دائما ما كانت الفلسفة تثير جدلاً كبيراً إن لم نقل صراعاً مريراً بين معاصريها على مدى عصورها المختلفة بين مناصر لها حتى الثُمالة ، وبين خصم لدود لها بلا هوادة . وكم دفعت الفلسفة ـ ودفع الفلاسفة أنفسهم معها ـ ثمناً باهظاً في هذا الصراع. فمنهم من دفع راحته وثروته وصحته فداء لها ، ومنهم من دفع حتى حياته من أجل الدفاع عن المبادئ والفلسفة التي أمن بها. فلم تخلو تواريخ الفلسفة القديمة والوسطي بل والحديثة من شهداء استشهدوا في سبيل آرائهم  ومعتقداتهم الفلسفية . فمن منا من الممكن أن ينسى شهيد الفلسفة الأول سقراط الذي حكم عليه بالإعدام بسبب فلسفته التي أزعجت الديمقراطية الأثينية في القرن الخامس قبل الميلاد ؟ وعندما خيروه في المحاكمة بين الإعدام وبين التخلي عن أفكاره آثر الأولي على الثانية بلا أدنى تردد أو ندم. وكما أنه لا أحد منا من الممكن أن ينسى سقراط ولا غيره من الفلاسفة الرجال الآخرين الذين تعرضوا للاضطهاد والسجن والتعذيب وحرق المؤلفات أو النفي وربما الموت من أجل التنازل عن آرائهم فأبوا التنازل عما يؤمنون به من أفكار، فإنه لا أحد من الممكن أن ينسى أيضا أول شهيدة ضحت بحياتها في سبيل الدفاع عن فكرها وفلسفتها وهي "هيباثيا" الفيلسوفة السكندرية والتي قتلتها قوى التعصب والتخلف بشكل لا إنساني يندي له جبين الإنسانية .

 

   ظهرت في العصور القديمة العديد من القوى التي هاجمت الفلسفة ، ونادت بإسقاطها من الوجود ، وكثيراً ما كانت تكيل الاتهامات إلي أصحابها ، وربما كانت قوة هذه القوى المعادية هي التي جعلت أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد يدون كتابه العظيم "دعوة إلي الفلسفة" أو "في الدفاع عن الفلسفة" وأن يحذو يامبليخوس حذوه فيؤلف كتاباً بنفس العنوان أيضا . ولا تزال الفلسفة إلي يومنا هذا تثير جدلاً كبيراً بين الناس، ربما تثير أكثر من ذلك الجدل الذي أثارته في العصور الماضية وادي إلي استشهاد بعض رجالها في عصورها المختلفة فداءً لها ودفاعاً عن حياضها. والغريب في الأمر أن الفلسفة كلما اشتدت القوي المعارضة لها ، كلما قويت هي في الدفاع وانبعثت في عروقها عصارة الحياة والخلود. فلا الفلسفة قد انتهت وانهارت ولا القوى المعارضة لها سكتت وانزوت بعيداً. وكأنه قد قُدر على الفلسفة أن تأخذ الحجارة التي يقذفها بها الخصوم لتبني بها صروح مجدها ورفعتها على مر القرون. فلا تزال الفلسفة حتى عصرنا الحاضر يتم رميها بتهم عديدة ، فلا زلنا نسمع حتى اليوم أن هناك من يتهم الفلسفة بأنها تؤدي إلي الجنون ، أو أن الاشتغال بها كفر وإلحاد، أو يتهمها بأنها عديمة الجدوى ولا طائل منها لأنها تؤدي إلي تعقيد المشكلات أكثر مما تساهم في حلها!!

 

     وأمام كل هذا الجدال المرير بين الفلسفة وبين معارضيها آثرنا أن نعرض للرد على تلك الهجمات التي كانت تتعرض لها الفلسفة منذ القدم واشتدت قوتها في وقتنا الراهن بسبب ما حققه العلم من انتصارات باهرة امتدت أثارها إلي شتى جوانب المعمورة من جانب ، وقوة الحركات الرجعية اليمينية المتطرفة من ناحية أخرى.

     دائما ما تُتهم بها الفلسفة في معظم عصورهابالاتهامات التالية:.

