عاشَ أبو العلاء المعري في زمن كانت فيه أمور الدولة الإسلامية مقسمة بين الولاة الطامعين الذين كل منهم كان يطمع لان يستقل في أمور ولايته ويدعو لنفسه مع البقاء على طاعته إلي دولة الخلافة اسميا .
ولم يكن الخليفة آنذاك ألعوبة بيدهم فهم الذين يولون ويعزلون من يشاؤون بالنسبة للمعري فان نسبه يعود إلى قبيلة تتوخ من عرب الجنوب الذين هاجرو بعد انفجار سد مأرب واستوطنوا في سوريا وكانت عائلته من العائلات المعروفة بالوجاهة والثراء والعلم .
فقد تقلد جده أمر القضاء في المعرة وقضاء حمص , ثم تولى عمه ثم والده القضاء أيضا .
وأبو العلاء يدعى أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد . ولد في المعرة سنة 363ه –973م وعندما بلغ الثالثة من عمره أصيب بداء الجدري فذهبت عينه اليسرى وعلت اليمن غشاوة ام تلبث أن ذهبت بها فأصبح وهو في السادسة فاقد البصر . أخذ المعري عن أبيه شيئا من اللغة والأدب والنحو ثم تتلمذ على محمد بن عبد الله بن سعد النحوي بحلب وبعدها رجع إلى المعرة فقرأ على بعض مشاهيرها كثيرا من العلوم الدينية والعربية .
وعندما استقر في المعرة كان قد بلغ العشرين من عمرة فانصرف إلى المطاعة والدرس ومال في أول أمره للتكسب في شعره فنال من ذلك مالا وفيرا إلا أنه كره التكسب بعد ذلك واقتصر في شعره على مراسلة نفر من اخوانه الأدباء وعلى رثاء بعض من أقاربه . ثم أخذ ينظم في أغراض وجدانية صرفة .
وبعد موت والد ه شعر المعري بعبء الحياة يقع على كتفيه . وضاقت الدنيا علية فأحب أن يزور بغداد ومهما علل الدارسون أسباب سفره إلى الدنيا فأن ذلك لن يغير شيئا من سير التاريخ ولقد سبقه شهرته إلى بغداد قبل أن يصلها ولقي هنالك رجالا احتفلوا به واعجبوا بعمله وادبه حرصوا على مجالسته ومع ذلك فقد عانى الكثير من الشقاء في بغداد نظرا لوجود حساد نغصوا عليه عيشته فرحل عن بغداد راجعا إلى المعرة .
وعلم أن أمه قد ماتت فتفجع لموتها وقطع كل صلة بالحياة الخارجية وسمى نفسه رهين المحبسين (البيت والعمى )منقطعا إلى الدرس والتدريس واثناء مكوثه في بغداد واحتكاكه برجالها استفاد من الاطلاع على بعض المعتقدات والمذاهب الهندية والفارسية التي ظهر أثرها القوي في أشعاره فيما بعد .
وكان المعري قصير القامة , نحيف الجسم , مشوه الوجه بالجدري , واقعد في أواخر أيامه , ثم مرض مرض الموت الذي لم يمهله أكثر من ثلاثة أيام وفاضت روحه إلى بارئها في النصف الأول من ربيع الأول سنة 449 (آذار سنة 1057 ) .
ولزهد المعري في الدنيا أسباب كثيرة تجمعت فكونت نظرته الفلسفية إلى الحياة . فقد أساء القدر إلى المعري بفقد البصر , وضعف الجسم , وموت الأهل , وقلة المال . فليس بدعا أن نرى ذلك القلق والتشاؤم والنقمة والمرارة تبرز ظاهرة جلية في أشعاره وتسن فلسفته بطابع خاص جهله البعض فرموه بالزندقة وفهمه القليلون . ومما زاد في اتهامه بالزندقة والإلحاد تكاثر الحساد والخصوم الذين ظهر عليهم المعري في شعرا وفلسفة فأرادوا التخلص منه برميه بالإلحاد تارة والزندقة طورا . ورغم مرارة انتقاده للحكام ورجال الدين والناس عامة فلم يستطع أحد أن يناله بأذى .
