جمال الدين الأفغاني ... بين الحقيقة والافتراء

د. عبد اللطيف الصباغ

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                          

الأفغاني داعية تجاوز نشاطه حدود إقليمه الذي نبت فيه، غزا العالم الإسلامي بأفكاره وطموحاته وخططه في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قرن التحديات ومخاطر الغزو الأوربي لبلدان العالم الإسلامي، احتار الكثيرون في حقيقة شخصيته ومذهبه وتفسير سلوكه ومنهجه وحتى بلده الأصلي، فاتهمه البعض بأنه عميل شيعي، واتهمه فريق ثان بأنه ماسوني عميل للغرب، يظهر في كل محفل بما يناسبه من مظهر وفكر، واتهمه شاه إيران بأنه بهائي، ورآه فريق رابع عالم سني مصلح مجدد.  

أدرك الإمام محمد عبده عمق الخلاف حول الأفغاني وتباين صورته في مخيلات المختلفين عليه فقال" كأنه حقيقة كلية تجلت في كل ذهن بما يلائمه، أو قوة روحية قامت لكل نظر بشكل يشاكله". أتقن الأفغاني اللغة العربية في صباه، وجاب بلدان العالم الإسلامي شرقاً وغرباً وعاش في أكثرها وعايش مشكلاتها وأبدى رأيه فيها وقدم حلولاً لمعظمها، وسافر إلى كثير من العواصم الغربية مناقشاً الآخر في أفكاره عن الإسلام، فصحح كثيراً من مفاهيم المفكرين الأوربيين آنذاك عن الإسلام، وانتهت حياته في الأستانة بشكل لا يقل غموضاً عن موطنه ومذهبه وحقيقة انتماءاته، فما هي الحقيقة في حياة الأفغاني وأفكاره وانتماءاته؟

في البداية لابد أن أقرر حقيقة أن ما أذهب إليه في هذا المقال مجرد اجتهاد قائم على حسن الظن بعلماء الأمة، وأحسب أن الأفغاني واحد منهم، وليس الهدف الحكم على الشخصية، فقد أفضى الرجل إلى ما قدم والأمور بمقاصدها كما يقولون، وإنما المقصد هنا البحث في ظواهر الأمور، واستقاء الحكمة والبحث في سير الصالحين عمّا يفيد الأمة.

بين السنة والشيعة :

كانت أولى المعضلات في تفسير انتماء الشيخ أن تسابق كل من السنة والشيعة في تأكيد انتمائه إليهم، فالشيعة يرون في نشأته العلمية بإيران وتعليمه على يد الحوزة في النجف دليلاً على شيعيته، ورأى السنة في محل ميلاده ببلاد الأفغان وهدمه لكثير من آراء الشيعة دليلاً على انتمائه للمذهب السني. والحقيقة أن الرجل أمام ما يواجه الأمة من أخطار سما فوق القوميات والأعراق والمذاهب والخلافات الفرعية التي لا معنى لها، فقدم مشروعات وحدة إسلامية تجمع السنة والشيعة تحت راية الخلافة، في وحدة كاملة لا تقتصر على الوحدة السياسية فقط، فتبقى الخلافات المذهبية تنخر في عظامها. حارب الأفغاني الجمود والتطرف والمغالاة، في كل ما قابله من أفكار، بغض النظر عن المذهب. وكان العالم الإسلامي يمر بواحدة من أخطر مراحله، ويواجه تحديات كبيرة، فكان في حاجة إلى عقول مستنيرة تبصره بحقيقة وضعه بين الأمم وتضيء له الطريق للوحدة.

الأفغاني وشخصية المسلم

حرص الأفغاني على إعلاء قدر الإنسان وقدرته، فتناول مسألة القضاء والقدر ببساطة شديدة، مخلصاً إياها من الأفكار الجبرية التي تحبط الإنسان، وأظهر قدرة الإنسان على فتح المغاليق الكونية والنفسية، وفي سياسة الدنيا وعمار الكون أوضح الأفغاني أن الشريعة أوضحت الكليات والمقاصد والغايات وأعطت نماذج للتشريع في آيات الأحكام، ثم تركت للعقل البشري أن يشرِّع ويبدع فيما لا نص فيه، ممتثلاً روح الشريعة ومصلحة المجتمع في كل زمان ومكان.

