د . محمد ناصر

 

قدر الشاعر - لندع الشاعر يعيش




تتسم الصعوبات المالية التي يواجهها الشعراء بكونها ذات طبيعة خاصة,فهل أقل تثبيطا من تلك الصعوبات التي يواجهها الروائيون فهؤلاء يجب أن يحتفظوا باستمرار بأمل خفي أنهم سيكسبون مبلغا من المال لا بأس به لقاء كتاب يؤلفونه، والشعراء الذين يعرفون جيدا أنهم لا يستطيعون الحصول على أية ثروة عن طريق أي نصيب من الشهرة لا يخامرهم_ في الأقل_ توقع من هذا القبيل، فالشاعر يعرف جيدا أنه لا يمكن أن يتوقع الحصول حتى على مقدار مهم من نفقات معيشته عن طريق كتابة الشعر.

فخلال المسائل الوطنية تكون الظروف المتاحة للشعر جيدة على نحو استثنائي،وقد يطبع ديوان شعر لشاعر أكثر من طبعة،وقد تزداد عدد النسخ المباعة،وفي ظروف الشاعر العادية قد لا تحقق طبعة ديوانيه الأولى إلا القليل من البيع والترويج،وهذا يعني أن الظروف التي تحيط سياق الشاعر وشعره من اجتماعية أو شخصية أو نفوذ سلطوية أو وطنية جماهيرية،هي التي تزيد من مبيعات ديوان هذا الشاعر أو ذاك، وأن الكثير من الشعراء العاديين وغير المشهورين من خلال تلك الظروف قد تزداد مبيعات دواوينهم أكثر من الشعراء ذوي الأسماء المعروفة , ولكن الشيء الذي يجب أن يكون مؤكدا هو بأنه ليس باستطاعة حتى أعظم الشعراء المعروفين على نطاق واسع في (الآونة الأخيرة),وربما ليس باستطاعة حتى بدعم أصحاب النفوذ والسلطة القائمة أن يأملوا العيش من مدخولات شعرهم,حتى في أكثر الحالات تواضعا_والشعراء_والله أعلم ,نادرا ما يريدون أو يحتاجون إلى العيش بوضع مترف، ان القصائد المنشورة في دواوين الشعر يتم نشرها عموما في مجلات دورية قبل نشرها في الدواوين , وأحيانا في كتب المختارات ، غير أن الكثير من مجلات الشعر ذاتها ليس لديها مال في الوقت الذي يعطي كل شاعر كما أظن , عددا لا بأس به من القصائد كل عام.

وحسب معلوماتي أن أكثر الصحف العربية لا تدفع المكافآت وتعتبر نشرها لقصائد الشاعر الجديدة من قبيل المعرفة والترويج للقصيدة، وفيما يخص الإذاعة المسموعة والمرئية فلا أعتقد مطلقا بأنها تدفع للقصائد المذاعة ,غير أنه ما من شاعر يتوقع أن تذاع قصائده .

أما بالنسبة لتقديم برنامج إذاعي كامل لأعمال شاعر فربما يتطلب الانتظار عمرا بأكمله ،وقد يتطلب من بعض الشعراء المختارين تقديم عدد من الفعاليات للإذاعة ,بما في ذلك كتابة قصائد، إلا أنه لم يتم تقديم برنامج مكرس لأعمال شاعر وربما تحصل حين ينتقل إلى عالم آخر، لكن ما يراد قوله هو أنه يكاد يكون في غير المعتاد بالنسبة للشعراء أن تقدم برامج إذاعية لعملهم الكامل، وحين يأخذ المرء بعين الاعتبار أنه إضافة إلى ما ذكر قلما تقوم مجلة نقدية أسبوعية أو شهرية بنشر أكثر من قصيدة أو قصيدتين في عدد واحد, يغدو واضحا جدا أنه ما من شاعر بمفرده يستطيع نشر ما يكفي من القصائد خلال عام واحد بما يحقق له أي مدخول مقبول,إن معظم الصحف تعتبر القصائد الشعرية مواد مفيدة لملء أعمدتها ،ولم تشهد القصائد الطويلة فرصة للنشر في أية مجلة باستثناء مجلتين وصحف أخرى تعد على أصابع اليد, فمن ذا الذي سمع بأن واحدة من المجلات الأسبوعية خصصت صفحة بكاملها للشعر.

من المحتمل أن العالم سيتجاهل أمورا كهذه على نطاق واسع , والسبب في ذلك وأن بدا أمرا غريبا نوعا ما , هو أن مكانة الشعراء عالية على الرغم من كل شيء، وهي كما أخال _أعلى من مكانة الروائيين _فالمكانة العالية ل (محمود درويش) والمنزلة الكبيرة التي يتمتع بها شعراء مثل(عز الدين المناصرة) و (سميح القاسم) و (نزار قباني) وسعدي يوسف وأدونيس، قد تكون خادعة للجمهور الذي يخطئ إذ يتصور أن الدخل الذي يحصل عليه هؤلاء الشعراء من عملهم له علاقة من قريب أو بعيد بموقعهم كشعراء.

