسفة لدي الوضعيين البرجماتيين والماركسيين والوجوديين وغيرهم. ومن ثم فإذا كان المحدثون قد حرروا العقل من قيود العقيدة الدينية التي ناء بخدمتها في العصور الحديثة ، فقد قيدوه بمطالب الحياة الدنيوية ومقتضياتها. وأصبح العلم وسيلة لغاية هي العمل والنفع بأوسع معانيه.[4]    

    أما فيما يتعلق بالوظيفة العامة للفلسفة والتي تؤديها في كل العصور وفي كل البيئات ، فيمكن القول بأن هناك عدة وظائف عامة تضطلع بها الفلسفة تجاه كل من الفرد والمجتمع . فلم تكن الفلسفة في يوم من الأيام ضرباً من اللغو ، أو وسيلة للهو والعبث ، بل كانت تلعب دوراً كبيراً وعظيماً في تنوير المجتمع والنهوض به مما من الممكن أن يكون قد حل به من عثرات، كما كانت أداة لغرس روح الحرية والتفتح والثقة في نفوس الأفراد. وكم كان "هيجل" عندما قال "إن الفلسفة هي عصرها معبر عنه بالأفكار." وقال "برهييه" الفلسفة في جوهرها اعتراض قائم باستمرار من قبل الروح الإنسانية ضد كل محاولة آلية يراد بها إدماج الوجود البشري في دائرة مغلقة من التنظيمات الصناعية والأجهزة المادية والتحديات الموضوعية.[5] ومن الممكن أن نجمل الوظائف التي تؤديها الفلسفة للفرد فيما يلي:

1-  أنها تربي في الفرد النزعة العقلية الواعية والناقدة ، وتبعده عن النزعة العاطفية . فهي تعمل على تشكيل عقل الفرد فيصير قادراً على التفكير الناقد الحر المستقل ، وهو التفكير الذي لا يقبل معرفة أو حكماً إلا بعد بحث وتمحيص ، وبذلك يكون الفرد في مأمن من الأحكام المتسرعة ، ويتحرر من الأحكام المسبقة والعادات الفكرية البالية ، ويسعى إلي الشك ليصل إلي اليقين. ومن ثم تحرر الفلسفة العقل من قيوده ، وتخلصه من الخضوع لأي سلطة . ثم بعد ذلك تغرس فيه الروح النقدية ، فلا يأخذ الأقوال والآراء علي أنها مسلمات بل لابد أن يقف منها موقف تشكك من أجل أن يصل إلي اليقين بعد تمحيصها.[6]

2-  أنها تصبغ الفرد بصبغة فلسفية فيصبح قادراً على التفكير الكلي ، والنظر إلي الوجود ككل والتأمل فيه، ومن ثم تشبع حاجة طبيعية في نفوس البشر وتغريهم بحب الاستطلاع.

3-  أنها تعود الإنسان على التفكير المنهجي القائم على منهج علمي فيبعد بذلك عن القرارات الجاهلة والأحكام العشوائية. ومن هناك قال "ديكارت" : إن المرء الذي يحيا دون تفلسف لهو حقاً كمن يظل مغمضاً عينيه لا يحاول أن يفتحهما." وقال أيضا "إن الحكمة هي القوت الصحيح للعقول ، فإن الذهن هو أهم جزء فينا ،وطلب الحكمة لابد بالضرورة أن يكون همنا الأول." وعبر رسل أيضا عن هذه الوظيفة للفلسفة في قوله "وحتى إذا لم تستطع الفلسفة أن تجيب على كل ما نود أن نوجهه من الأسئلة، فإن لديها على الأقل القدرة على وضع الأسئلة التي تزيد من مساحة اهتمامنا بالعالم ، والتي تبين الغرابة والعجب اللذين يقعان وراء ظاهر الأشياء مباشرة حتى في أكثر الأشياء شيوعاً في حياتنا."[7]

4-  أنها تزودنا بروح الدقة والتحديد والصرامة ، فهي تعلمنا الدقة في استخدام المصطلحات ، ومراعاة التسلسل المنطقي في تنظيم الأفكار والالتزام بقواعد البحث العلمي في التفكير.

