بسم الله الرحمن الرحيم
تفصيل { بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ }
مقدمة
في حديث لابن أبي جمرة1: عن علي – رضي الله عنه- أنه قال: لو شئت أن أوقر سبعين بعيراً من تفسير أم الكتاب لفعلت1. وقد جاء تعليق السيوطي على ذلك بقوله2: "وبيان ذلك، أنه إذا قال " الحمد لله رب العالمين يحتاج تبيين الحمد، وما يتعلق به الإسم الجليل الذي هو الله ، وما يليق به من التنزيه. ثم يحتاج إلى بيان العالم وكيفيته على جميع أنواعه وأعداده وهي ألف عالم، أربعمائة في البر وستمائة في البحر، فيحتاج إلى بيان ذلك كله. فإذا قال " الرحمن الرحيم" يحتاج إلى بيان الإسمين الجليلين وما يليق بهما من الجلال، وما معناهما ثم يحتاج إلى بيان جميع الأسماء والصفات، ثم يحتاج إلى بيان كذا كذا..." وواصل السيوطي هذا المنهج في جميع آيات الفاتحة.
فنهج السيوطي هذا يشير إلى مقصد قول سيدنا علي رضي الله عنه. كما أن الأحاديث التالية تؤكد عظمة هذه السورة وهي: عن أبي سعيد بن المعلي قال :" كنت أصلي فدعاني النبي فلم أجبه قلت يا رسول الله كنت أصلي قال : ألم يقل الله استجيبوا لله ورسوله إذا دعاكم ثم قال : ألا أعلمك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد فأخذ بيدي فلما ردنا الخروج قلت يا رسول الله إنك قلت لا علمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج قال: " الحمد لله رب العالمين" هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته." وعن أبي هريرة رضي الله عنه: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هي أم الكتاب وهي فاتحة الكتاب". ولهذا حاصرتني فكرة البحث عن معاني الفاتحة امتثالاً لأمر الله من ناحية ورغبة في الوصول ولو لجزء يسير من معاني الفاتحة التي هي حمل سبعين بعيراً من ناحية أخرى. وقد شجعني على ذلك أمران؛ أحدهما المنهج الذي أشار إليه السيوطي والذي رأى فيه السبيل لمعرفة معاني سورة الفاتحة التي يمكن أن تصل إلى حمل سبيعين بعيراً، وثانيهما كلمات الشعراوي التي كتبها في مقدمة مجلداته " تفسير الشعراوي " وهي: " أن ما جاء به من شرح وتفسير هو خواطر وهبات صفائية تخطر علي قلب مؤمن في آية أو بضع آيات سائلاً المولي عز وجل أن تكون خواطره مفتاح خواطر من يأتي بعده. عليه وضعت منهجاً مبنياً على تفسير القرآن بالقرآن والسنة النبوية، بالإضافة إلى الطريقة التي عرضها السيوطي لتوضيح ما رمى إليه سيدنا علي بن أبي طالب وإلى أرآء السلف الصالح. فنتج عن ذلك منهجاً يتلخص في الآتي: تفصيل كل آية من آيات الفاتحة في مبحث منفصل بوضع أسئلة دقيقة عنها والإجابة عن كل سؤال من آيات الكتاب اللاتي فصلهن الحكيم الخبير. ثانياً حصر ما أمكن من الآيات التي بها مفرد أو أكثر من المفردات التي وردت بالآية التي يراد معرفة معناها لإستنباط معاني المفردات من القرآن، وذلك افتراضاً بأن بعض المفردات التي وردت في القرآن يختلف معناها من المعاني الواردة في المعاجم، بالاضافة إلى ضرب الأمثال من واقع الحياة – ولله المثل الأعلي – لتقريب الفهم المقصود إلي الأذهان إن لزم الأمر. فإذا وجدت أولاً: إجابات واضحة لأسئلة كل آية وعن طريقها اتضح معني الآية وحكمها، ووجد ثانياً أن تفصيلهن يحتوي على
كل القرآن، تكون آيات الفاتحة هن الآيات المحكمات اللاتي فصلهن الحكيم الخبير. وأول ما نبد به هو تفصيل البسملة ثم نواصل تفصيل آيات الفاتحة كل منها في مبحث قائم بذاته
المبحث الأول
تفصيل { بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } من آيات القرآن
