ليست هذه مقارنة بين حال وحال، ولا بين زمن وزمن. فمنذ ما يزيد عن نصف قرن كانت معظم البلاد العربية محتلة، مسلوبة الإرادة. وكانت معظمها فقيرة متخلفة. ثرواتها إما مجهولة، وأما مملوكة للأجنبي المغتصب. وجيوشها غير موجودة، وحكامها من صنع المستعمرين في الأغلب. إلى غير ذلك مما نعرف من حال الآمة العربية والشعوب الإسلامية قبل ما يزيد عن نصف قرن، أي قبل الحرب العالمية الثانية.
والآن نرى الصورة بالتأكيد غير الصورة. صحيح لقد اغتصب من أرضهم قطر عزيز هو فلسطين، واحتلت إسرائيل أراضي من أربع دول عربية أخرى. ولكن الدول العربية صارت مستقلة الإرادة في مجموعها، لها مقومات الدول في معظم الأحوال، ولها جيوش ودبابات وطائرات، ولها ثقافة وفكر وفن وأدب، ولها ثروات ضخمة وأموال تؤثر في حياة العالم. وبعد أن كانت الكلمة تعبر أرجاءها في شهور صارت لديها من محطات الإذاعة والتليفزيون والصحف والإذاعات ووسائل التعبير ما لايقل في نسبته إلى عددها السكاني عن مثله في كثير من البلاد المتحضرة.
ولسنا في حاجة إلى الإطالة. ولكن كل قارئ يعرف أن الأمة العربية بما لها من موقع وما فيها من ثروات، وما يتدافع داخلها من تيارات، صارت أحد أهم ما يؤرق العالم من هموم. حتى أن الناس في أي مكان في العالم إذا تلفتوا إلى مكان يمكن أن يؤدي إلى قيام حرب عالمية ثالثة. أشاروا بأصابعهم إلى شرقنا الأوسط، أو إلى عالمنا العربي.
وكان هذا وحده كفيلا بأن يضعنا أمام أخطر الامتحانات وأصعبها. فالاهتمام العالمي اذا كان موضع فخر فهو يجر إلى التدخل، فتحوم وحوش الغابة وجوارح الطير من كل جانب، تبحث عن مواضع للخطأ وثغرات للانقسام.
وكأن زيادة وسائل التعبير في بلادنا زادت من سوء التفاهم بينها وليس العكس.
وكأن المجلة الواحدة التي كانت تصل بين قطر وقطر، تبل الريق كقطرة الماء، كانت افعل في تفاهم شعوبنا من الضجيج الإعلامي اليومي الهائل، المتواصل، الذي يعبر آلاف الأميال في أقل من الثانية.. ولكن القضية في كلتا الحالتين، والقضية في كل العصور والقرون، تبقى واحدة.
إن حرية الرأي وفتح الباب لتعدد الفكر هو المخرج، هو المخلص، هو صمام الأمان لكل أمة وكل شعب وكل مجتمع وكل نظام..
وقهر حرية الفكر قد يكون عمل فرد. كما كان يحدث قديما في بعض العصور الخالية. وقد يكون عمل آلاف الأفراد والصحف والميكروفانات والكتب، كما يحدث أحيانا في أكثر المجتمعات تقدما..
والعاقبة في كلتا الحالتين وخيمة
..
ولنتوقف عند مناسبتين: إحداهما، حادثا فكرياً قديما من تراثنا. والمناسبة الثانية كتابا مما أخرجته مطابع الولايات المتحدة الأمريكية.
ولكنهما، على بعد الشقة، واختلاف النتائج، واختلاف نوع المجتمع تماما، يوصلاننا إلى نفس الاستنتاج. وربما كان الاستنتاج الواحد من محنتين مختلفتين تماما، هو العبرة. فالعبرة الواحدة من ظروف غاية في الاختلاف، اقوي مائة مرة من عبرة تنتجها وتفرزها ظروف متشابهة..
القصة الأولى، قصة محنة احمد بن حنبل مع الخليفة المعتصم..
وبإيجاز ودون خوض في التفاصيل، ثارت في أواخر عهد الخليفة المأمون قضية فكرية انقسم حولها الناس وهي: هل القرآن قديم، أو أن وجوده مرتبط بوجود الله، أم هو جديد أو مخلوق، أي أن وجوده يرتبط بوقت نزوله على الرسول.