إصلاح المجتمع

دعا الأفغاني إلى الاستفادة من علوم العصر، فالدين الإسلامي أقرب الأديان إلى العلم والمعرفة، لما لهذه العلوم من قدرة على الرقي بالمجتمع وحل مشكلاته مثل الفقر والجهل والمرض والعجز واليأس والتخلف، ودعا إلى البحث عن وسائل لتربية جيل جديد من الشباب بعلم صحيح وفهم جديد، يقبل الموت فداء للدين والوطن، ودعا لتأسيس جمعيات ومؤسسات تصلح المجتمع من القاعدة لا من القمة "يتولاه أناس يأخذون على أنفسهم الأبية ألا يقرعون باباً لسلطان، ولا يثني عزمهم الوعيد، ولا يغرهم الوعد بالمنصب، ولا تلههم التجارة ولا المكسب، بل قوم يرون المتاعب والمكاره بنجاة الوطن من الاستعباد هو غاية المغنم وعكسه المغرم"

طبائع الاستبداد ونهاية الأفغاني

رأى الأفغاني أن صلاح العالم الإسلامي يكمن في وحدته وصلاح حكامه والتصدي للاستعمار الغربي، فكان يرى في الاستبداد خطورة كبيرة على الأمة، وفي سبيل ذلك طرق العديد من الأبواب، وجند نفسه ووهب حياته للدعوة من أجل الحرية، ولكن يبدو أن حكام الشرق درجوا على طبائع الاستبداد. حاول الأفغاني مساعدة شاه إيران ناصر الدين، على وعد بالتجديد والديمقراطية، لكن الشاه نكص على عقبه متخوفاً من الإصلاح، فساءت العلاقة بينهما، ثم استجاب الأفغاني لدعوة السلطان عبد الحميد، وتحاور معه ورأى الأفغاني في السلطان نموذجاً يمكن الاعتماد عليه والالتفاف حوله، فبايعه بالخلافة، ونشط في الاتصال بالمفكرين والدعاة في شتى بقاع العالم الإسلامي، يدعو إلى فكرة الجامعة الإسلامية.

 وحظي الأفغاني بمكانة عالية لدى السلطان، فخصص له بيتاً فخماً وراتباً وخدماً، ولكن ما لبثت العلاقة بينهما أن فترت ثم تدهورت، لأسباب غير معلنة، حصرها البعض في مكيدة شيخ الإسلام بالعاصمة العثمانية، وأشار فريق ثان إلى دور إيراني في الوقيعة بين الأفغاني والسلطان، وذهب فريق ثالث إلى أن الأفغاني اكتشف أن سياسة الدولة العثمانية تسير في اتجاه مضاد لآماله، وأنه اصطدم بأسلوب السلطان عبد الحميد في التعامل مع الدستور وقضايا الديمقراطية بشيء من الرجعية، نتيجة خوفه من المحيطين به، واتهمه السلطان عبد الحميد في مذكراته بأنه تحالف مع الإنجليز عن طريق عميل يدعى بلنت، لإسقاط الخلافة، وأياّ كانت الأسباب فقد انعدمت الثقة بين الرجلين، وأراد الأفغاني أن يرحل، لكن السلطان رفض سفره إلى الخارج، فمكث  بالأستانة حتى توفي في 5 شوال 1314هـ/ 9 مارس 1897م في ظروف غامضة، دعت البعض إلى التشكك في الرواية العثمانية بأنه مات بسرطان في لسانه وفمه، ورجحت موته بالسم نتيجة كثرة أعدائه ورغبتهم في التخلص منه.    

والخلاصة: أياً كانت أسباب موته فإن الأمة فقدت برحيل الأفغاني عالماً مجدداً مفكراً واسع الأفق، انشغل بقضايا أمته وناضل في سبيلها ووهب لها حياته، فرفض عرض السلطان عبد الحميد عليه بالزواج، قائلاً: ما للأفغاني والزواج، فالزواج يعني الدنيا ومتاعها، والرجل باع دنياه بآخرته، فعاش لقضايا أمته ورحل في سبيلها، ومن أهم أقواله التي استشرف فيها المستقبل بنظر ثاقب قوله: "إن القوة النيابية لأي أمة لا يمكن أن تحوز المعنى الحقيقي إلا إذا كانت من الأمة نفسها، وأي مجلس نيابي يأمر بتشكيله ملك أو أمير أو قوة أجنبية محركة لها، فاعلموا أن حياة تلك القوة النيابية الموهومة موقوفة على إرادة من أحدثها" وليت شعري ..

المصدر: أ.د/ عبد اللطيف الصباغ
  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 300 مشاهدة
نشرت فى 27 يناير 2011 بواسطة Latif

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

20,479