authentication required

     في هذا العصر الذي علت فيه اصوات الآلات والأجهزة علواً مدوياً، وأصبحت سلطة العلم التجريبي مطبقة على كل المجالات، صغيرها و كبيرها، يقفز إلي الأذهان حتما السؤال التالي: هل لازالت هناك ضرورة لدراسة الفلسفة في هذا العصر؟؟  لمَ نقوم بتدريس الفلسفة في مدارسنا وجامعتنا حتى اليوم؟؟ 

     إنه باعتباري عاشقاً متيما بهذه الجوهرة الفريدة المسماة الفلسفة أولاً ، وبوصفي من المتخصصين فيها ثانياً أجيب على هذين بلا تردد بالايجاب، ليس إنحيازاً مني وتعصبا لمعشوقتي ، وإنما إقراراً بواقع مملوس لا يمكن إنكاره كما سوف نرى.

    أن الفلسفة في كل عصورها كانت تساير مشكلات العصر ، وتتجدد معها . وكانت دائماً مرآة تعكس مدى تعقد وتجدد مشكلات كل عصر. كان الفلاسفة دائماً يحاولون الارتقاء بالإنسان إلي الأفضل عبر تحليلاتهم النقدية للمشكلات القائمة ومحاولة وضع الحلول الشاملة لها . ومن ثم يمكن القول بأنه يخطئ من يظن أنه يمكن للإنسان أن يعيش إذن بدون فلسفة ، فالإنسان بوصفه الكائن العاقل الأوحد في هذا العالم إنما ميزه الله بالعقل والتفكير ، وبمجرد أن يستخدم الإنسان العادي عقله في تقدير الأمور ، وفي استشراف أفاق الواقع والمستقبل فهو يفعل فعلاً من أفعال التفلسف دون أن يدري.[1]

     لقد توسع أرسطو كثيراً في التدليل على أهمية الفلسفة وضرورتها في الحياة ، واعتمد في تدليله هذا على مبدأ بديهي وهو أن العقل هو الملكة الوحيدة التي وهبها الله للإنسان لكي يميزه بها عن بقية المخلوقات ، ويرتب على هذا المبدأ نتيجة تقول بأن الفلسفة جديرة بالسعي إليها لذاتها لأنها اسمى خير يمكن أن يبلغه الإنسان . طالما أن الغاية الطبيعية للإنسان هي ـ كما قلنا ـ ممارسة العقل ، ومن ثم فإن الحياة العقلية المكرسة للتأمل والنظر هي مهمته الحقيقية وواجبه الأول ، وبها يبلغ كماله ويجد سعادته.[2] إن هناك ضرورة ملحة لوجود الفلسفة بيننا، ولا يمكن تصور وجود الإنسان في هذا العالم بدون الفلسفة ، ومن المؤكد أن هذا التأكيد من جانبنا سوف يستفز القارئ فيسأل سؤالاً ملحاً قد يراه تعجيزاً لنا فيقول : وما هي نوعية تلك الأهمية التي تزعمها أنت للفلسفة في عالمنا المعاصر الذي سيطرت عليه ثورة المعلومات والاتصالات ولم تترك أية فرصة للتأمل وإعمال العقل الفلسفي؟؟ ونبادر القارئ فنجيبه على سؤاله هذا بكل ثقة ويقين ونقول أن الفلسفة وإن كانت هامة وضرورية في كل العصور، فإن أهميتها قد تضاعفت لمرات كثيرة في عصرنا ، حتى أنه من الممكن القول بأنها أضحت مساوية في الأهمية للحياة نفسها. فلا يستطيع الإنسان أن يستغني عن الفلسفة لأنه حتى في عصرنا يريد أن يحصل نظرة عامة عن الكون ، ويريد أن يعرف معنى الحياة ، والعوامل المؤثرة في تكوينها ، والنظام الذي تسير عليه ، والغاية التي تنشدها ، باختصار يريد أن يعرف الأصل الذي صدرت عنه الحياة ، وما فيها من المخلوقات ، وأن يعرف المصير والغاية ، وكلها أمور لا تتيحها له سوى الفلسفة ، أما العلم فإنه مهما تقدم سوف يقف عاجزاً عن إجابتها لأنها ببساطة لا تدخل في نطاقه ، ولا يستطيع أن يعالجها بوسائله وموازينه. وهذا ما أكد عليه ياسبرز في بقوله "إن الإنسان لا يمكن أن يستغني عن الفلسفة." [3] ومن الممكن لنا أن نظهر بجلاء مدى أهمية الفلسفة في حياتنا ووجودنا المعاصر في الجوانب التالية: 