لقد اتفق العلماء على أن { بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ } هي أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {إقرأ باسم ربك الذي خلق} {خلق الإنسان من عَلَقٍ} {إقرأ وربك الأكرم}1-3 العلق ولكنهم اختلفوا في طبيعتها؛ هل هي آية أم لا، وما زال الاختلاف قائماً. فمن العلماء من يعتبرها آية ومنهم من لا يعتقد أنها آية بل أنزلت لتفصل بين السور ومن أجل التبرك بها. كما اختلفوا في حكمها هل هو فرض وواجب أم مستحب البدء بها فقط. واتباعاً للمنهج المقترح يتم تفصيل {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} بالأسئلة الدقيقة والبحث عن إجاباتها من القرآن والسنة. فإذا وجدت إجابات كافية لتوضيح طبيعتها وحكمها وعلاقتها بآيات سورة العلق، داخل الكتاب تكون {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية محكمة من المحكمات اللاتي فصلهن أي "فسرهن" الله سبحانه وتعالى بناءً على الآية: "الر، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" 1 هود. أما الإجابة عن السؤال؛ هل هي آية من سورة الفاتحة ومن كل سورة ابتدأت بها أم لا، فسوف لن يتأتى إلا بعد تفصيل آيات الفاتحة الأخريات لأن بعض العلماء يعتقدون أن: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} 7 الفاتحة ليست آية واحدة بل آيتان كالآتي: "صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ " آية و"غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ " آية أخرى. وبالتالي لا يعتبرون {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} آية.
تفصيل {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} من آيات القرآن والأحاديث
إن الأسئلة يتم تفصيل{بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} هي: ما هو تعريف الإسم الله ؟ ما هو تعريف الإسم الرحمن ؟ ما هو تعريف الإسم الرحيم ؟ ما الفرق بين الله، الرحمن والرحيم ؟ وما هي الصلة بينهم؟ وما هو سر ارتباط الاسمين الرحمن والرحيم في كل القرآن؟ كيف جاءت {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} بصورتها هذه من آيات سورة العلق؟ ما سبب نزولها بهذه الصورة المجملة؟ ما المقصود ب {بسم اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} ؟ وما حكمها؟ما هي طبيعة {بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}؛ هل هي آية أم لا؟
أولاً: تعريف الله من القرآن
لقد جاء في حديث أبي بن كعب2: أن المشركين قد سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا محمد أنسب لنا ربك". فأنزل الله الآيات التالية رداً على سؤالهم: {قُل هُو الله أَحَدٌ}{الله الصَّمَدُ} {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} {وَلم يكن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} 1-4 الإخلاص. فأوضحت الآيات أن الله هو اسم الجلالة لذات الإله العليا. حيث كان توضيح معنى هذه الآيات في مختصر تفسير ابن كثير كما يلي: (يعني هو الله الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا شبيه له ولا عديل، لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله). عليه تكون أسماء الله هي أسماء صفاته وأفعاله التي تَكوَّن منها الإسم الله. وأسماء صفات الله وأفعاله يمكن استنباطها من الآيات. ومن أكثر الآيات تعريفاً لأفعال الله وصفاته هي:{ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثمَّ استوي عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم من دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} { يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ} {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ}{ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلَالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ}4-8 السجدة حيث أوضحت الآية "4" أن من أسماء نعوت الله هو "الخالق". كما أوضحت أن الله بعد أن خلق كل شيء، استوى على عرشه ملكاً على مملكته ووالياً لخلقه وشفيعاً لهم. فمن أسماء نعوته أيضاً "الملك" و"الولي" و"الشفيع". والآية "5" بينت أسم نعته "المهيمن" حيث أنه يدبر أمر كل المملكة من السماء إلى الأرض. أما الآية "6" فقد أبرزت أسماء صفات الله "عالم الغيب والشهادة" و"العزيز الرحيم". وتفسير ابن كثير لهذه الآيات يعضد هذا القول وهذه الاسماء وهو: (يخبر تعالى أنه خالق للأشياء، فخلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام، ثم استوى على العرش، وقد تقدم الكلام