     وأول هذه الاتهامات أن الفلسفة تتهم بأنها مبتورة الصلة بالواقع المعاش ، وأن الفيلسوف يعيش دائما منعزلاً في برجه العاجي بعيداً عن الناس وعن المجتمع ، غير مبالي بأية مشكلات تدور حوله. وهو اتهام باطل في أساسه، ويشهد على بطلانه تلك الوظائف السابق الحديث عنها والتي تؤديها الفلسفة للمجتمع. فليست الفلسفة مجرد تأمل يستغرق صاحبه وهو في عزلة عن ضجيج الحياة وزحمة الدنيا . لأنه لم يعد في الإمكان أن ينسحب أحد من دنيا الأعمال. إنما تُكتسب فلسفتنا بدراسة دقيقة للوجود والإنسان ومكانه من الوجود . ونستغل فلسفتنا في الترقي بمستوى تجاربنا وتصحيح نظراتنا إلي الحياة دون أن نقنع بالتطلع إلي وجوه النشاط . إن الفلسفة هي التي تمكننا من أن نشرف من علٍ على الأهداف البعيدة التي تجاهد البشرية من أجلها، وتحفزنا على أن نساهم في تحقيقها ما استطعنا إلي ذلك سبيلاً. لذلك قال برتراند راسل "إن الفلسفة تحررنا من جور الأحكام السريعة المبتسرة Prejudices وتعصمنا من الالتواء الذي ينشأ عن ضيق النظرة .. إن العلم ينبئنا بما نستطيع أن نعرفه ، وما نستطيع معرفته ضئيل محدود .. ولعل تعليم الإنسان كيف يحيا بغير يقين ، ومع ذلك دون أن يشله التردد ، هو أعظم شيء لا تزال الفلسفة تعلمه لدارسيها حتى يومنا الراهن."[1]

 

   إنه لما كانت الفلسفة في صميمها ـ كما سبق أن رأينا في الفصل الثاني من هذا الكتاب ـ تساؤل دائم عن معنى الحياة الإنسانية، وسعي دائب من أجل تفهم حقيقة المصير البشري . فإنه يمكن القول بأن الفلسفة ما انفصلت في يوم من الأيام عن الواقع ولا المجتمع الذي تظهر فيه. وحسبنا أن نرجع إلي أكثر الفلسفات تجريداً ، لكي نتحقق من أن ثمة نفحة إنسانية تشيع فيها ، فتكشف لنا عن انشغال أصحابها بمعنى الحياة ، واهتمامهم بغاية المصير. ولئن كان بعض الفلاسفة من أمثال أرسطو والأكويني لم يحاولا يوماً  أن يصفوا لنا تجاربهم الشخصية، أو يربطوا فلسفتهم بمواقفه الخاصة في الحياة ، فإننا نستطيع أن نستشف من وراء أكثر نصوصهم جفافاً ، روحاً إنسانية تنبض بالقلق والجزع واللهفة . فليس الفلاسفة عقولاً محضة أو موجودات مجردة تحيا خارج الزمان، وتندرج بفلسفتها في عالم الأبدية ، بل هم مخلوقات حية من دم ولحم ، فليس في وسع الواحد منهم أن يتفلسف إلا هنا والآن.[2]

   صحيح أن الفيلسوف يكون بحاجة إلي "خلوة فكرية" يبتعد فيها عن الحياة اليومية الدراجة لكي يستطيع أن يتمثل العالم الخارجي مضيفاً عليه نظرة كلية، فإننا يجب أن نقف خارج الشيء لكي نحس الحكم عليه . لكن هذا لا يجب تفسيره على أنه انعزال عن الحياة. فهو ليس انعزالاً حقيقاً ، ولا حتى دائما ، بل مجرد تصفية مؤقتة للذهن الذي ينشد الوضوح ، لكي يمارس التفكير في جو بعيد عن صخب الحياة وضوضائه. وعندما يصل إلي هذا الوضوح سرعان ما يؤب مرة أخرى إلي خضم الحياة محاولاً صياغتها صياغة جديدة بإلقاء الضوء على طريق الحياة ليهدي الحائرين في دروبه. لابد للفيلسوف من هذه العزلة المؤقتة ، وهي ليست أبداً هدفاً في ذاتها ، وإنما هي فقط مجرد وسيلة يستعين بها الفيلسوف على أداء واجبه ، وبلوغ هدفه من التفلسف.[3]

 

