المثاقفة
تحت عنوان " الفرانكفونية " و " التنجلز" و " التأمرك " والثقافة العربية المعاصرة قدم الشاعر من أصل فلسطيني ،عزالدين المناصرة في مجلة الحرية 26/1/ 1986 دراسة قيمة لمسألة المثاقفة التي انفتح حديثها العربي منذ الطهطاوي أو قبيله ، ولسوف يظل مفتوحاً . ولكن ليس بالتأكيد على النحو الذي غلب عليه حتى الآن. ما دامت الشعوب تتلاقح والثقافات تتفاعل .
يحدد المناصرة الحلقة المركزية في عملية المثاقفة على أنها الصراع وفق قوانين الأشكال ، ويرسم صورتها الحسنى المشوب بعقدة التلذذ بالاستغراب ، والغزو الامبريالي ، من بدايته الفرنسية والانجليزية ، إلى مآله الأمريكي الراهن .
ظلت سيرورة المثاقفة كما يرى المناصرة تدور في إطار الصراع ألتناحري والقبول الاضطراري بين حدي : شرق – غرب . ولم يتغير شيء فيها سوى الأسلوب ، وهو يرسم مواقف المثقفين في هذه السيرورة بين متلذذٍ بالاستغراب ، وسلفي رافض للنموذج الأوروبي ، ورافض للاستغراب والسلفية القومية معاً ، وأخيراً : الانتقاء والاختيار .
تلك هي المفاصل الأساسية التي تقوم عليها فيما بعد معالجة المناصرة لعالمية الأدب أو الحداثوية أو المسار الثقافي الجزائري . وإذا كنت أؤكد على أهمية المعالجة وما تأسست فيه من المفاصل السابقة ، إلا أنني لا أراها كافية لرسم المآل الذي نعيش لعملية المثاقفة .
ولكنني أرى أنه ثمة إضافات لا بد منها لمعالجة عز الدين المناصرة ، كيما تكون مصداقيتها أقوى .
* لم يعد البطل الروائي طالباً أو سائحاً في عواصم الغرب الامبريالي . بل بات في الغالب ذلك المثقف المناضل المهزوم أو المنفي.
* لم يعد الذكر البطل الوحيد ولا الكاتب الوحيد أيضاً . لقد دخلت المرأة العربية على الخط، فماذا ترتب على ذلك ؟
سوف تكون الخيبة كبيرة إن توقع المرء انعطافاً جذرياً في الروايات المعنية بهذه المعطيات عما كان لسالفاتها .
إن عامل الزمن هام جداً هنا ، فعلى الرغم من محولات العقدين الأخيرين ، ليس لنا أن نتوقع نضجاً كبيراً في هذه العملية . لكن البذور أخذت تنبت ، وليس لنا أن نتجاهلها أو نغمطها حقها ، فضلاً عن أنه علينا أن لا نوفر جهداًُ من أجل استوائها وإنضاجها .
لا يزال تجنيس المثاقفة يبدو الحاصل الأول للعملية برمتها ، أياً كان مكانها ، وسواء أكان البطل الروائي أو الكاتب ذكراً أم أنثى . ولا يزال تجلي هذا التجنيس تغلب عليه العقد النفسية الشهيرة . والتمركز الروائي حول الأنا ، وأشباه النص الروائي بالسيرية، ظلَّ لهما حضور متفاوت . لكن نقله ما قد تحققت في تراجع ظاهرة الامحاء أمام الآخر ، والذوبان فيه ، والتلذذ بالاستغراب . وكذلك في تراجع الظاهرة المناقضة، أي: رفض الآخر رفضاً مطلقاً، فبدلاً من هاتين الظاهرتين أخذ يبرز الموقف النقدي، أخذ يبرز السؤال الذي قد يكون عصبياً وحاداً، لكنه أيضاً جذري وجادّ. لقد أخذ ينضج نقد ومساءلة الأنا ، النحن ، والآخر .