وقد تبدو لنا القضية لو طرحت اليوم غير ذات موضوع. ولا يمس الرأي فيها صدق إيمان احد. ولكنها وقتذاك تحولت من جدل فلسفي إلى شيء آخر تماما حين اعتنق الخليقة الحاكم رأيا من الرأيين. فبدأت المحنة الكبرى تلاحق من لا يرى رأي الخليفة. وكالعادة كان المثقفون هم من تعرضوا للمحنة. فهم في ذلك الوقت الفقهاء والعلماء والقضاة. فأرسل المأمون إلى وزيره وحاكم العاصمة بغداد اسحق ابن إبراهيم يطلب منه امتحان القضاة والفقهاء، قائلا له أن من يخالفون الخليفة في الرأي لابد أن يكونوا (من حشد الرعية، وسفلة العامة، وأهل جهالة بالله، وعمى عنه، وضلالة عن حقيقة دينه..) فكأن الحاكم قد أدانهم بالكفر مقدما لمخالفة رأيه.
وأخذ اسحق بن إبراهيم يحضر الفقهاء والقضاة ويقرأ عليهم كتاب الخليفة ـ محذرا ومنذرا ـ ثم يسألهم: هل القرآن قديم أم مخلوق. فمنهم من قال برأي الخليفة، فكان يوضع في الأصفاد، ويقيد بأثقل الأغلال، ويتعرض لشتى صنوف العذاب. فكان منهم من يعود فيعدل عن رأيه، حتى يتخلص مما هو فيه. وما هي إلا كلمة يقولها والله أعلم بما بقى في ضميره. ومنهم من يثابر، ثم يستسلم.
وكان من بينهم أحد أكبر فقهاء الإسلام وهو أحمد بن حنبل.. وكان أكثرهم عنادا، فربطوه في الحديد، وألقوه بكل مقامه الجليل في السجن حتى يرى الخليفة فيه رأيه. ولكن الخليفة المأمون لم يلبث أن توفي.
وأمر المعتصم فأحضروا أحمد بن حنبل إلى مجلسه. وقد أحضروه وهو مكبل بأغلال من الحديد، وهو الكهل، لا يطيق حملها ولا السير بها.. ويجلسونه في هذه الحال في حضرة الخليفة.. ليناقش فقهاء السلطان. فإذا أفحمهم وهزم حججهم، أخذوه مثقلا بأغلاله إلى السجن.
ويتكرر هذا يوما بعد يوم.
فقد انتهى الأمر بأن أمر الخليفة آخر الأمر فجردوه من ثيابه، وربطوه إلى كرسي، وانهالوا عليه بالسياط.. حيث كان يجلس يناقش. وكلما غاب عن الوعي من العذاب، أفاقوه، وسألوه إن كان قد عدل عن رأيه، فيقول لا، فيعودون..
ولما كاد يموت في مجلس الخليفة، أعادوه إلى أهله كتلة مهشمة من اللحم والدم..
كانت السلطة في أوج عظمة الامبرطورية الإسلامية تنزلق أكثر وأكثر إلى الاستبداد.. وبالتالي إلى التداعي والانهيار..
الملاحظة الثانية ، تجعلنا التأمل في عوامل صعود وانهيار الإمبراطوريات والأمم حتى وان بدت في أوج مجدها.. كانت في كتاب أمريكي، عن الولايات المتحدة الأمريكية.
الكتاب ضخم في حوالي ألف صفحة. وقد اعتبرته الصحافة الأمريكية أهم كتاب صدر في عام 1990وأسمه
(بحث عن التاريخ). ومؤلفه أحد أكبر الصحفيين المؤلفين في أمريكا وهو تيودور هوايت. وقد جمع فيه خلاصة متابعته للأحداث التاريخية الكبرى حيثما وقعت طوال أربعين سنة تقريبا. وقد نعود إلى جوانب أخرى من هذا المجلد الضخم في أحاديث أخرى.
وقد غطى الكاتب ثلاث فقرات تاريخية عاشها حيث كان التاريخ يصنع بالفعل.
* مع الثورة الصينية (من 1938 إلى 1945) مزاملا ماوتسي تونج وشواين لاي.. وشيانج كاي شيك.
* إعادة بناء أوربا مع الحرب بمشروع مارشال (1948 ـ 1953).
* فترة التحولات الكبرى في امريكا بعد الحرب، من رئاسة ايزنهاور إلى مقتل جون كنيدي (1954 ـ( 1963 .
والمهم هنا ، صفحات أراد المؤلف فيها أن يجيب على سؤال هام:
ما الذي ورط الولايات المتحدة الأمريكية في حرب فيتنام؟
ما الذي جعل هذه الدولة الكبرى تحارب حربا مجنونة طيلة عشر سنوات، وتخسر نصف مليون من شبابها بين قتيل وجريح، وتخسر فوق ذلك سمعتها، وخسائر سياسية لا حصر لها، وانهيارات لمواقفها، وشك في حسن تقديرها حتى بين حلفائها..