5-  إنها تغرس فينا حب المعرفة والسعي الدائم إلي معرفة الحقائق حتى نصل إلي المبادئ الأولي أو العلل الأولي وحقيقة الأشياء. وبهذا نستطيع أن نتعقل العالم الذي نعيش فيه ، ونحاول فهم مبادئه وغاياته ، ومن ثم نستطيع أن نحدد مكاننا من الوجود. يقول ديكارت " دراسة الفلسفة لازمة لإصلاح أخلاقنا وهداية سلوكنا في الحياة ، وإذا كانت البهائم العجماوات التي لا هم لها إلا حفظ جسومها ، لا تكل عن الدأب والسعي في طلب أقواتها، فإننا نحن البشر الذين يكون أهم جزء فينا هو الذهن يجب علينا أن نجعل طلب الحكمة همنا الأكبر ، لأن الحكمة هي القوت الصحيح للعقول."[8]

6-  أنها تعلمنا الشجاعة ، لأن الشجاعة شرط أول من شروط التفكير الحر. إن الفلسفة ـ بعكس ما وقع في ظن هيجل ـ لا تريد أن تلتمس حلاً لسائر أحاجي الوجود ، كما أنها لا تزعم لنفسها القدرة على حل شتى مشكلات التاريخ البشري والفكر الإنساني ، وإنما تتميز بأنها جهد يراد من ورائه الكشف عما في الإنسان من عنصر أصيل لا يتوقف على التاريخ ولا على النظام الموضوعي للأشياء . فالفلسفة لا تقدم لنا مفتاح الوجود ، ولا هي تروي لنا قصة المطلق ، بل هي تظهرنا على أن الإنسان يند بحريته عن التاريخ ، وتبين لنا بالتالي أنه ليس للتاريخ على الإنسان سائر الحقوق.[9]

7-  توضح لنا الحقائق خاصة تلك الحقائق الكبرى التي يتطلع العقل الإنساني إلي معرفتها ، ولا يستطيع العلم أن يدلي بدلوه فيها. إنها تزود العقل بالقدرة على إثارة التساؤلات التي تفتح المجال للتوصل إلي معلومات ومعارف جديدة ، كما أنها لا تقنع بالوقوف عند الظواهر وتدفع إلي البحث عن حقائقها وبواطنها.

8-  دعم الإيمان في نفوس البشر ، وتأكيد الحقائق الدينية ، ومن أمثلة ذلك فلاسفة العصور الوسطي في الغرب ،والمتكلمون في العالم الإسلامي قدموا الأدلة العقلية التي تؤكد الحقائق الدينية التي جاء بها الوحي، وذلك لدعم الإيمان وتثبيته في النفوس من ناحية ، والدفاع عن هذه العقائد في وجه خصومها من ناحية أخرى.[10]

9-  تستثير إحساسنا بالقيم ـ قيم الحق والخير والجمال ـ وبذلك تبعدنا عن الجفاء والغلظة ، كما أنها تعمل على تنمية الجوار الفكري بين الإنسان وأخيه الإنسان دون تحزب أو تعصب أو استبداد بالرأي.[11]