فإذا كان التلذذ بالاستغراب يرسم حالة أدونيس أو موجة البنيويين وجل الذي يلوحون بعَلَم الحداثة ممن دعوت جهدهم بالتنوع على الشكلانية في النقد الأدبي ، فإن رفض الاستغراب والسلفية قد عبر عن نفسه في تدرجات وألوان من الانتقائية ، قد يرجح معه الميل السلفي القومي ، وقد يرجح الميل الماركسي ومن النادر أن يصل إلى العدمية التي لا يخفيها ادعاء التخلص من سائر المؤثرات . وبالتالي ، فإن الموقفين الثالث والرابع اللذين رسم عز الين المناصرة لما كان للمثقف في عملية المثاقفة ، هما تدرجات موقف واحد ، على الأقل في هذا الشطر من الثقافة ، في النقد الأدبي وفي الفكر النقدي الأدبي المعاصر . وعلى الرغم من وجاهة مبررات التعميم في دراسة كالتي يقدم المناصرة ، إلا أن الإشارات السابقة ضرورية .
أما على المستوى الروائي فيبدو الأمر أكبر . لقد تواترت في الثمانيات ، ولا يزال التواتر قائماً . الروايات المعنية بحدي : شرق- غرب ، بمسألة المثاقفة ، وذلك في جذر عنايتها بما يمكن أن يدعى بوعي الذات ،- الفردية والقومية- . ووعي الآخر - العالم - ، وعلى نحو غير ما عهدناه منذ توفيق الحكيم ويحي حقي ، على الرغم من أن الخط الذي ابتدأ في " عصفور من الشرق " أو كتابات الطنطاوي لا يزال له حضوره .
وترتسم المعطيات الجديدة في الروايات التي بات لها شأن آخر مع المثاقفة ، وبإيجاز شديد ، على النحو التالي :
* عكس خط الرحلة من مركز الأنا / النحن إلى مركز الآخر ، وتصوير اللقاء ( الاحتكاك – الصدمة – الغزو ) إذن في مركز الوطن .
* تنويع مركز الآخر في الروايات التي خط الرحلة إليه ، إذ لم تعد باريس وحدها ، ولا لندن . ثمة ألمانيا ، النرويج حتى أمريكا .
* تنويع الآخر القادم إلى مركز الوطن من السائح السويسري إلى الغازي الصهيوني إلى الصديق اللاتيني .
ومن التبادل الذي طرأ أيضاً اتسام لقاء الغرب الاشتراكي عامة بالإيجاب والفاعلية . وإذا كان ذلك موقوفاً في تجلياته على الكتاب ممن كانوا ذوي نزعة ماركسية ( حنا مينه وسميح القاسم وصنع الله إبراهيم ) فإن ظاهرة الصراع العنفي مع الآخر / الامبريالي تشمل الجميع ، أياً كانت توجهاتهم ، ودون أن يعني ذلك الصراع الرفض المطلق للآخر .
بالطبع، ليس هذا كل شيء. فإذا كانت المعطيات التي توفرت لي محدودة بروايات الياس الديري وعبد الحكيم قاسم وسليمان فياض وحنا مينه وسميح القاسم وحميدة نعنع ... فإن تلك المعطيات باتت أقوى وأوفر بعد ظهور ملحمة مدن الملح لعبد الرحمن منيف.
وما يهم من ذلك كله أن معالجة عملية المثاقفة اليوم بمعزل عن تلك المعطيات والإشارات الجديدة ، ينال من مصداقيتها في رسم الراهن ، وبالتالي في التأسيس للمنشود منها . وإذا كانت المعطيات والإشارات والإضافات الجديدة وليدة النقد والرواية ، فليس ذلك مما يضعف شأنها ، فرجحان الجانب الأدبي لا يزال قائماً في ثقافتنا للأسف . وهذا الرجحان ، الذي له ولما يولده ، من أسف ، أسبابه مما لسنا في صدده هنا ، يضاعف من أهمية العناية بالأدب في درس عملية المثاقفة وإنضاجها . على أن أمر المعطيات والإشارات والإضافات الجديدة ليس فيما أزعم وقفاً على الرواية والنقد ، بل هو أيضاً في جوانب أخرى من ثقافتنا . وهذا ما نأمل أن يواصل الحديث فيه من هم أقدر على الخوض في تلك الجوانب ، كما في مسألة المثاقفة برمتها ، في وقت يبدو فيه أننا لا نواجه تفرنساً أو تنجلزاً أو تأمركاً وحسب ، بل تأسرلاً أيضاً .
نشرت فى 25 مايو 2011
بواسطة MOMNASSER
د .محمد ناصر.
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
383,629
ساحة النقاش