 

1- الفلسفة ظاهرة فطرية طبيعية في الإنسان

    الواقع أن الفلسفة هامة لأن التفلسف في حقيقة الأمر ظاهرة طبيعية في الإنسان ، ومرتبطة به من حيث هو كذلك. وذلك لأنه إذا كان العقل هو الملكة التي تميز الإنسان عن بقية الكائنات ، والتفلسف والتفكير هي النشاط الوحيد الذي تمارسه هذه الملكة ، فإن التفلسف ضروري لوجودنا لأنه هو الذي يجعلنا نعبر عن إنسانيتنا وتميزنا ، ويرتقي بنا فوق مرتبة الحيوانية. وبدونه لا يغدو هناك فارق بيننا وبين بقية الكائنات. وقد أكد أرسطو على هذا بقوله "إن جميع الناس يميلون إلي اختيار ما يلائم طباعهم ، فالعادل يختار الحياة العادلة والشجاع حياة الشجاعة، والبصير العاقل حياة التبصر والعقل . ومن هذا يتضح كذلك أن الإنسان الذي وُهب ملكة العقل سيختار الفلسفة ، لأن التفلسف هو مهمة هذه الملكة."[4] ليست الفلسفة ـ في واقع الأمر ـ بالشيء الدخيل على الإنسان ، لأن حياته عبارة عن حلقات متصلة من الفكر والتأمل. ولن نستطيع ـ حتى إذا أردنا ـ أن نجعل عقولنا تكف عن التفلسف ، لأننا إن فعلنا ذلك نكون كمن يكلف الأشياء ضد طبيعتها، أو كمن يحاول أن يمنع الحياة من الحركة والنشاط . إن الإنسان في حياته يمارس فعل التفلسف حتى دون أن يدري ، ونستطيع أن نلمس بدايات ممارسة التفلسف في أسئلة الأطفال التي لا تنتهي إلا لتبدأ ، وأحيانا من عمقها تضع الوالدين في مواقف شديدة الإحراج . ونلمس هذه البدايات أيضا في أسئلة الرجل العادي وتعليقاته العميقة على ما يدور حوله من أحداث ، وفي علامات الفطنة وبعد النظر التي أحيانا ما يبديها إنسان أمي لم يتعلم في موقف يتعرض له. إن الإنسان صغيراً كان أم كبيراً يتفلسف تلقائياً حتى دون أن يدري أنه يفعل ذلك، ولا يستطيع أن يتحاشى الفلسفة ، فالفلسفة حاضرة حيث حضر الإنسان وحيث فكر. وهذا ما أكده كانط عندما قال " لقد قُدر للعقل الإنساني في نوع من أنواع معرفته أن يُحمل بأسئلة أملتها عليه طبيعته فلا يستطيع أن يتجاهلها." وعبر عن ذلك هيدجر الفيلسوف الوجودي المعاصر بقوله "إن خاصية الإنسان هي أنه كائن "أنتولوجي" أي دائم التساؤل عن الوجود ، والوجود هو نقطة البداية والنهاية ، الألف والياء في حياته. لقد ألقينا في هذا العالم ، ولم نطلب المجيء إليه ، ولا نعرف من أين وما سبب مجيئنا. ومن ثم فالإنسان في جهل وغموض بأسس وجوده ومصيره ، وهو إن وضع هذه الأمور الناجمة عن وجوده الغامض المهدد موضع التساؤل كان كلامه فيها أو بالأحرى جوابه عنها هو الذي يطلق عليه فلسفة. فالفلسفة فطرية وطبيعية في الإنسان كنتيجة لوجوده المحفوف بالغموض والتهديد والذي لكي يفهمه ويدعمه يلتمسه في ضوء وجودات أخرى كالعالم والنفس والله.[5]