10- وأخيراً هداية الإنسان في تدبير حياته ، وتحقيق رفاهية البشر وسعادتهم ، وهذا ما نفهمه من قول ديكارت "لا يُقصد من الحكمة التحوط في تدبير الأمور فحسب ، بل يُقصد بها المعرفة الكاملة بكل ما يستطيع المرء معرفته ، إما لتدبير حياته ، أو لحفظ صحته ، أو لاستكشاف الفنون جميعا."[12] إنه إذا كان لكل إنسان فلسفته طالما أنها وجهة نظر في الحياة ، فإنها تلون حياة الفرد وتؤثر في اتجاهه نحو كل شيء ، فهي التي تدفع الفرد نحو تبني قيم معينة وأهداف معينة ، كما تدفعه إلي الاعتقاد باتجاهات خاصة في التفكير والسلوك وممارستها في الحياة. إنه لما كانت الفلسفة نظرة إجمالية في الكون ، واتجاه فكري عام نحو الحياة في مجموعها ، فإن هذه النظرة ، وهذا الاتجاه الفكري يؤثر بطبيعة الحال في تصرفاتنا اليومية ، وفي معالجتنا للحوادث التي تمر بنا ، وبمقتضاها نسير في أعمالنا ، ونواجه النظم الطبيعية والاجتماعية التي تحيط بنا ، وتحدد ميولنا نحوها وتصرفاتنا تجاهها.[13]         

    والخلاصة أن الفلسفة تعطي للفرد معنى للحياة ، وتوسع مجالات تفكيره وأفقه ، وتساعده على التعمق في التفكير ، وتكسبه القدرة على النقد الهادف ، وتعوده الشك طلباً لليقين ، وتحرره من ربقة التقاليد ، وتجعله يؤمن بالعقل في كل مجالات الحياة مثل : مجال المعرفة ، ومجال اختيار السلوك والأفعال وتجعله دائب المعرفة والتساؤل. أي تساعده على أن يعيش في انسجام مع نفسه ، وفي انسجام مع قيمه وقيم المجتمع.

    أما الوظيفة العامة التي تؤديها الفلسفة للمجتمع الذي تظهر فيه فمن الممكن إجمالها فيما يلي: 

1-  أنها تعمل على إصلاح المجتمع ، بل وعلي تغييره وتطوير الحياة فيه ، وذلك تبعاً لمبادئ وقيم فلسفية راقية، اعتماداً على منهج النقد والتحليل. أي أنها تحاول أن تعالج المجتمع الذي تظهر فيه من أمراضه ، وأن تسد جوانب النقص والعجز فيه. إن الفلسفة تقوم بعبء التوجيه المستنير إلي عالم أفضل وحياة أكرم واسعد. إنها بلا شك تقف وراء الكثير من النهضات الاجتماعية والعلمية. وهذه تسمى الوظيفة التحليلية للفلسفة. إذ أن أول مهام الفيلسوف هي تحليل قضايا الواقع الذي يعيش فيه ، ويحلل مدى صلاحية المناهج الفكرية السائدة في معالجة قضايا ومشكلات الإنسان ، فضلا عن أنه يدرس إمكانية الوصول إلي الحل الأمثل لهذه القضايا وتلك المشكلات من وجهة نظره.[14] وهذا ما أكد عليه قول ديكارت في كتابه "مبادئ الفلسفة" عندما قال "إن الفلسفة وحدها التي تميزنا عن الأقوام المتوحشين والهمجيين ، وإنما تقاس حضارة الأمم بمقدار شيوع التفلسف الصحيح فيها، ولذلك فإن أجل نعمة ينعم الله بها على بلد هي أن يهبه فلاسفة حقيقيين."[15] ومن الممكن التأكيد بلا تردد على أنه ما من ثورة اجتماعية أو دينية أو سياسية أو غيرها إلا وكان وراءها فلسفة، ولو لم يقصد إلي الثورة أصحاب هذه الفلسفة ، بل ولو لم يكن القائمون بالثورة من المشتغلين بالفلسفة مذاهبها.[16]والواقع أن قيام الفلسفة بتغيير الواقع وتطويره أمر نابع من طبيعتها. فهي تصر على أن أفكار الناس وأفعالهم وغاياتهم لا يصح أن تكون وليدة الضرورة العمياء. كما تحث الناس باستمرار على نقدها وتوضيحها وتجاوزها بالسؤال. هي لا ترضى أن تسلم بشيء بغير نقد ، لا بالأفكار العلمية ، ولا أشكال الحياة الاجتماعية ، ولا بالقيم السائدة ولا التقاليد المستقرة. ولو تخلت عن النقد لتخلت عن روحها ولم يبق منها إلا جسد ميت تتقاذفه كالكرة الصماء أقدام الطغاة والسلطات والأيديولوجيات. وكل الفلسفات كانت تحمل في داخلها بذور النقد للواقع المعاصر حتى وإن بدت فلسفات محافظة. إن أعدى أعداء الفلسفة هو "العادة" التي يسلم بها الناس بغير نقد ، فهي تحارب التقليد الأعمى، وتقاوم الاستسلام واليأس تجاه القضايا الحاسمة للوجود. ألقيت على عاتقها "الأمانة" الصعبة : تسليط أنوار الوعي على أشكال التفكير والعقل والسلوك التي تبدو في ظاهرها طبيعية.[17]   