على ذلك { مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ } أي: بل هو المالك لأزمة الأمور، الخالق لكل شيء، المدبر لكل شيء، القادر على كل شيء، فلا ولي لخلقه سواه، ولا شفيع إلا من بعد إذنه، { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } يعني: أيها العابدون غيره، المتوكلون على من عداه، تعالى وتقدس وتنزه أن يكون له نظير أو شريك، أو وزير أو نديد أو عديل، لا إله إلا هو، ولا رب سواه. وقوله تعالى: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ إِلَى ٱلأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } أي: يتنزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة، كما قال تعالى:{ ٱللَّهُ ٱلَّذِى خَلَقَ سَبْعَ سَمَـٰوَٰتٍ وَمِنَ ٱلأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ ٱلأَمْرُ بَيْنَهُنَّ } [الطلاق: 12] وهو العزيز الذي قد عز كل شيء فقهره وغلبه، ودانت له العباد والرقاب، الرحيم بعباده المؤمنين، فهو عزيز في رحمته، رحيم في عزته وهذا هو الكمال، العزة مع الرحمة، والرحمة مع العزة، فهو رحيم بلا ذلّ.) ثم أخبرتنا الآيتان: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}{مِن شَرِّ مَا خَلَقَ} 1-2 الفلق أن من أسماء نعوت الاسم الله، "المستعان" الذي يستعان به من شر خلقه. وأوضحت الآية التالية أن من بين نعوت الاسم الله هو "الرازق". والآية هي: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}3 فاطر أما الآية: { فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 50 الروم فقد أظهرت الاسم "المحي". وورد اسم الصفة الهادي في الآية التالية: {ذَلِكَ هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} 88 الأنعام . ثم جاء الاسم الرحيم في الآية: { قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} 12 الأنعام وبرزت أسماء الصفات:"الحسيب" ،"الغفور" و"القدير" و"المنتقم"في الآية: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}284 البقرة. وبهذه الطريقة يمكن أن تستخرج أسماء الصفات الحسنى التسع وتسعين التي جمعها رب العالمين في اسم واحد هو "الله".
من الأحاديث
لقد جاء في الصحيحين: "إن لله تسعةً وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة. وهو اسم لم يسم به غيره". ويعضد ذلك ما ورد في صحيح البخاري تحت باب: ما يذكر في الذات ، النعوت واسامى الله. والذي يستفاد منه أن الذات تذكر بأسماء وأن الأسماء التي تذكر بها الذات هي الأخرى لها أسماء صفات. ولطالما أنها نعوت أسمائه فهذا لا ينفي أن كل منها نعت فرعي من نعوت الذات. بذا يمكن أن يتصف الخلائق ببعض نعوت أسماء الإسم الله، كأن يقال هذا الرجل كريم وهذا الرجل عليم وذاك رجل رحيم كما جاء في رأي بعض العلماء. وربما يتصف المرء باثنين أو أكثر منها ولكن من المستحيل أن يكون هنالك مخلوق يجمع كل هذه الصفات لأن هذه الصفات مجتمعة هي صفات كمال والكمال لله وحده. ولهذا أطلق الإله على نفسه علم عندما يذكر به فكأنما يذكر بتسع وتسعين اسما.ً عليه لا يمكن أن يتسمى بذلك الاسم بشر. وقد ذكر التميمي أن من أسماء الله ما يدل على أفعاله كالبر في الدلالة على بره بعباده والباسط في الدلالة على بسط الرزق لمن يشاء. فيستنتج مما جاء في الحديث: أن للذات أسامي جلالة وتر مثل الله، وهذه الأسامي غير مشتقة لأن كل اسم منها مكون من أسماء صفات كثيرة يصل عددها إلى تسعة وتسعين اسماً. أما التسعة وتسعون أسماً التي تتكون منهم اسماء الجلالة فهي أسماء مشتقة. لأن كل اسم منها هو اسم لصفة واحدة فقط. فمثلاً الاسم العليم من علم يعلم فهو عليم. والاسم الرحيم من رحم يرحم فهو رحيم. فإذا ذكر المؤمن ربه بأي اسم من أسماء الجلالة، توكيداً لتقديسه وتوحيده، ينال رضاء ربه وينال بركات كل أسماء صفاته التسع وتسعين اسماً أولاً، ويتجنب ببركة التسعة وتسعون اسماً الضرر الذي يمكن أن يصيبه ثانيا، لقول ابن قيم الجوزية:( التوسل بالأسماء والصفات فإنها وسيلة بصفاته وأفعاله التي هي مدلول أسمائه).