    يرى الإنسان ظواهر الكون على اختلاف أنواعها فيتصورها ويكون له فيها رأياً ، ثم يجتهد في تعرف عللها ، وعلاقة حقائق الكون بظواهره ، وهذا طريق فهم الشيء فهماً واضحاً ، فإن فعل الإنسان هذا قلنا إنه يتفلسف. أنه يبحث في ماهية الأشياء وأصولها ، وعلاقة بعضها ببعض. وليس يخلو إنسان من هذا العمل وقتاً ما ، ومن ثم ساغ لنا أن نقول إن كل إنسان عادي التفكير يتفلسف، وأن كل الناس فيلسوف إلي حد ما ، مع تفاوت بينهم.[6]وعلى ذلك فإنه لا يوجد ـ في الغالب ـ إنسان لا يتفلسف أو على الأقل فإن لكل منا في حياته لحظات يكون فيها فليسوفاً ينظر ويتأمل ويحاول الوصول إلي أعماق الأمور. وليست الفلسفة إلا نتاجاً للنظرة الفاحصة للعقل البشري إلي هذا الوجود ، وتطلعاً مشروعاً من جانبه إلي إدراك المبادئ الأولي لهذا الوجود. إننا جميعاً من عامتنا إلي خاصتنا نتفلسف بدرجات متفاوتة ، حتى وإن كان البعض منا لا يريد أن يسلم بأنه يتفلسف.[7]

    لكن من المحتم أن هناك فرقاً جوهرياً بين التفلسف الذي يمارسه الإنسان العادي في مواقف حياته ، وبين التفلسف الذي يمارسه الفيلسوف ويشيد به مذهباً فكرياً خالداً. وقد أشار الدكتور إمام عبد الفتاح إلي ثلاثة اختلافات أساسية تفرق بينهما:

الأول: أنه بينما يتم التعبير عن فلسفة الإنسان العادي باللغة البسيطة التي يستخدمها الإنسان في حياته اليومية، يصوغ الفلاسفة أفكارهم عادة من خلال مصطلح فنب أكثر تجريداً.

ثانياً : توجد فلسفة الرجل العادي في معظم الأحيان بصورة ضمنية ، علي حين يجعل الفيلسوف تفكيره صريحاً ظاهراً.

وأخيراً : أن المذاهب الفلسفية تنطوي على قدر من التنظيم والاتساق يكاد يكون من المؤكد أن الآراء الشعبية تفتقر إليه.[8] ومن ثم فالفيلسوف ليس هو فقط الشخص الذي يبدأ بالتفلسف ، وإنما هو الذي يستمر في التفلسف حتى النهاية. إن الفارق بينهما هو فارق المسافة التي قطعها كل من الذهنين: أي أن كل ما يفعله الفيلسوف هو أنه يمضي أبعد في نفس الطريق الفكري الذي يسير فيه المفكر غير النقدي دون وعي. والفيلسوف يسلك عادة طريقاً أقصر ، إذ أنه اكتسب مزيداً من الخبرة في تجنب الطرق المسدودة والمسالك الفرعية العقيمة التي قد تعترضه خلال سيره ، فضلاً عن أنه ـ وذلك في الأرجح ـ يرى خلال سيره تفاصيل أكثر أهمية وعمقاً ، ومع ذلك فإن الطريق العام الذي يسلكه كل منهما يظل واحداً.[9]      

2- الفلسفة ضرورية لفهم طبيعة الإنسان    

    لا شك أن العلوم التي اكتشفها الإنسان وأبدعها في عصرنا الحاضر ـ عصر ثورة المعلومات ـ قد تضاعف عددها مئات المرات ، وأنها قد جعلت حياة الإنسان أعظم يسراً ، وأكثر رفاهية عن ذي قبل. ولكن المتأمل في هذه العلوم أنها جميعاً على كثرتها تدرس مجرد جوانب جزئية فقط في الطبيعة الإنسانية ، ومن ثم فهي تعجز عن اكتشاف الطبيعة الكلية للإنسان. إننا لو قمنا بتجميع كل الحقائق التي انتهت إليها هذه العلوم ووضعناها جنباً إلي جنب ، ما اكتشفنا الطبيعة البشرية في جملتها أبداً، بل كلها مجرد حقائق جزئية متفرقة لا يوجد رابط يربطها. من هنا تأتي أهمية الفلسفة لتقوم بمهمة هذا الربط بين نتائج العلوم المختلفة لاكتشاف الحقائق الكلية في الكون والتي تقصر العلوم الجزئية عن بلوغها ومنها الطبيعة الإنسانية. إن سقراط عندما قال مقولته الشهيرة "أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك." قد قصد هذا المعنى ، قصد الكشف عن حقيقة أن الإنسان لن يتمكن من معرفة نفسه إلا من خلال الفلسفة ، ومن ثم أثر سقراط أن يدفع حياته ثمناً لهذه المعرفة، لأنه وجدها تساوي الحياة نفسها.

