محمد الفاتح .. صلاح القائد وصلاح الأمة

د. عبد اللطيف الصباغ

يتساءل البعض عن سبب الندرة في ظهور القيادات الفذة في تاريخ أمتنا، ولكن هل القادة العظام صنعوا الانتصارات أم الأمة صنعته؟! تشير أحد مدارس تفسير التاريخ إلى دور الفرد في تحريك عجلة التاريخ ومصائر الأمم، ومع عدم إيماننا بدور فرد واحد في تحريك تاريخ الأمم إلا أن الجهاز الإداري للدولة هو الذي يتحكم في مصائر الأمم، فإذا صلح الجهاز الإداري صلحت الأمة وإذا فسد فسدت الأمة، ويأتي في مقدمة هذا الجهاز ويشكله، في نظم الحكم الشمولي بخاصة، الرئيس أو السلطان أو الملك، ولكن لابد من وجود حد أدنى من صلاح الأمة، لكي تفرز القائد الفذ، لذا يبزغ دور القادة أمثال عمر بن عبد العزيز وصلاح الدين وقطز ومحمد الفاتح وغيرهم في تاريخنا الإسلامي، فإذا نجح رأس الدولة في انتقاء جهازه الإداري وإصلاح ما يظهر من خلل في هذا الجهاز وفي أحوال الرعية، تهيأت له أسباب النجاح. وفيما يلي مثال لهذه القيادة.    

اشتهر السلطان محمد الثاني في تاريخ الدولة العثمانية بلقب "الفاتح" لنجاحه في فتح مدينة القسطنطينية، معقل المسيحية في العصور الوسطى، بعد اعتلائه العرش بثلاث سنوات فقط، ولم يتجاوز آنذاك  الثانية والعشرين من عمره، محققاً بذلك نبوءة المصطفى صلى الله عليه وسلم (لتفتحن القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش) بعد ثمانية قرون ونصف، فما مقومات ذلك الفتى التي أهلته لتحيق تلك النبوءة ؟ وقبل البحث في المقومات نستوضح سوياً أهمية المدينة.

لماذا القسطنطينية ؟  

بنيت القسطنطينية في نهاية القرن الثالث الميلادي، بأمر من الإمبراطور قسطنطين لتكون معقلاً للمسيحية، وتضع نهاية لحقبة اضطهاد المسيحيين التي استمرت ثلاثة قرون، لذا اعتبر كثير من المؤرخين تاريخ بنائها بداية للعصور الوسطى ونهاية للعصور القديمة. اختار الإمبراطور قسطنطين لمدينته موقعاً حصيناً فوق صخرة مرتفعة تشرف على الممر المائي (بحر مرمره) الذي يربط البحرين الأسود بالمتوسط، ويتسرب من هذا الممر شمالي المدينة قرن من الماء (القرن الذهبي) يربط المدينة بالعالم الخارجي يتحكمون في مدخله بسلسلة عظيمة تسمح بمرور السفن وتمنع المغيرين، وأحيطت المدينة بسلسلتين من الأسوار وأبراج مزودة بمدافع ونيران إغريقية، تحرق السفن المغيرة بكل سهولة، على صفحة بحر مرمره، فكانت القسطنطينية عند ظهور الإسلام أقوى مدن العالم تحصينناً.

حاول حكام المسلمين أن ينالوا شرف تحقيق بشارة المصطفى صلى الله عليه وسلم، بدأت المحاولات منذ عصر الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتكررت في عهد معاوية بن أبي سفيان مرتين، ثم حاول سليمان بن عبد الملك، وفي العصر العثماني تجددت المحاولات على يد بايزيد الأول ومراد الثاني لكنها لم يكتب لها النجاح، ونعود للفاتح.