وفي هذا المجال فإن حال الشعراء أسوء بكثير جدا من الرسامين، فربما يتطلب الأمر من الرسام سنوات كثيرة قبل أن يصبح معترفا به رساما ,ولكنه حين يفرض وجوده يكون حينئذ بوسعه العيش من مهنته دون أن يساوم على مبادئه بصفته فنانا, فالصورة التي تباع بخمسين أو مائة دينار مساوية من حيث العمل والإلهام لقصيدة قد يتلقى الشاعر لقاءها من مجلة دورية محترمة سبعة أو عشرة دنانير,وقد يعني معرض للرسوم ما مقداره خمسة آلاف دينار بالنسبة لرسام معروف إلى حد ما, بيد أنه من غير المحتمل أن يحصل شاعر_لقاء ديوان من الشعر _استغرقت كتابته ذات الفترة الزمنية التي استغرقها قيام رسام بإعداد معرض رسوم في العاصمة أو إحدى المدن المعروفة،من غير المحتمل أن يحصل على أكثر من ثلاثمائة دينار في الوقت الراهن على شكل مكافأة مع عدد ضئيل من الديوان المنشور.

كيف إذن سيتسنى للشعراء أن يعيشوا ؟
ظاهر الأمر أنهم يجب أن يعيشوا عن طريق ألوان أخرى من العمل, أو بواسطة نوع معين من الدعم,ما يكن لديهم_كما يحصل قليلا في هذه الأيام _وسائل خاصة بهم،على السطح لا يبدو أن هناك سببا يحول دون ممارسة الشعراء نوعا معينا من العمل و كتابة الشعر في وقت الفراغ,إن كتابة الشعر لا تحتاج إلى إنارة خاصة كما هو الحال بالنسبة للرسم أو إلى ساعات من التمرين كالموسيقى,غير أنه ليس كل ما يحتاج الشاعر إليه قلم رصاص ودفتر ملحوظات زهيد الثمن إضافة إلى الإلهام على ما لهذه الأمور من الأهمية_فالشعر فن يجب التمرن عليه وله لغته و بلاغته اللتان يجب دراستهما.

يلزم أن يكون للشاعر وقت للمطالعة مثلما يلزم أن يكون له وقت للتفكير والشعور,إن معظم الشعراء اليوم يعانون من ضيق وقت المطالعة ,ونتيجة لهذا النقص فإن الكثير من شعر اليوم مفكك وغير ناضج،إن شاعرا يعمل كاتبا في مصرف أو موظفا في دائرة حكومية أو ميكانيكيا للسيارات أو حتى عضو هيئة تدريس في إحدى الجامعات الخاصة الأهلية ويعد واحدا من أكثر الموهوبين من جيل الشعراء الشباب,لا الصغار,لا يمكنه أن يعطي الوقت الكافي لدراسة أسلوب الشعر الذي هو ليس أقل تعقيدا في التخصص من ذلك الأسلوب الخاص بالموسيقى أو الرسم,على الرغم من أن تأثير ذلك التخصص أي التخصص بكتابة الشعر قد يكون بسيطا,مثل تأثير الرسم,ولكن لماذا لا يمارس الشاعر عملا ما كأن يعمل أستاذا جامعيا أو مدير مدرسة أو في الإذاعة المسموعة أو المرئية أو في وزارة الثقافة أو المركز الثقافي الوطني,عملا ليس منفصلا تماما عن الشعر؟

بعض الشعراء يستطيعون ويقومون بإيجاد وسيلة للتوفيق بين الاثنين، بيد أن آخرين وبعضهم من أحسن الشعراء غير قادرين على ممارسة عمل آخر،،، إنهم لا يصلحون لشيء سوى كتابة الشعر,فالشاعر الموهوب الملتزم بنصه يعتبر من نحس طالعه في الغالب أن يؤدي عملا سوى الشعر,قدر ما يتعلق الأمر بالشعر ذاته,وما من رجل يستطيع خدمة سيدين في آن واحد،إن أي شكل من الروتين أو الواجب المفروض هو عدو للإلهام,عدو لعادة الإصغاء إلى ذلك الصوت الباطني.

