محمد ناصر
الصناعة والأدب
أخطر ما قدمته الصناعة المعتمدة على العلم المتطور من معطيات بالنسبة لدنيا الأدب هو إتاحتها الفرصة أمام الكلمة لتصل إلى كل إنسان حيثما يكون. وعلى الرغم من أن معرفة الإنسان للكتابة كانت البداية الرئيسية في هذا الاتجاه, إلا أن الانجاز الحقيقي تم مع الطباعة وتطورها المذهل, ثم مع البث العادي والرقمي وتطوره الأكثر أذهالآ وفعالية.
فلم يعد الإنسان بحاجة إلى السفر إلى أسواق الأدب أو محافل الخطابة أو دور المسرح ليلتقي بفنون الأدب, بل غدت هذه الفنون تسعى إليه مطبوعة, ومنطوقة ومجسدة في صورة كاملة... ولكن هذه المرحلة مرت بطورين هامين, فقد تم هذا التطور العلمي والتقني على مراحل زمنية بطيئة أول الأمر ثم مسرعة سرعة مذهلة آخرة..والجزء الأول من هذه المرحلة و هو الأطول زمنا والأبطأ تطورا هو الذي تدين له البشرية بالتعرف على نفسها وعلى الحياة من حولها فيما سمي بالعلم.. وبالتعرف على الوجود الداخلي للإنسان, وكيفية وقع الأحداث على هذا الوجدان وآماله وأشواقه التي تتمثل في هذا الوجدان, فيما عرف بالفن.. وبالتعرف على الوجود العقلي للإنسان, وكيفية تفكيره في الأشياء وكيفية فهمه لهذه الأشياء, أو عدم فهمه لها فيما عرف بالفلسفة.. ومنذ بدء الحضارة الصناعية أو الحضارة الغربية المعاصرة وحتى منتصف القرن العشرين, كانت البشرية تقترب من حدود المعرفة في إيقاع منتظم, وفي مغامرات متصلة في ميادين التجريب والانفعال والتحليل, وكانت تعرض كل خطواتها على التربة والوجدان والعقل لتكون حصيلتها مما نسميه باسم الحضارة.......
وعلى الرغم من أن الحضارة الغربية هي وريثة الحضارات السابقة, ومن أخطرها الحضارة الإسلامية , ألا أن طابع التطور الصناعي السريع صبغها بصبغة مميزة وهامة لم تعرفها الحضارات التي سبقتها كلها. تلك الصبغة هي ما حدث من ربط كل بقاع الأرض عن طريق المواصلات المتقدمة تدريجيا حتى تمكنت بالفعل من السيطرة على المكان سيطرة مذهلة,وما حدث عن طريق وسائل الاتصال المتقدمة تدريجا التي مكنتها بالفعل من السيطرة المذهلة على الزمان لتلغيه تماما... وطوال هذه المرحلة كانت الحروب التي تجتاح العالم تعكس صراع الإنسان ضد طغيان جنس أو طغيان فرد, أو طغيان فكر واحد على العالم كله........
إن الحروب التي بدأها الغرب استعمارية في افريقية وآسيا وأمريكا في مطلع القرن السابع عشر, انقلبت إلى حروب بين الغرب ونفسه في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين, لتتحول إلى حروب للبقاء على القمة في الحضارة الغربية , أو بمعنى أصح حروب بين الورثة كل يريد أن يكون الوارث الوحيد للحضارة الإنسانية كلها , يقودها ويرث ثرواتها الفكرية والعلمية ليسخرها في استغلال كل ثروات الأرض المباحة لسيطرته هو,وإعلاء نفوذه هو وحده على كل الآخرين... وكان هذا يعني تصارع أصحاب القدرة على تسخير العلم من أجل الانفراد, والتفوق في تسخير العلم للسيطرة على الإنسانية... وما قارب القرن العشرين على الانتهاء حتى تبين أن هذا الهدف مستحيل تماما_ وان العلم أعطى أسراره للجميع على السواء. وانتهت التصفيات التي شهدها مطلع القرن بقناعة رئيسية وهامة, تقول إن الحضارة ملك للمتحضرين, ويشارك فيها الجميع, ولا أمل لتفوق مطلق لأحد أو جنس أو لفكر واحد أبدا..وقد لعبت آلات الفن وأدواته على مختلف درجات تطورها دورها البارز والرئيسي في غرز بذور الكراهية بين هؤلاء الورثة ليثب كل وارث على عنق أخيه في محاولة لتحقيق الكلمات الضخمة والفخمة التي قالتها كلمات الأدب والفن من خلال أجهزة الإعلام ذات الولاء لهذا الجانب أو ذاك وع التطور التقني لهذه الأجهزة أصبحت هي التي تلعب الدور الرئيسي في معنى الهز يمه وفي معنى النصر على السواء بين الأطراف المتصارعة لورثة قيادة حضارة الغرب وثروات الدنيا ومعنى النفوذ الشامل والمطلق