التربية والإعداد :

ولد محمد خان بن السلطان العثماني مراد الثاني في عام 833هـ/ 1428م، تعلم الفروسية وفنون القتال منذ نعومة أظفاره، لكنه كان أميراً متمرداً ذا شخصية قوية ظهرت عليه بوادر القيادة، فولاه أبوه إقليم ماغنيسيا في سن غضة، وأرسل إليه عدداً من المعلمين يتعهدونه، لكن تمرد الأمير لم يمكنهم السيطرة عليه، فلم يتعلم شيئاً، فتخير له أبوه عالماً ربانياً مهاب الطلعة قوي الشخصية شديد الشكيمة يدعى "أحمد بن إسماعيل الكوراني" وأمره أن يعلمه ولو تطلب الأمر ضربه. دخل الكوراني على الأمير في مجلسه قائلاً "أرسلني أبوك للتعليم والضرب إذا خالفت أمري " فضحك الأمير ساخراً فأخرج الكوراني من في المجلس وضرب الأمير ضرباً شديداً، امتثل الأمير الصغير وعلم أن الأمر جد وليس بالهزل، نجح الكوراني في ترويض الأمير الصغير، وجعله يحب العلم ويجل العلماء فوضعه على الطريق الصحيح، نبغ محمد وحفظ القرآن في مدة يسيرة، ثم أتقن إلى جانب اللغة التركية العربية والفارسية واللاتينية، وكان الأستاذ ينادي تلميذه باسمه مجرداً دون ألقاب، وكان التلميذ يجل أستاذه ويقبل يده.  

بعد أن أتم الشيخ الكوراني مهمته خلفه الشيخ محمد بن حمزة "آق شمس الدين" في تربية الأمير محمد خان، فرباه على الجهاد في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، موضحاً له قيمة هذا العمل تاريخياً ودينياً، وأظهر له محاولات المسلمين السابقين لفتح القسطنطينية ومحاولة الخلفاء والأمراء والسلاطين أن يكون لكل منهم شرف تحقيق نبوءة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فشب الأمير محمد خان على حب الجهاد وتاقت نفسه إلى فتح القسطنطينية، وتمنى أن يكون هو الأمير المقصود في حديث النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وأن يكون جيشه هو المذكور في الحديث أيضاً. شب محمد خان على تعظيم أوامر الله واختار حاشيته وبطانته من العلماء، فحظي العلماء في عصره بكل اهتمام وعناية، وغدت إسلام بول (القسطنطينية) في عهده ملاذاً للعلماء، كما استعان ببعض علماء من أوربا.

الخواتيم :

وعندما أراد السلطان محمد الثاني بعد فتح القسطنطينية أن يعتزل السياسة ويتفرغ للعبادة استشار معلمه الشيخ أق شمس الدين، فقال له الشيخ "إنك إن دخلت الخلوة تجد لذة تسقط عندها السلطنة من عينيك فتختل أمورها وما أنت فيه أفضل للرعية من دخولك للخلوة والتعبد" فاستجاب السلطان لنصيحة معلمه، فعبادته لنفسه أما صلاحه فلأمته، وهذا فهم نحتاجه في كل حين.

كان الفاتح محباً للجهاد، فظل مجاهداً طوال حياته، ومات وسط جيشه في آسيا الصغرى، في مرض ألمَّ به في 14 ربيع أول 886 (1481م) وهو في الثانية والخمسين، وجيشه الآخر قد عبر جنوب إيطاليا لنشر الإسلام فيها، فتراجع بعد سماعه نبأ الوفاة، وعم الفرح كنائس أوربا فأقامت الأفراح ابتهاجاً، ورسم الصلاح ملامح وصية الفاتح لابنه فأوصاه بالعلماء خيراً، وأن يتقي الله في الرعية وفي مال المسلمين، ويتجنب الكبائر فإن الترف من المهلكات، وأن أعظم الأعمال الجهاد في سبيل الله.  

المصدر: أ.د/ عبد اللطيف الصباغ
  • Currently 43/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
14 تصويتات / 412 مشاهدة
نشرت فى 27 يناير 2011 بواسطة Latif

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

20,994