   إنه لا يكفي ـ كما يقول موريس بلوندل M.Blondel ـ أن نأتي بالإنسان إلي مدرسة الفلسفة ، بل لابد لنا أيضا أن نأتي بالفيلسوف إلي مدرسة الإنسان. وما دام على الفيلسوف أن يحيا وينمو باعتباره إنساناً ، فإنه لابد لحياته الإنسانية من أن تدخل في صميم فلسفته بوصفها جزءاً لا يتجزأ من تلك الفلسفة. والواقع أننا لو سلمنا بأن الحياة العملية نفسها هي مصدر خصب من مصادر المعرفة ، لكان علينا أن نقيم فلسفتنا على الفعل Action بما فيه من ثراء روحي وديناميكية فعالة. وتبعاً لذلك على الفيلسوف أن يساير الحياة البشرية في حركتها المستمرة وموجاتها المتلاحقة ، حتى يقف على تلك القوى الروحية الفعالة التي تعمل عملها في صميم الإرادة الإنسانية.[4] إن الفلسفة والفيلسوف لم يكونا منفصلين يوماً عن الواقع المعاش ، لأن الفيلسوف دائماً ابن عصره ، يعيش كافة قضايا مجتمعه الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ويعبر عنها. وإذا كان ينتهي إلي تقديم رؤياه حول ما ينبغي أن يكون عليه الحال ، فإن ذلك يكون من خلال هذه المعايشة للواقع الذي يحيا فيه. وليس أدل على ذلك من أن القضايا الأساسية التي يعالجها الفلاسفة تختلف من عصر لأخر حسبما يستجد في هذا العصر أو ذلك من متغيرات ومشكلات تتطلب الدرس وتقديم الحلول. وإذا كان العلماء يقدمون الحلول الجزئية كل في ميدان تخصصه ، فإن الفلاسفة يقدمون الرؤية المستقبلية الشاملة التي يتحرك في إطارها وعلى هداها هؤلاء العلماء.[5]

 

    إن الفلسفة مهما اختلفت تعريفاتها هي في النهاية وعي عصرها ، أو عصرها معبراً عنه بالأفكار كما قال هيجل . وهي دائما في قلب الواقع ، والواقع دائماً في قلبها . وإذا كانت علاقة التوتر بينها وبين الواقع لا تبلغ دائماً حد الثورة عليه ، فإن مجرد النظر الكلي الحر إليه ، ووضع تصوراته وقيمه ونظمه ومعتقداته السائدة موضع التحليل ، إنما يدل على رفض التسليم به تسليماً أعمي .[6]لم تقطع الفلسفة صلتها يوماً بالحياة، فقد حرص معظم المفكرين منذ بداية التفكير الفلسفي على إشباع حاجة الإنسانية إلي أخلاق عملية، إلي جانب اهتمامهم بإشباع حاجتها إلي النظر العقلي. وما دام العمل والنظر هما كواجهتي العملة ، أو ما دامت العلاقة بينهما هي كالعلاقة بين الصورة والمادة في فلسفة أرسطو ، فليس في وسع الفيلسوف أن يصرف النظر عن وجوده الشخصي لكي يحلق في سماء المجردات ، أو لكي ينشر أجنحته في مملكة الماهيات، وإنما لابد للفيلسوف من أن يتخذ من تجاربه الشخصية نقطة انطلاق. وأن يغوص في طيات وجوده الذاتي حتى يعثر في قراراته على نقطة ارتكازه. وليست فلسفة الوجوديين على فلسفة الأفكار ، وفلسفة الأشياء، سوى مجرد صدى لهذا الاهتمام السائد لدى مفكري القرن العشرين بتوثيق الصلة بين الفلسفة والحياة.[7]

 

     ثانياً: ومن الاتهامات التي توجه إلي الفلسفة أيضاً أنها عديمة الجدوى في الحياة العملية ، لأنها تعبير عن شيء غامض ، لا سبيل إلي فهمه ، ولا جدوى من الاشتغال به ، ومن ثم فإن الاشتغال بها جهد ضائع ، وإنهاك للفكر فيما لا طائل من ورائه. ولكن هذا السخط والنفور من الفلسفة والتفلسف إن دل على شيء فإنما يدل على عدم إدراك للفلسفة ، وجهل بقيمة المهمة التي تؤديها في المجتمع. وقد قال أزفلد كولبه "إن الأصوات التي نسمعها اليوم معلنة قرب انتهاء الفلسفة ، أو الزعم بأنها من الأمور التي لا نفع فيها إن هي إلا أصوات تصدر عن جهل بماهية الفلسفة ومعناها ورسالتها التي اضطلعت بها في عصورها المختلفة."[8] وثمة حقيقة يجب ذكرها في هذا المقام وهي: أن الذين يهاجمون الفلسفة فإن محاولتهم هذه ـ بالرغم من أنها موجهة ضد الفلسفة ـ هي أيضا نوع من التفلسف تثبت الفلسفة بدلاً من أن تقضي عليها. فالذي يرفض الفلسفة ـ كما فعل الغزالي مثلاً ـ أو ينكرها هو في حقيقة المر متفلسف ، لأنه لا ينطلق كم فراغ ، وإنما هو يحاول أن يجد له أرضاً صلبة يقف عليها ويطلق منها سهامه على الفلسفة . أي أنه يحاول بناء وجهة نظر مضادة (فلسفة بديلة) ويجتهد في أن تكون منطقية ومتينة ومستندة إلي أسس قوية ، وهذا يعني في النهاية أنه يتفلسف.[9] وهذا ما أكد عليه أرسطو نفسه في كتابه "دعوة للفلسفة" في المقولة التي صدرنا بها الكتاب من قبل.