وإضافة إلى ذلك فإن الأعمال التي تتطلبها الحياة المعاصرة تستنزف ساعات طويلة من وقتنا كل يوم ,إضافة إلى كل طاقاتنا البدنية العصبية, أكثر بكثير مما كانت تتطلبه السنوات الخمسين الماضية من القرن الماضي،كما أنها تتطلب نوعا معينا من الاهتمام والإخلاص وإيمانا بالعمل الذي يجري القيام به,إما أن الشاعر لا يستطيع إعطاءه أو أنه يستنزف موهبته,ولا أحد يستطيع أن ينكر وجوب أن يهب معلم أو طبيب قلبه وورقته لعمله (وأنا أعرف شعراء يمارسون أو كانوا يمارسون كلتي المهنتين),وأن تكون معلما أو طبيبا في أيامنا هذه مهنه قاسية، هذا إذا تجاوزت في هذا الصدد ما تتطلبه مهنة كتلك المهنتين من حيوية ونشاط,يضيع في ترهات البيروقراطية ,كذلك فإن وجود الصحافة المتقلبة حالة لا يريدها الشعراء,فلم تشهد مهنة الصحافة سوى تغيير طفيف منذ أن كتب بلزاك(لس اليوجنز بردوس )،وهناك الحلقة التي لا تنتهي من الناس الذين يبيعون موهبتهم أو وقتهم في القراءة والمراجعة لكتب ومسرحيات لا تعسف العقل إلا بالقليل من الإدامة مقابل الساعات المهدورة في أعمال سرعان ما يتم نسيانها بعد قراءتها،والشعراء مثل غيرهم بحاجة إلى الاختلاط بأولئك الذين يمارسون العمل ذاته والاتجاه الفكري ذاته,ولئن يقوم الشعراء بممارسة عمل آخر غير كتابة الشعر فإن ذلك يعني في الغالب أن الشاعر يحكم على نفسه بالنفي عند اختلاطه بآخرين سواء كانوا موظفي مصارف أو فنيين أو مثقفين بيروقراطيين لهم اهتماماتهم و مهارتهم المختلفة عن اهتمامات الشاعر و مهارته.

إن كتابة الشعر عمل جاد يتطلب الفكرة والمهارة,ومن العبث التصور بأن الشعر العظيم يمكن أن يكتب في ساعات الفراغ عندما ينصرف زملاء العمل إلى زراعة الخضروات,أو مشاهدة كرة القدم أو المشاركة في الفعاليات الثقافية ,أو الإصغاء إلى البرامج الموسيقية،فقد يستطيع أحدهم كتابة مقطوعات غنائية أو قصيدة غنائية قلائل بهذه الطريقة ولكن ليس(بالأخضر كفناه) أو (جفرا) أو (رباعيات الخيام)أو (الأطلال) أو غيرهما من القصائد الرائعة، ولا يوجد اليوم سوى بضعة شعراء باستطاعتهم كتابة عمل طويل من هذا القبيل،ومن ناحية عملية فإن جميع الأعمال تقريبا تستغرق اليوم وقتا أطول من ساعات الدوام الرسمي الكامل إضافة إلى كونها مرهقة للغاية،أفهل يعقل أن نتوقع من الشاعر أن يبدأ عمله الحقيقي حين ينتهي هو وزملاؤه في المكتب من عملهم الرسمي؟

قد يلتمس الشاعر فائدة في هذا العمل إلا أنه لا يمكن أن يكون هذا حلاً دائماً،إن ما يبعث على الأسف تذكر الشاعر لتلك السنوات التي قضاها في أعمال روتينية تجعله شاعرا أسوأ مما كان عليه،إن العيش على هذه الشاكلة,كما يفعل الكثير من الشعراء,يتطلب قدراً كبيراً من الإيمان,وهو إيمان يجد تبريره, غير أن ثمن الأعصاب ثمن لا يستطيع أحد , حتى الشاعر ذاته الاستمرار في دفعه سنة بعد أخرى, دون الإضرار بصحته البدنية أو موهبته أو كليهما,وهناك دائماً الخطر المتمثل بأن القلق المتصل بهذه الحرية سيصيب ينابيع الشعر بالجفاف وعلى نحو مؤكد تماماً،،، كما تفعل الإرباكات المستمرة للصحافة أو حماقات البيروقراطية أو الإجهاد الناجم عن الكدح الجسماني.

ويبدو أن هناك افتراض حتمي للصعوبة التي واجهت الكثير من الشعراء،وتتمثل هذه الصعوبة الإبحار بين موقف قوامه فقدان نشاط المرء وحيويته في عمل يناقض كونه شاعراً وموقف آخر يتسم بحرية قلقة للغاية،،،، إن هذه الحالة موجودة بسبب أنه ليس من طبيعة مجتمعنا المعاصر أن يتيح للشعراء كسب ما يكفي من المال كما يتاح لرجال قادرين أو لا بد أن يكونوا قادرين على ذلك عن طريق تكريس أنفسهم لعمل اعتادوا ممارسته مثل تعليم الصغار أو زراعة الأرض أو كتابة الاستدعاء أمام المراكز الحكومية, وما شابه ذلك من شؤون المدينة الحديثة.