ثم إن امريكا لديها كل وسائل حرية الرأي. وكل أسباب المعرفة ومشاركة الرأي العام. وكل أنواع المخابرات ومراكز الابحاث ووسائل الدراسة. فما الذي أعماها رغم كل هذا، وساقها معصوبة العينين غالى مستنقعات فيتنام؟
يقول تيودور هوايت، في إجابة مفصلة جدا: إنها (المكارثية) التي اجتاحت امريكا لبضع سنوات قليلة!
إن الخوف، مع الأسف، هو الذي يحرك أحداث التاريخ، أكثر مما يحركها الأمل..
وبمجرد أن انتشر الخوف في امريكا، من أن يتعرض لاتهام مكارثي له بما سمى (النشاط المعادي لأمريكا) صار كل صاحب رأي، أو صاحب منصب، أو صاحب مسئولية، يحاول أن يتخلى عن دوره، وينزوي، ويسكت، وهو يرى الكارثة المحققة.
كانت امريكا وقتها أغنى ما تكون بخبراء الصين والشرق الأقصى. يعرفون كل شيء من اللغة والأصل والتاريخ إلى السياسة والزعماء الجدد. ولكن الإرهاب الفكري الذي نشره مكارثي باتهام كل شخص في وطنيته، كان بمثابة من خلع عيني امريكا وقطع أذنيها. فصارت بالنسبة لأحداث آسيا كلها لا ترى ولا تسمع. ومضت إلى كارثة سياستها الآسيوية التي دامت بعد ذلك حوالي ربع قرن!
لقد جر مكارثي كل عقل امريكا إلى لجنة التحقيق في الكونجرس. لم تكن هناك سياط كسياط المعتصم. ولكن كانت هناك سياط من نوع آخر لا يقل قسوة وهو التشهير أمام الرأي العام و(اغتيال الشخصية) كما يقولون في التعبير الانجليزي Character Assassination.جر إلى المحرقة العامة أمام عشرات الملايين من الخبراء وأساتذة الجامعة وموظفي الدولة وجنرالات الجيش والكتاب والصحفيين. وكل من قال رأيا ذات يوم في سياسة امريكا نحو الصين مخالفا لما جرى. بل وكل من قابل ولو في مهمة رسمية أحدا غير مرغوب فيه.
وقد انتهى مكارثي نهاية محزنة بفضيحة أودت به. ولكن رعشة الرعب التي صارت رمزا في كل مكان واسما يطلق وهو (المكارثية).. رعشة الرعب هذه لم تفارق أمريكا بكل ضخامتها وحرياتها سنوات طويلة.
فلما بدأ العملاق يذهب في مغامرات الخاسرة ويغرق في وحول آسيا.. لم يجسر واحد على النطق. لا الخارجية، ولا المخابرات، ولا الخبراء، ولا الكتاب، ولا أعضاء الكونجرس.
وكان الثمن نصف مليون قتيل وجريح، وربع قرن من السياسة المدمرة الفاشلة، وانفصاما داخليا في أمريكا أدى إلى عنف الستينيات.. من مظاهرات المدن إلى اغتيالات جون كنيدي وروبرت كنيدي ومارتن لوثر كنج وغيرهم.. كل هذا مقابل سنتين أو ثلاث من الإرهاب الفكري العام
!
إن الحكايتين اللتين رويتهما هنا، ليستا فريدتين في التاريخ .
..
الخلاف العربي ضار فتاك. القضايا المطروحة للاختيارات وللقرارات تدور لها الرءوس. وبجوارنا في إيران تقوم جمهورية إسلامية، وهو اسم له رهبة، وله خطر، ولكن دون أن نعرف شيئا عن تفسيراتها لقضايا اختلاف الرأي ووسائل التعبير. وقد يرتبط بها هذا الاسم الخطير (الجمهورية الإسلامية) وجودا أو عدما لزمن ليس بالقصير.
ونحن فوق هذا كله نخرج من ظلمة إلى نور، ومن تخلف إلى محاولة تحضر، ومن انكفاء على الذات إلى انفتاح على العالم، ومن تجاهل العالم لنا الى اهتمامه بنا، ومن بحث عن هويتنا بين الأصالة والتجديد..
فإذا لم يكن حق التعبير وحق التفكير لهما ضرورة بل وقداسة في هذه المرحلة.
وإذا لم يتعلم الحكام والمحكومون هذه الكلمة الآن.. ففي أي وقت سنكون فيه أحوج إليها من وقتنا هذا في عالمنا هذا؟
ساحة النقاش