 

ثالثاً : والاتهام الثالث الذي يوجه إلي الفلسفة اتهام شائع ومشهور تردد عبر عصور الفلسفة المختلفة ، وأعني به اتهامها بالصعوبة ، وأنها عسيرة على الفهم ومن العبث محاولة فهمها لأنها لا تقول كلاماً سهلاً. وهو اتهام لا يسري على كل الفلسفات وإنما على الفلسفات العقلية وحدها، ومن الممكن إرجاعه إلي عاملين: أن الفلسفة مثلها مثل أي علم أخر لها مفاتيحها الخاصة ، وبدون معرفة هذه المفاتيح فلن نستطيع أن نفهمها ، وهذه المفاتيح هي المصطلحات الفنية Terminology، وبعض الأفكار الأساسية. والثاني لأنها تحاول الارتفاع من المحسوس إلي اللامحسوس أو الفكر ، وهذا الارتفاع يحتاج من الإنسان إلي بذل جهد كبير.[10]  

رابعاً: تتهم الفلسفة أيضا بأنها مغرقة في التجريد الذي لا جدوى منه . وهو اتهام مبني على سوء فهم وخلط ، لأن موضوع الفلسفة ليس التجريد ، وإنما هو الحقيقة الواقعة في شمولها ، ولكن الفلسفة عندما تقوم بتحليل هذه الحقيقة الواقعة يتطلب ذلك استخدام مفاهيم مجردة. 

خامساً: من الاتهامات أيضاً الزعم بأنها ليست إلا أقوالاً متضاربة ومذاهب متعددة متناقضة يحاول كل منها تفنيد المذهب الأخر ، أو السابق عليه ، حتى صار تاريخ الفلسفة ساحة معارك هائلة بين أصحاب المذاهب الفلسفية. فسقراط وأفلاطون وأرسطو يفندون السفسطائية، وأرسطو يفند أفلاطون ، وكانط يفند ديكارت ... وهكذا. وفي ردنا على هذا الاتهام نقول إن تعدد المذاهب الفلسفية لا يدعو إلي العجب ، لأن المشكلات التي تتناولها الفلسفة مشكلات ذات طبيعة معينة ، تحتمل العديد من وجهات النظر مما يجعل من المستحيل حلها حلاً نهائياً،[11] لأن كل مذهب يتمسك بإحدى هذه الوجهات من النظر ويزعم أنها هي الصواب وغيرها هو الباطل. والدليل على أن كل الفلسفات ليست سوى وجهات نظر متباينة أن تفنيد الفلاسفة بعضهم لبعض يحدث دون أن تختفي الفلسفات السابقة في مذاهب الفكر اللاحقة، والذي يحدث ـ كما قال هيجل ـ هو أن المبدأ الأساسي في فلسفة ما ينزل إلي مرتبة ثانوية في فلسفة لاحقة. هذا فضلا أن هذا النقد والتفنيد يشكل جوهر الفلسفة نفسه، فهذه الحركة الديالكتيكية هي ماهية الفلسفة نفسها ، إن تسلسل الأفكار والمذاهب ليس إنكاراً للفلسفة، بل هو صميم الفلسفة نفسها. ومعنى هذا أن الفلاسفة قد كونوا الفلسفة وهم ينقدون ويفندون بعضهم بعضا.[12] 

سادساً: من الاتهامات الشائعة والمتواترة للفلسفة أيضا أن فيها خطراً على الدين وعلى العقائد الإيمانية ، وأنها كثيراً ما تؤدي دراستها إلي زعزعة الإيمان في النفوس ، وتبذر بذرة الشك والإلحاد. وهو اتهام توسعنا في عرضه وفي الرد عليه إبان حديثنا عن علاقة الفلسفة بالدين في الفصل الثاني من هذا الكتاب. لكن ما يكفي قوله هنا في الرد على هذا الاتهام أن الفلسفة تنشد في جوهرها الأصيل قيم الحق والخير والجمال ، وهذه القيم هي القيم التي نادت بها الأديان السماوية وأيدتها. وحتى إذا كان هناك بعض الفلاسفة ملحدين فمن الخطأ منطقياً أن نسحب الحكم الجزئي الذي يسري على فئة فقط على الجميع ونقول أن الفلسفة بجملتها تؤدي إلي الإلحاد.[13]   