    إن ما تقدمه العلوم الجزئية المختلفة من معلومات نتيجة للدارسة التجريبية لا تعرفنا بحقيقة الإنسان ، لأن هذه المعلومات لن تمكننا من معرفة مشاعر النفس الداخلية وعواطفها وانفعالاتها ، فقد أشار جون استيورات مل إلي استحالة قياس المشاعر العميقة عن طريق مناهج علم النفس التجريبي التي تغفل منهج الاستبطان. ومن ثم فلابد أن نلجأ إلي الحدس ، أي إلي المعرفة المباشرة ، وإلي الفلسفة لكي نفهم طبيعة الإنسان الحقيقية ، وشخصيته الباطنية ، بما فيها من ظاهر سلوكه ، وباطن نفسه الذي يستعصي على القياس.[10] 

 3- الفلسفة ضرورية لقيام العلوم نفسها

     إن العلم لازال إلي يومنا هذا يعتمد على الفلسفة والتي كانت أمه التي أنفصل واستقل عنها منذ مئات السنين كما سبق وبينا. فلا تزال العلوم المختلفة تعتمد على الفلسفة في وضع فروضها الأولية ، أو حتى في الربط بين النتائج المتوصل إليها. لهذا فإن المهاجمين للفلسفة يعدون من قصار النظر ، أو من التجريبيين السطحيين الذين يتناولون الأمور بطريقة ساذجة فلا يهتمون إلا بما يحقق المنفعة العاجلة ، أما الكشف عن الأسباب الحقيقية للظواهر في تعمق واستيعاب فهذا أمر لا يحظى منهم بأي اهتمام.[11]إن المناهج العلمية اليوم في حاجة ماسة إلي فروض فلسفية لكي تقوم لها قائمة أصلاً مثل الإيمان بمبدأ العلة ، وبساطة الطبيعة ومعقوليتها. وكل علم يعتمد على طائفة من المعاني الأولية التي تعد أساساً له ، فالعلوم الرياضية مثلا تعتمد على معاني الوحدة واللانهائي والنهائي وغيرها من فروض فلسفية. والعلوم الطبيعية تعتمد على معاني المادة والقانون والعلة والقوة والحركة إلي أخره ، والعلوم الإنسانية في حاجة إلي معاني جوهر الإنسان وأصله ومصيره ، وما تقرر له من حقوق وما يفرض عليه من واجبات، والفلسفة هي التي تكشف عن هذه المعاني حقيقتها وقيمتها. والجانب الثاني لأهمية الفلسفة للعلم أنها هي التي تكشف للعلم عن طبيعة العقل الذي هو أداة من أدواته التي يستعين بها على ضبط المشاهدات والتجارب . فالعلماء يلتمسون المعرفة بالعقل وقيمته ومقاييسه وأحكامه من الفلسفة. إن الفلسفة تكشف للعلماء عن أصل الحقائق الأولي وقوانين العقل الأساسية وخصائصها ، وعن طبيعة البديهيات فتوقف العلماء على مبلغ ما فيها من اليقين ، كما تعرفهم كيف يحددون المعاني ويراقبون الأحداث وينظمون الأدلة.[12]

 