2-  نقد القيم البالية التي ثبت عدم صلاحيتها للحياة الاجتماعية ، والهجوم على المبادئ الفاسدة التي أدت إلي جمود المجتمع وتخلفه ، وتفاقم المشكلات فيه. إنها تساهم بدور فعال في تقديم الرؤى والقيم والأهداف ، وتواجه التحديات الملقاة على عاتق المجتمعات مواجهة نقدية وبناءه ، واقتراح حلول مقنعة لا مطلقة لمشكلاتها الواقعية، حتى قيل إن الفلسفة أداة رفض ووسيلة نقد ، وأن وظيفتها الحقة هي نقد الواقع وتحليله.[18]  

3-  غرس وتدعيم قيم جديدة ومبادئ راقية عظيمة سواء كانت اجتماعية أو خلقية أو سياسية أو اقتصادية .. الخ.و يطلق على هذه الوظيفة وظيفة التركيب . إذ أن الفيلسوف بعد أن يدرس واقعه الفكري ، وعلاقته بواقع الإنسان في حياته اليومية ، وينتقد الصور السلبية ، يبدأ في نشاطه التركيبي ، حيث يبحث عن اشمل وأدق رأي ممكن بشأن طبيعة الواقع ومعنى الحياة وهدفها، وهو يستهدف من هذا النشاط التركيبي تقديم صورة متكاملة عن الكون.[19]

 

4-  تعمل على المحافظة على المجتمع ، من خلال العمل علي استمرار وجوده ، وذلك بالدفاع عن القيم الأساسية التي يتمسك بها المجتمع والتي تحافظ على تراثه ، وتعمل على استمرار وجوده. وقد أكد أرسطو على هذه الوظيفة للفلسفة عندما قال في كتابه "دعوة للفلسفة " "يجب علينا أن نسعى إلي معرفة تعيننا على استخدام كل هذه الأدوات على الوجه الصحيح ، وعلى تطبيقها بطريقة ملائمة . يجب علينا أن نصبح فلاسفة إذا أردنا أن نصرف شئون الدولة بصورة صحيحة ، ونشكل حياتنا الخاصة بطريقة نافعة، ... لأن الفلسفة هي الوحيدة التي توصل إلي النوع الوحيد من المعرفة الذي يتوصل إلي الحكم الصحيح ، ويستخدم العقل ، ويضع الخير في مجموعه نصب عينيه، إنها التي تستطيع أن تنتفع بسائر أنواع المعرفة وتوجهها وفق قوانين الطبيعة. ذلك أن الفلسفة وحدها تنطوي على الحكم والتبصر المعصوم الذي يملك القدرة على تحديد ما ينبغي علينا أن نأتي من الأفعال وأن ندع." [20]

 