وأرى أن فلسفه المعري تنحصر في تعريف واحد (من الشك إلى اليقين ) فقد اتخذ طريق الشك في الوصول إلى اليقين ولكنه انحصر في دائرة الشك . وبقي فيها ولم يتمكن من الخروج , فقد منعته الكوارث التي أصيب بها . ولكن في قرارة نفسه كان اليقين مسيطرا . ومما زاد في تهجم الناس عليه ووصفهم إياه بالزندقة والإلحاد مهاجمة للطقوس الشكلية لا في الإسلام فحسب بل في جميع الأديان , ولكن الحقيقة أن المعري كان مؤمنا يقوم بواجباته الدينية ويعظم أمر أبناء النبي ويمدحهم ،ولا يمكن أن يكون ذلك تملقا وزلفى لانهم ام يكونوا على شيء من السلطان الدنيوي.
والناظر إلى شعر المعري مهما بلغ من قوة اللغة وحفظ مفرداتها لابد له من الرجوع إلى أمهات الكتب اللغوية في بعض المفردات التي يراها مبثوثة في ثنايا شعر المعري مما يدل على أن مفردات اللغة قد انقادت أليه وانه لغوي أديب وعالم . على أن كلفه أحيانا في الصناعة اللفظية من الجناس والطباق والتورية و التشجيع قد أضعف تراكيبه وجعل فيها نوعا من الغموض قد يشكل حله على ذوي الثقافة المتوسطة في اللغة .
وللمعري من الآثار الشعرية , غير ديوانه هذا (سقط الزند) لزوم ما ألا يلزم ويقع في خمسة أجزاء و كتاب سماه " الأيك والغصون " وهو المعروف بالهمزة والردف مؤلف من مائة مجلد ذهب جميعه ولم يبق منه ألا المجلد الأول.
قال يمدح أبا الفضائل سيف الدولة ولم ينفذها إليه (من الوافر ):
أعن وخد القلاص كشفت حالا ومن عند الظلام طلبت مالا
ودرا خلت أنجمه عليه فهلا خلتهن به ذبالا
وقلت : الشمس في البيداء تبر ومثلك من تخيل ثم خالا
وفي ذوب اللجين طمعت لما رأيت سرابها يغشى الرمال
رماك الله ,من نوق بروق , من السنوات تثكلك الافالا
وقال أيضا رحمه الله تعالى (من البسيط ) :
يا ساهر البرق أيقظ راقد السمر لعل بالجزع أعوانا على السهر
وان بخلت عن الأحياء كلهم فاسق المواطر حيا من بني مطر
ويا أسيرة حجليها أرى سفها حمل الحلي لمن أعيا عن النظر
ما سرت ألا وطيف منك يصحبني سرى أمامي ,وتأويبا على أثري
لو حط رحلي فوق النجم رافعه ألفيت ثم خيالا منك منتظري
وقال أيضا من الوافر والقافية من المتواتر :
معان من أحبتنا معان تجيب الصهلات بها القيان
وقفت به لصون الود حتى أذلت دموع جفن ما تصان
ولاحت من بروج البدر بعدا بدور مها تبرجها اكتنان
فلو سمع الزمان بها لضنت ولو سمحت لضن بها الزمان
رزقن تمكنا من كل قلب فليس لغيرهن به مكان
وفيت وقد جزيت بمثل فعلي *فها أنا لا أخون ولا أخان
وقال أيضا من الخفيف وقد تزوج الذي أرسل القطعة إليه وكان في داره جماعة من غلمانه فنقلهم منها عند دخول الحرم إليها :
ابق في نعمة , بقاء الدهور نافذ ألامر في جميع الأمور
خاضعات لك الكواكب تختص مواليك بالحل الأثير
لا يؤثرن في الولي ولا الحا سد حتى تشير بالتأثير
وتهن النعمى السنية , والبس حلل المجد والفعال الخطير
وتمتع بنضرة العيش إذ جاء تك في رونق الزمان النضير