ما هو الحل إذن؟
عمل إضافي مناسب،،، من الصعب تحقيق ذلك غير أنه ليس مستحيلا، وفي اعتقادي أن الشاعر الفاضل في هكذا حال هو الذي لا يتردد في قبول مساعدة من يمد يد المساعدة,لأنه يعيد تسديد ديوانه إلى العالم أو مجتمعه على الأقل بعملة أثمن من الذهب.

إن عظماء الفنانين أنفسهم سوف لا يرفضون المساعدة من أنصارهم لأنهم يعرفون قيمة عملهم ,ولسوء الحظ فهناك في عالم الأدب والصحافة من يقبل المال لأغراض أقل أخلاقية, أناس لديهم من الموهبة في توفير المال أكثر من الكتابة،وبين العمالقة الذين يشمخون فوق مستوى الكبرياء الذاتية و الأقزام الذي يتضاءلون تحت هذا المستوى هناك مجموعة كبيرة من الكتاب الموهوبين يفضل الكثير منهم أن يقاسي مصاعب جمة على أن يمد يده استجداء للمساعدة أو حتى قبولها,وهؤلاء هم الذين يخلقون مناخ العالم الأدبي الذي تنبت في ظله أعمال عظيمة, وكثير من الشعراء يقاسون من حالة تشبه الموت عشر مرات قبل أن يصل إلى ذلك الموقع البارز الذي يرفع المجيدين منهم فوق ضغوطات الحاجة, تلك الضغوطات التي تقتل الموهبة في المراحل المبكرة،ومن المحتمل أن يكتشف الموهبة العظيمة في مراحلها المبكرة أكثر مما تستطيعه أية هيئة رسمية,ويلي هذا في سلم الأفضلية الناشرون الذين وإن كان لديهم دافع الربح منهم لا يخضعون لأي نفوذ سياسي أو عام،وهم قادرون على اتخاذ مواقف نزيهة ومن المرجح أن يهتدوا إلى معرفة الكتاب الموهوبين وعملهم خلال فترة ممارستهم للمهنة والهيئات الرسمية_ كما اعتقد_لا تعطي المال للكتاب الأحسن أو الأسوأ , بل إلى ذلك التيار العام المتوسط الجودة من الشعراء والفنانين الذين يمكن استيعاب عملهم من القراءة الأولى ومن المرجح أنه عمل لا يسيء إلى أحد.

الحل إذن يكمن في الدعم الرسمي,إضافة إلى دعم الجامعات،ويمكن أن تستفيد الجامعات والشعراء على حد سواء باتباع كل جامعة المثال الذي تضعه إحدى الجامعات والقاضي بتخصيص منحه مالية لكاتب مبدع واحد في الأقل،وهذا الكاتب سيكون إما مقيما في الجامعة أو مرتبطا بها على نحو حر،وهكذا فإن من الممكن منح لكليات الجامعة حيوية لا يمكنها الحصول عليها دائما عن طريق إعطاء الأولوية للموهبة الخلاقة،وكذلك فإن الشعراء الذين يحتاجون أو ينبغي أن يحتاجوا إلى المكتبات ومصاحبة العقول المنيرة في مجالهم الخاص أو المجالات الأخرى, ليسوا أقل استفادة من خطوة كهذه.

إن أهم ما يحتاج إليه الشاعر هو ضمان الشعور بالحرية وأن معيشته ستظل مضمونة في جميع الأحوال وما لم يتم إيجاد وسيلة أفضل لتمكين الشعراء من العيش ضمن الصورة الراهنة للمجتمع فلن يكون ثمة شعراء أصحاب نص واضح متميز،رأيي بموضوع (قدر الشاعر) هو أن الشاعر لم يأخذ حقه بشكل كاف ففي العصور القديمة كان الاهتمام بالشعر والشعراء أكثر من وقتنا الحالي فتجد عدداً قليلا يمارس الشعر أو يقرؤه وقد لا تجد, فالشعراء يستحقون أكثر بكثير فيجب ترويج أشعارهم والاهتمام بها وإعطاء الشاعر مكانته الصحيحة ويجب أن نقدر الشاعر الذي يتعب ويشقى حتى يقوم بكتابة القصيدة الواحدة ولندع الشاعر يعيش .




<!--

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 206 مشاهدة
نشرت فى 23 يوليو 2011 بواسطة MOMNASSER

ساحة النقاش

د .محمد ناصر.

MOMNASSER
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

356,770