     كما أن الفلسفة ضرورية للعلوم المختلفة من زاوية أخرى سبق لنا الإشارة إليها ، ألا وهي زاوية فلسفة العلوم ، والمتمثلة في وضع المناهج البحثية الملائمة للعلوم المختلفة والتي تعصمها من الوقوع في الزلل ، وفي فحص النتائج التي تنتهي إليها هذه العلوم للكشف عما يكون مقبولاً أو غير مقبول منها ، ثم الربط بين هذه النتائج المترتبة على علوم مختلفة المجال والدراسة من أجل خدمة  الحياة البشرية. باختصار الفلسفة هنا تقوي شخصية العالم ، وتجعله يمارس بفاعلية وصدق ما هو بصدد بحثه من مجالات العلم المختلفة . فإذا كان مؤرخاً مثلاً أمكنه أن ينتفع بالفلسفة في معرفة العوامل والتيارات التي يقع مجتمع من المجتمعات تحت تأثيرها فتوجهه إلي الثورات والحركات ـ تقدمية كانت أم رجعية ـ فيحسن فهم الظاهرة التاريخية ، ومن ثم يجيد الحكم عليها. وإن كان مشرعاً استطاع أن يستخدمها في دراسة نفسية الأفراد والجماعات التي هو معني بالتشريع لها . وإن كان سياسياً أتاحت له فرصة الوقوف على طبائع النظم السياسية المختلفة ، وما صاحبها من أشكال الحكومات ومدى صلاحيتها لمجتمع دون آخر. وإن كان أديباً استعان بالفلسفة للتعرف على نفسية مستمعيه عندما يحاضرهم أو يخطب فيهم ، وكذلك في ترتيب وسائل الإقناع لمن يخاطبهم ، وخلق المؤثرات والدوافع التي يملك بها ناصية الجماهير .[13]

4- الفلسفة ضرورية لنهضة وتنوير الأمة

     لما كانت الفلسفة تعمقاً في المعرفة والبحث للوصول إلي حائق الحياة العليا، وعللها الأولي ، أي تنظر إلي الوجود نظرة إجمالية عامة ، فإنها الأقدر على الأخذ بيد المجتمع نحو الرقي والتمدن ، لذلك كانت الفلسفة في كافة العصور القاطرة التي تسحب المجتمع بأسره من خلفها نحو التقدم والحضارة . ومن هنا جاءت أهميتها العظيمة التي نشدد عليها.

     ومن السهل علينا أن نقدم العديد من الأمثلة على هذا الدور التنويري الذي مارسته وتمارسه الفلسفة عبر العصور المختلفة، وذلك من خلال نقدها وهدمها للعادات والأفكار البالية التي لم تعد تواكب العصر ، وتتعارض مع منطق العقل والحرية ، وإقامتها للأفكار والنظريات الجديدة الرائدة الكفيلة بنقل المجتمع نحو أفاق أرحب وأعلى. نقول إنه من السهل أن نقدم العديد من الأمثلة على هذا الدور ، ففي الفلسفة اليونانية هناك العديد من أمثلة الفلسفات التنويرية التي قادت الأمة اليونانية في عصرها المزدهر نحو قمم شامخة من الرقي والتحضر، مثل فلسفة كسينوفان الدينية الإصلاحية، وحركة التنوير السفسطائية، وفلسفة سقراط الذي اتخذت من إصلاح عقول الشباب مسئولية مطلقة لها . وأفلاطون الذي قام ينادي بإعادة إصلاح المدن اليونانية اجتماعياً وسياسياً من خلال مشروعه الذي طرحه في محاورة الجمهورية للمدينة الفاضلة ، وساهم مساهمة فعالة في أن يهيئ الفرصة لإصلاح الحكم في جزيرة صقلية. وفي العصر الحديث لعبت أراء ديكارت بالغ الأثر في نهضة معظم النواحي الثقافية والعلمية في أوربا القرن السابع عشر. وكذلك كانت أفكار أعلام عصر التنوير في أوربا من أمثال فولتير وديدرو وروسو وغيرهم، فقد مهد فكرهم لقيام الثورة الفرنسية ولقيام غيرها من الثورات. وفي بريطانيا نجد جيرمي بنتام الأب الحقيقي للاقتصاد الحر الذي أدي إلي قيام النظام الرأسمالي . فإذا انتقلنا إلي الولايات المتحدة الأمريكية نجد أن البرجماتية قد أثرت تأثيراً عميقاً في حياة المجتمع الأمريكي في جميع نواحيه، حيث أن مفاهيمها النفعية العملية ـ كما سبق أن رأيناها ـ قد أصبحت دستوراً للسلوك في المجتمع الأمريكي ـ إن لم نقل الأوربي ـ كله.[14]