خير أيدي الزمان عند بني الدنيا أتت في أوان خير الشهور
وقال يجيب أبا إبراهيم موسى بن أسحق عن قصيدة (من الوافر):
ألاح , وقد أرى برقا مليحا , سرى فأتى الحمى نضوا طليحا
كما أغضى الفتى ليذوق غمضا فصادف جفنه جفنا قريحا
إذا ما اهتاج أحمر مستطيرا حسبت الليل زنجيا جريحا
أقول لصاحبي , إذ هام وجدا ببرق, ليس يثبته نزوحا
وهاجته الجنوب لوصل حي أقام , ويموا دارا طروحا
سفاه لوعة النجدي لما تنسم من حيال الشأم ريحا
وغي لمح عينك شطر نجد إذا ما آنست برقا لموحا
وأمراض المواعد أعلمتني بأن ورائها سقما صحيحا
وقال يمدح بعض الأمراء (من الوافر ):
أفوق البدر يوضع لي مهاد أم الجوزاء تحت يدي وساد
قنعت فخلت أن البدر دوني وسيان التقنع والجهاد
وأطربني الشباب غداة ولي فليت سنيه صوت يستعاد
وليس صبا يفاد , وراء شيب بأعوز من أخي ثقة يفاد
كأني حيث ينشأ الدجن تحتي فها أنا لا أطل ولاجاد
رويدك , أيها العاوي ورائي لتخبرني متى نطق الجماد
سفاه ذاد عنك الناس حلم وغي فيه منفعة رشاد
أأخمل , والنباهة في لفظ وأفتر , والقناعة لي عتاد ؟
والقي الموت لم تخد المطايا بحاجاتي ولم تجف الجياد ؟
ولو قيل اسألوا شرفا , لقلنا : يعيش لنا الأمير , ولا نزاد
شكا فتشكت الدنيا , ومادت بأهاليها الغوائر و النجاد
وقال في مثل ذلك (من الكامل ):
أدنى الفوارس من يغير لمغنم فأجعل مغارك للمكارم تكرم
وتوق أمر الغانيات فأنه أمر إذا خالفته لم تندم
أنا أقدم الخلان , فأرض نصيحتي : إن الفضيلة للحسام ألا قدم
والحق بتباع الأمير وكن له تبعا , لتصبح بالمحل الأعظم
وإستزر بالبيض الحسان , ولايكن لك غير كمه صارم أو لهذم
المتقي بالخيل كل عظيمة والمستبيح بهن كل عرمرم
ومزيرها الغور الذي لو سلمت ريح على أرجائها , لم تسلم
أو بكر الوسمي يطلب أرضه نفذ الربيع وتربها لم يوسم
لا تستبين الشهب فيه تنائيا ويلوح فيه البدر مثل الدرهم
وله من أبيات عزى بها رجلا مات خاله :
خالك للرحمة أسلمته وأنت خال الكرم الماطر
كأنما دنيا الفتى عينه وشخصه إنسانها الناظر
يحسن فيها وبه حسنها وهي إذا بان ذرى داثر
وقال :
أقول لهم , وقد وافى كتاب تخال سطوره درا نظيما :
أليست كف كاتبه غماما يسح بها الشقاوة والنعيما
فكيف تخط في القرطاس رسما وشأن السحب أن تمحو الرسما ؟
فقالوا : من أطاعته المعالي تصرف كيف شاء بها عليما
كأن أبا الوحيد , وما عظيم لأهل الفضل أن يأتوا عظيما
تناول من لطافته نهارا ففرق فوقه ليلا بهيما
وقال :
خبرني ماذا كرهت من الشيب , فلا علم لي بذنب المشيب
أضياء النهار , أم وضح اللؤلؤ أم كونه كثغر الحبيب ؟
اذكري لي فضل الشباب وما يجمع من منظر يروق وطيب
غدره بالخليل , أم حبه للغي , أم أنه كدهر ألا ريب ؟
وقال :
إلى الله أشكو أنني كل ليلة إذا نمت لم أعدم طوارق أوهامي
فإن كان شرا فهو لابد واقع , وأن كان خيرا فهو أضغاث أحلام
وقال :
أراك في الأرض سيارا إلى شرف كما شبيهك في الآفاق سيار
