جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
قُدر للفلسفة أن تظل معشوقة دائما لملايين من الناس عبر عصور التاريخ المختلفة ، وقُدر على هؤلاء العشاق الهائمين أن يظلوا هكذا معلقين بهذه الفاتنة الساحرة طيلة هذه الآماد الطويلة دون كلل أو ملل .
هام في حبها الناس قديما وحديثا على السواء . وغابوا عن وعيهم ، بل وعن أنفسهم، وعن أقرب المقربين إلي قلوبهم صبابة بهذا المعشوقة الفاتنة . بل وحتى عندما حدث واتهمهم البعض بالجنون والهوس ، ما كان منهم إلا أن هزوا رؤوسهم تعجباً ، ومصمصوا شفاههم استغراباً من هؤلاء الجهلة الذين يعيبون عليهم هذا الغرام ، غافلون عنما لهذه المعشوقة من قيمة لا يمكن أن تُقدر بشيء أخر ، لأنها هي جميلة الجميلات ، والهيام في ملكوتها هو عين الحكمة ومنتهي الكمال . والأكثر من ذلك أن هذا الافتتان بالفلسفة لم يتزعزع قيد أنمله ـ بل من الممكن القول بأنه زاد - حتى عندما قُدم بعض هؤلاء العشاق للمحاكمة ، وحكم عليهم بالإعدام ما لم يهجروا غرام هذه الساحرة العجيبة . إذ نجد هؤلاء العشاق وقد استسلموا بغبطة ورضي نفس لهذا المصير، تقبلوا الحكم الجائر بأريحية وبسمة هادئة ، مفضلين أن يخرجوا من مسرح الحياة على ألا تغادره معشوقتهم أبدا. ومن منا يمكن أن ينسى مشهد سقراط وهو يتناول كأس السم هادئاً باسماً برضي وسكينة كاملة ، حتى أنه من هدوءه شرع في تهدئة محبيه وتلاميذه المنهارين من حوله .
وحتى عندما استقلت العلوم المختلفة عن الفلسفة في عصورنا الحاضرة ، وأصبحت هذه العلوم الحديثة مبهرة للناس بابتكاراتها الخارقة ، والتي جعلت العالم اجمع قرية صغيرة ، وحولت حياة الإنسان على هذا الكوكب إلي حياة مرفهة رخوة ، أقول حتى رغم هذه التطورات العلمية الهائلة ظلت الفلسفة معشوقة تهفو إليها أفئدة وعقول الكثير من الناس ، ولم تفتر الهمة قط عن هذا الهيام. الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن هذا الذي لمسه هؤلاء في الفلسفة جعلهم يتعلقون بهذا كل هذا التعلق العجيب .
هنا تأتي المفاجئة العجيبة التي لا تقل غرابة عن غرابة سحر هؤلاء المسحورين بالفلسفة، وهي الحقيقة الغريبة التي نكتشفها من مطالعة تفاصيل هذا التاريخ الطويل من سحر هذا الفاتنة الساحرة . إنها حقيقة أن كل عشاق الفلسفة على مدي كل هذه العصور الطويلة من الغرام لم يظفروا من وصال معشوقتهم إلا بالنذر اليسير . إذ لم تكشف هذه الساحرة لهم إلا عن القليل جدا من أسرارها ومكنوناتها ، لم تكون سخية أبداً مع عشاقها . هم يطوفون حول حماها بلا كلل أو ملل ليل نهار ، وهي تستتر عنهم غفراً وحياءً. لكنهم أبدا لم ينصرفوا عنها يأساً وسخطاً، و لم يهجروا ساحتها مللاً وضجراً ، ولم يشيحوا الوجه عنها زهداً واستغناءً . بل كانت كلما زادت في التمنع والدلال ، زادوا هم في المطالبة والإلحاح !!
هكذا ُكتب على طائفة من الناس أن تعشق هذه المعشوقة الساحرة بلا ملل ، وكتب عليها هي نفسها في الوقت ذاته أن تتدلل وتتمنع عليهم دائما . ولم يزدهم هذا التمنع إلا إلحاحاً ، وهذا الدلال إلا إعجاباً وهياماً ، في سيمفونية رائعة من الدلال والتمنع من جهة ، ومن الهيام والمطاردة الدائمة من جهة أخرى. سيمفونية لا تنتهي إلا لتبدأ . ومن الممكن إجمال تاريخ الفلسفة كله عبر العصور المختلفة على أنه ليس سوى مجرد نغمات متنوعة في هذا اللحن الجليل .
ساحة النقاش