وليس مدهشا والحال هذا أن نقول إن التطور الصناعي في أجهزة الحرب ومعداته صحبة بصورة طردية تطور صناعي في أجهزة الإعلام ومعداته وكذلك ليس مدهشا والحال هذا أن تقول إن غزو الفضاء ارتبط بمتطلبين عمليين أساسيين احدهما هو التجسس على القوى الحربية الموجود في العالم كله والأخر هو السيطرة على البث الإذاعي والتلفزيوني على كل أجهزة الاستقبال في العالم كله أيضا فالتحكم بالإنسان بواسطة اله الأكثر فعاليه بقتله وقهره ارتبط طرديا بالتحكم في الآلة الأكثر فعالية في الوصول إلى عقله ووجدانه وقهره هذا العقل والوجدان وتطويعهما معا لإرادة صاحب السيطرة العلمية والتقنية الأعلى قيمة والأقدر فعاليه
وان أدى هذا إلى صراع رهيب حول آلات الدمار فقد أدى إلى تنافس صحي وناجح حول آلات البث والطباعة ووسائل المواصلات والإعلام الأكثر قدرة وصلاحية وان كانت وسائل الدمار والحرب قد ضلت سريه وخاصة ، إلا أن وسائل المواصلات ووسائل الإعلام معا قد أصبحت مشاعا وملكية عامة للجميع ، وعلى قدر ما ساعدت سرية ووسائل الحرب على التقليل من خطرها لخوف كل فريق من أسلحة الفريق الآخر التي لا يعرف من أمرها شيئا ، ساعدت علنية وسائل المواصلات والإعلام على التقليل من شأن الحرب وخطرها فكل اختراع جديد سرعان ما تتسرب اخبارة إن عمدا وان صدفة إلى كل أرجاء العالم ليبعث الذعر في قلوب كل من لا يمتلكونه ولكن ليدفع أيضا الآخرين إلى العمل لامتلاكه أو امتلاك ما يبطل مفعوله . وفي الوقت الذي تحولت الحرب بين القوى العظمى في العالم إلى حرب مخترعات مهلكه تولت أجهزة الإعلام في كل الجبهات مهمة القتال في الكلمة وفي الفكر في محاولة كسب الأرض التي أصبح من المتعذر كسبها في الحروب الساخنة وظهر على سطح الحياة فوق الأرض ما نعرفه باسم الحرب الباردة أو الحرب النفسية وهذه الحروب واقع حقيقي دارت في كل مكان على ارض كل بلد من بلدان العالم التي تمتلك القوة كما دارت فوق ارض كل بلد من بلدان العالم التي تمتلك الثروة التي يطمع فيها أصحاب القوة وفي هذه الحرب تمت انتصارات وتمت هزائم دون أن تستخدم القوى المتحاربة أسلحتها الضاربة المخيفة التي تهدد لو استعملت في فناء العالم اجمع وهذا الموقف المتشابك والمعقد هو الذي انهي حاله التطور التدريجي والطبيعي في وسائل النشر والبث التي ظلت إلى حد كبير تحت سيطرة المجتمعات الصغيرة خاضعة لتقاليده وحاجاته الخاصة ونشر لغتها وأدبها وفنها لتخلق حالة من الخضوع لتأثير وسائل الإعلام الأكثر فعالية والأكثر قدرة والتي تمتلكها الدولة الأكثر قوة ونفوذا وغناء بحيث يتجه إنسان العصر تدريجيا إلى أن يصبح هو كفرد هدفا مباشراً للحرب الإعلامية الدائرة بين القوى الأعظم في عالم اليوم وهذا ما ينهي خصوصية التلقي للفن عند متلقي اليوم ، ومن هنا يبدأ التلقي الفني في العودة إلى أن يكون تلقيا جمعياً من جديد .
نشرت فى 25 مايو 2011
بواسطة MOMNASSER
د .محمد ناصر.
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
383,627
ساحة النقاش