كأنك البدر والدنيا منازله فما تلقيك إلا لا ليلة دار
وقال:
تعاطوا مكاني وقد فتهم فما أدركوا غير لمح البصر
وقد نبحوني وما هجتهم كما نبح الكلب ضوء القمر
وقال :
لعمري لقد وكل الظاعنون بقلبي نجما بطيء الغروب
أقول , وقد طال ليلي علي : أما لشباب الدجى من مشيب
أقصت نسور نجوم السماء فلم تستطع نهضة للمغيب ؟
وقال:
حي من اجل أهلهن الديار وابك هندا لا النؤي والأحجار
هي قالت لما رأت شيب رأسي أرادت تنكرا وازورارا
أنا بدر وقد بدا الصبح في را سك والصبح يطرد الأقمار
لست بدرا وانما أنت شمس لاترىفي الدجى وتبدو نهارا
وقال:
لله أيامنا المواضي لو أن شيئا مضى يعود
أبلى ودادي اكم زمان ألين أحداثه حديد
لم يبلى من بذلة ولكن يبلى على طيه الجديد
وقال يهجو شويعر :
ورائي أمام والأمام وراء إذا أنا لم تكبرني الكبراء
بأي لسان ذامني متجاهل علي ، وخفت الريح في ثناء
تكلم بالقول المضلل حاسد وكل كلام الحاسدين هراء
ومن هو حتى يحمل النطق عن فمي أليه وتمشي بيننا السفراء
أني لمثر يا ابن آخر ليلة وان عز مال فالقنوع ثراء
ومذ قال أن ابن اللئيمة شاعر ذوو الجهل مات الشعر والشعراء
تساور فحل الشعر أو ليث غابة سفاها وأنت الناقة الشعراء
أتمشي القوافي تحت غير لوائنا ونحن على قولها أمراء
وأي عظيم راب أهل بلادنا فأنا على تغييره قدراء
وما سلبتنا العز قط قبيلة ولا بات منا فيهم أسراء
ولاسار في عرض السماوة بارق وليس له من قومنا خفراء
ولسنا بفقري يا طغام إليكم وانتم إلى معروفنا فقراء
وقال وقد كتبا على ستر فيه صور طيور :
الحسن يعلم من واريته قمر تستر غمام أبيض
غشي الطيور غوافلا فتحيرت منه فلم تبرح تتنفض
وقال في سفر :
بتنا فريق في سروج ضوامر منا ,وآخر في رحال عرامس
سلب الكرى من ذاق الكرى منا ,وطار لب الناعس
فالمرء يلثم سيفه وقرابة ويظنه وجنات أغيد مائس
حيث الشمال عن العنان ضعيفة والسوط يسقط من يمين الفارس
لاتحسبي إبلي سهيلا طالعا بالشأم فالمرئي شعله قابس
هذي العواصم فاسألينا ما بها وذري مآرب من زرود وراكس
ولقد أظل تظلني صحابتي والشمس مثل الأخزر المتشاوس
خيل شوامس في الجلال إذا هفت ريح , وإن ركدت فغير شوامس
والذئب يسألنا الشراك ودونه طيان أشعث كالفقير البائس
لترح مناسمها فإن ورائها عجز النهار وصدر ليل دامس
ولقد غصبت الليل أحسن شهبه ونظمتها عقدا لأحسن لابس
وأفدتها القدح المعلى فائضا يجري ولم أقنع لها بالنافس
وقال على لسان امرأة توصي ابنها بلبس الدرع وترك الزواج :
عليك السابغات فأنهنه يدافعن الصوارم والأسنة
ومن شهد الوغى وعليه درع تلقاها نفس مطمئنه
وحبات القلوب بكن حبا إذا دارت رحاها المرجحنه
على أن الحوادث كائنات وما تغني من القدر الأكنه؟
ونعم ذخيرة البدوي زغف أو أن البيض يسقطن الاجنه
نشرت فى 25 مايو 2011
بواسطة MOMNASSER
د .محمد ناصر.
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
383,560
ساحة النقاش