   إن إنسان العصر الحديث ربما كان أحوج اليوم إلي الفلسفة منه إلي أي شيء أخر:فقد أصبحت حياته الروحية أثراً بعد عين، بسبب انهماكه في مشاغل العيش وهموم المادة. لأن التفلسف جهد إرادي يرمي غلي تعمق الذات، عن طريق الارتداد إلي تلك الأغوار السحيقة التي يشعر المرء بإنيته فيها. وحين ينعكس الفكر على ذاته فإنه قد يشعر بما في وجوده من تصدع ونقص وتناه، عندئذ ينكشف أمامه "المتعالي" بوصفه تلك الحقيقة التي هي الأصل الذي صدرت حريته ووجوده على السواء. وبهذا المعنى قد يصح أن نقول إن التفلسف يعلمنا كيف نحيا، ولكنه يعلمنا أيضا كيف نموت: لأنه إذ يكشف لنا عما في الوجود الزمني من جزع ومخاطرة وعدم اطمئنان، فإنه يظهرنا على أن الحياة إن هي إلا محاولة ، وأن الموجود البشري إن هو إلا سالك أو عابر سبيل.[15] إن وقائع التاريخ لتشهد بأنه كلما تعثرت الأمم في خطاها، أو زلت في مشيتها سخر الله لها من العقول الفذة من يأخذ بيدها ليضعها على طريق النهوض والتقدم. وما ابلغ كلمات أرسطو التي اختتم بها كتابه سالف الذكر ، ولبلاغتها نراها نحن أفضل ختام لحديثنا حيث قال أرسطو " إذن ليس عند البشر ما هو إلهي أو مبارك سوى هذا الشيء الواحد الذي يستحق وحده أن يبذلوا الجهد من أجله ، .. إنه ما يوجد فينا من العقل وملكة التفكير. ويبدو أنه وحده الخالد .. إن حياتنا ـ على الرغم من أنها بطبيعتها شقية ومضنيةـ قد نُظمت بفضل قدرتنا على المشاركة في هذه الملكة تنظيماً بلغ من الروعة حداً يجعل الإنسان يبدو إلهياً بالقياس غلي سائر الكائنات الحية. .. هكذا ينبغي على الإنسان إما أن يتفلسف أو أن يودع الحياة ويمضي من هنا ، إذ يبدو أن كل ما عدا ذلك إنما هو ثرثرة حمقاء ولغو فارغ.[16]        

 


[1] - د/ مصطفى النشار : المرجع السابق ، ص 32.

[2] - أرسطو : المرجع السابق ، ب 18- ب 22، ص 37- ص 38.

[3] - د/ عبد المقصود عبد الغني : المرجع السابق ، ص 52.

[4] - أرسطو : دعوة للفلسفة، ب 39، ص 44.

[5] - د/ محمد ثابت الفندي : مع الفيلسوف ، ص 30 – ص31.

[6] - ربوبرت: مبادئ الفلسفة ، ترجمة د/ أحمد أمين، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1965،  ص2.

[7] - د/ محمود حمدي زقزوق : المرجع السابق ، ص 15.

[8] - د/ إمام عبد الفتاح : المرجع السابق ، ص 59.

[9] - د/ فضل الله محمد إسماعيل: نماذج من المشكلات الفلسفية ، مكتبة البستان ، كفر الدوار، 2008 ، ص 3.

[10] - د/ فضل الله محمد إسماعيل: المرجع السابق ، ص 12.

[11] - المرجع نفسه ، ص 13.

[12] - د/ فضل الله محمد إسماعيل: المرجع السابق ، ص 22.

[13] - د/ فضل الله محمد إسماعيل: المرجع السابق ، ص 19.

[14] - المرجع نفسه ، ص 16.

[15] - د/ زكريا إبراهيم: المرجع السابق، ص 70.

[16] - أرسطو : دعوة للفلسفة، ب 107- ب110، ص 68.

  • Currently 42/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
11 تصويتات / 11970 مشاهدة
نشرت فى 23 سبتمبر 2011 بواسطة MahmoudMorad

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

60,750