 

وأخيراً تتهم الفلسفة بأنها لا تساوي العلم في اليقين ، بل تقود إلي البلبلة بما نشاهده من اختلاف المذاهب الفلسفية وتصارعها عبر العصور المختلفة ، ومن ثم فكل ما تقدمه لنا مجرد وجهات نظر في الواقع والحياة يقبلها البعض ويرفضها البعض الأخر. وبالتالي يجب الانصراف عنها إلي العلم . ونحن نرد على هذا الاتهام بقولنا : صحيح أن البعض ليظن أن العلم قد أصبح اليوم قادراً على حل مشكلة الإنسان ، ومن ثم فلم يعد هناك مبرر لقيام "فلسفة" تحاول منافسة العلم في هذا المضمار . ولكن هؤلاء ينسون أو يتناسون أن العلم يستبعد الإنسان أصلا من حسابه ، وكأن الطبيعة وقائع محضة خالصة لا أثر فيها للإنسان ، أو كأن الإنسان هو نفسه مجرد طبيعة!! إما الفلسفة فإنها هي التي تذكر العالم في كل حين بأنه ليس في وسع العلم أن يضرب صفحاً عن وجود الإنسان ، اللهم إذا أراد لنفسه أن يستحيل إلي مجرد سلسلة من الوقائع المحضة التي لا تنطوي على أية دلالة إنسانية . ولعل هذا ما عناه "هوسرل عندما قال "إن علوم الوقائع المحضة المجردة إنما تخرج لنا أناساً لا يرون إلا وقائع محضة مجردة."[14] ونرد عليه أيضا بما قاله برتراند راسل " لعل تعليم الإنسان كيف يحيا بغير يقين .. هو أعظم شيء لا تزال الفلسفة تعلمه لدارسيها حتى يومنا الراهن."[15]

    وعلى هذا يمكن القول بأن هذه الاتهامات كلها لا تثبت أمام المناقشة ، ومن ثم فهي لا تبرر ما يرمي إليه أصحابها من إبطال الفلسفة، وإهدار قيمتها وجدواها، ونستطيع أن نقول لهم إنكم تتفلسفون وأنتم تحاولون ذلك ، لأن إبطال الفلسفة يحتاج في حد ذاته إلي فلسفة. ونعتقد أنه يكفي في الرد على هذه الاتهامات أن نجيب على السؤال التالي: إذا كانت كل هذه الاتهامات باطلة فهل تستطيع أن تشير بإصبعك إلي وظيفة أو وظائف مهمة ومجدية من الممكن أن تلعبها الفلسفة في حياتنا؟؟       



[1] - د/ توفيق الطويل: المرجع السابق ، ص 138.

[2] - د/ زكريا إبراهيم: المرجع السابق ، ص 64.

[3] - د/ محمود حمدي زقزوق : المرجع السابق ،  ص 20.

[4] - د/ زكريا إبراهيم: المرجع السابق ، ص 65.

[5] - د/ مصطفى النشار : المرجع السابق ، ص 30.

[6] - د/ عبد الغفار مكاوي : لمَ الفلسفة، ص 47.

[7] - د/ زكريا إبراهيم: المرجع السابق ، ص 66.

[8] - د/ محمد حمدي زقزوق : المرجع السابق ، ص 13- ص14.

[9] - د/ محمود حمدي زقزوق : المرجع السابق ، ص 16.

[10] - د/ إمام عبد الفتاح : المرجع السابق ، ص 54.

[11] - د/ عبد المقصود عبد الغني: المرجع السابق ، ص 62.

[12] - د/ عبد المقصود عبد الغني: المرجع السابق ، ص64.

[13] - د/ عبد المقصود عبد الغني : المرجع السابق ، ص 71.

[14] - د/ زكريا إبراهيم : المرجع السابق ، ص 61.

[15] - د/ محمود حمدي زقزوق : المرجع السابق ، ص 34.

  • Currently 25/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
7 تصويتات / 2971 مشاهدة
نشرت فى 23 سبتمبر 2011 بواسطة MahmoudMorad

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

60,748