5-  أنها تساهم في تقدم العلم وذلك بتقييم المناهج العلمية ومنطق العلوم. يكفي القول بأن نظريات الذرة المفسرة لتركيب المادة إنما ترجع في أصلها إلي "اينشتاين" وهو عالم وفيلسوف ، (فقد أضاف بعداً جديداً في تفسيره لأبعاد المكان هو البعد الزماني) وكذلك نجد شخصاً مثل برتراند راسل وهو عالم رياضي كبير يشتغل بالفلسفة ويربط بينها وبين العلم ، ويرى أنه ما من مشكلة علمية أو اجتماعية أو اقتصادية إلا ولها اتصال وثيق بالفلسفة.[21] لقد أكد أرسطو على أن الفلسفة ضرورة لا غنى عنها لأنها الوحيدة التي من الممكن أن تمدنا بالمعيار الأمثل الذي من خلاله نحسن الحكم على كل ما يصادفنا من أشياء في الواقع وفقاً للطبيعة. وهو معيار يحتاج إليه كل فرد في المجتمع مهما كان موقعه . ولا سبيل لإنسان لم يهب حياته للفلسفة ولم يعرف الحقيقة أن يتوصل إلي هذا المعيار.... إن الفيلسوف هو وحده من بين العاملين جميعا الذي يتصف بثبات قوانينه ونبلها. وذلك لأنه الوحيد الذي يحيا وبصره مثبت على الطبيعة وعلى كل ما هو إلهي. إنه يشبه الملاح الجيد الذي يرسي سفينة حياته عند ما هو ابدي ودائم ،هناك يلقى مرساته ويحيا سيد نفسه.[22]

 

6-  كما تقوم الفلسفة بوظيفة التنسيق بين جوانب ثقافة المجتمع الواحد وتراثه ، وفي هذه العملية تحاول الفلسفة التوفيق والربط بين القيم القديمة واتجاهاتها ، والقيم والاتجاهات الجديدة ، أي تعمل على تطوير القديم حتى يلائم الأوضاع الجديدة، كما تحاول أن تكيف القيم الجديدة لتتوافق مع هوية المجتمع وطبيعته. ومن ثم يمكن القول بأن فهمنا للتيارات الفكرية والأيديولوجيات المنتشرة في العالم شرقه وغربه يعتمد ـ في المقام الأول ـ على فهم الأفكار الفلسفية التي تشكل الأساس الذي تقوم عليه هذه التيارات وتلك الأيديولوجيات. فإذا أردنا أن نتابع التطور الفكري القائم فعلينا بالفلسفة . فضلا عن أنها تعمل باستمرار على الوصول بالإنسانية إلي المستوى الأمثل ، وذلك عن طريق التطوير الدائم للأفكار والأنساق الفلسفية، والربط بين الفكرة وتطبيقها .[23]  

7-  تقوى الفلسفة النزعة الإنسانية ، والدفاع عن حقوق الإنسان في الحرية والعدل والمساواة ، ونشر المحبة والصداقة بين الشعوب ، والدعوة إلي السلام الدولي على أساس من الحق والاحترام.[24] 

والخلاصة أن التفكير الفلسفي هو نشاط فكري يراه البعض أنه نشأ استجابة للحاجة إلي إيجاد تكامل في السلوك الاجتماعي واستعادة التوازن بين جوانب الحياة الاجتماعية. فليس من الصواب إذن وصم الفلاسفة بأنهم إنعزاليون لا يهتمون بمشكلات الواقع ، ولا يحاولون الإسهام في حلها، لأن الفلسفة في حقيقة الأمر هي فكر المجتمع مركزاً في مذاهب. والمذهب الفلسفي في حقيقة الأمر هو مركز للانتشار الحضاري عند شعب معين لأن الحضارة تقوم على الفكر أولا ثم يأتي العمل في المرتبة التالية. والفيلسوف هو الذي يدفع عجلة التقدم في المجتمع بالأفكار التي يعرضها. وهو الذي يخلق تيارات جديدة في عصره ، وفيما يليه من عصور.[25] والأمثلة على ذلك كثيرة. فمعظم الحضارات قديماً وحديثاً قامت على أكتاف مذاهب فلسفية. فنهضة الأمم الأوربية الحديثة منذ القرن السادس عشر حتى عصرنا الراهن قامت على أفكار ديكارت ومن بعد أفكار فلاسفة عصر التنوير الفرنسي من أمثال جان جاك روسو وفولتير وغيرهما . والحضارة الأمريكية التي تتسيد السيطرة على العالم اليوم قامت على أفكار وتصورات المذهب البرجماتي العملي. والحضارة العظيمة الصينية قديما وحديثاً قامت على مذاهب فلسفية متنوعة كما نعلم.

   إن الفيلسوف في رؤيته الفلسفية يحاول أن يقدم خلاصة ثقافة عصره كله ، فضلا عن أنه يحاول استشراف أفاق المستقبل بتقديم رؤيته حول ما ينبغي أن يكون عليه الحال في كافة القضايا التي تشغله وتشغل معاصريه. إنه ابن عصره يعيش كافة قضايا مجتمعه الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ويعبر عنها، وإذا كان ينتهي إلي تقديم رؤياه حول ما ينبغي أن يكون عليه الحال، فإن ذلك يكون من خلال هذه المعايشة للواقع الذي يحيا فيه. فدائماً ما تساير الفلسفة مشكلات العصر وتتجدد معها ، وكانت دائماً مرآة تعكس تعقد وتجدد مشكلات كل عصر . وكان الفلاسفة دائما يحاولون الارتقاء بالإنسان إلي الأفضل عبر تحليلاتهم النقدية للمشكلات القائمة ومحاولة وضع الحلول الشاملة لها.[26]

 



[1] - د/ توفيق الطويل : أسس الفلسفة ، ص 116.

[2] - المرجع نفسه ، ص 119.

[3] - د/ محفوظ علي عزام: المرجع السابق ، ص 37.

[4] - د/ توفيق الطويل: المرجع السابق ، ص 125- ص 127.

[5] - د/ زكريا إبراهيم : مشكلة الفلسفة، ص 59.

[6] - د/ عبد المقصود عبد الغني : المرجع السابق ، ص 57.

[7] - د/ محمد عبد الله الشرقاوي : المرجع السابق ، 123.

[8] - د/ محمود حمدي زقزوق : المرجع السابق ، ص 32.

[9] - د/ زكريا إبراهيم : المرجع السابق ، ص 62.

[10] - د/ عبد المقصود عبد الغني : المرجع السابق ، ص 58.

[11] - د/ محفوظ علي عزام: المرجع السابق ، ص 39 – ص 40.

[12] - د/ عبد المقصود عبد الغني : المرجع السابق ، ص 58.

[13] - د/ محمود حمدي زقزوق: المرجع السابق ، ص 17.

[14] - د/ مصطفى النشار : المرجع السابق، ص 28.

[15] - د/ محمد عبد الله الشرقاوي : المرجع السابق ، ص 122.

[16] - د/ توفيق الطويل : المرجع السابق ، ص 129.

[17] - د/ عبد الغفار مكاوي : المرجع السابق ، ص 49.

[18] - د/ محفوظ علي عزام: المرجع السابق ، ص40.

[19] - د/ مصطفى النشار : المرجع السابق ، ص 28.

[20] - أرسطو : دعوة للفلسفة "بروتر يبتيقوس" ترجمة د/ عبد الغفار مكاوي ، الهيئة العامة للكتاب، القاهرة ، 1987، ب8- ب9، ص 32. 

[21] - د/ محمد علي أبو ريان : المرجع السابق ، ص 18.

[22] - أرسطو : المرجع السابق / ب 47- ب50، ص 48 ـ ص 49.

[23] - د/ محمود حمدي زقزوق: المرجع السابق ، ص 36.

[24] - د/ عبد المقصود عبد الغني : المرجع السابق ، ص 60.

[25] - د/ محمد علي أبو ريان: المرجع السابق ، ص 15.

[26] - د/ مصطفى النشار : المرجع السابق ، ص 29 – ص 32.

  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 11553 مشاهدة
نشرت فى 23 سبتمبر 2011 بواسطة MahmoudMorad

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

47,684