ثانياً: تعريف "الرحمن" من القرآن
لقد ورد ذكر الرحمن في الآية: {قُلِ ادْعُواْ الله أَوِ ادْعُواْ الرحمن أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} 110 الإسراء التي تشير إلى وجود صلة بين اسم الرحمن واسم الجلالة الله. حيث جاء رأي القرطبي في هذه الآية كما يلي: قوله تعالى: ({ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءُ ٱلْحُسْنَىٰ } سببه نزول هذه الآية: " أن المشركين سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو «يا ألله يا رحمن» فقالوا: كان محمد يأمرنا بدعاء إله واحد وهو يدعو إلهين " ؛ قاله ابن عباس. وقال مكحول: " تهجّد رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال في دعائه: «يا رحمن يا رحيم» فسمعه رجل من المشركين، وكان باليمامة رجل يسمى رحمن اليمامة، فقال ذلك السامع: ما بال محمد يدعو رحمان اليمامة " فنزلت الآية مبيِّنة أن الله والرحمن اسمان لمسمّى واحد؛ فإن دعوتموه بالله فهو ذاك، وإن دعوتموه بالرحمن فهو ذاك.) فإذا تم استنباط أن للاسم الرحمن أسماء صفات مطابقة لأسماء صفات الله يكون معنى الآية هو: أن الله والرحمن اسمان علمان على ذات الإله غير مشتقان. عليه يتطلب الأمر اتباع نفس الأسلوب الذي تم به استخراج أسماء الله الحسنى التسع وتسعين اسماً من بعض السور التي تكرر فيها اسم الرحمن كثيراً وهي: الرحمن ، مريم ، طه، الأنبياء، الفرقان، الملك، يس، الزخرف والنبأ.
تحليل آيات سورة الرحمن
إذا تدبرنا قوله تعالى: {الرحمن} {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} {خَلَقَ الْإِنسَانَ}إلى قوله تعالى:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ
وَالْإِكْرَامِ} (1-78) الرحمن نجد أن الاسم الرحمن مبتدأ. وكل آيات السورة المتبقيات خبراً للمبتدأ أي خبراً
لصفات وأفعال الرحمن. وأول آية جاءت خبراً للرحمن هي: {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} (2) الرحمن فيستنبط منها اسم الصفة "الهادي" و"العالم". حيث ورد معناها1: أي علّمه نبيّه صلى الله عليه وسلم حتى أدّاه إلى جميع الناس. والآية "3":{خَلَقَ الْإِنسَانَ} قد أخبرتنا أن الرحمن هو خالق الإنسان. أي أن من أسماء صفات الرحمن هو (الخالق البارئ المصور) لما ورد في صفة خلق الإنسان وتعديله وتصويره في الآيات: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} 6-8 الانفطار. واسم صفة "خلق الإنسان وتعديله وتصويره" هو(الخالق البارئ المصور) الذي ورد في نهاية سورة الحشر كالآتي {هُوَ الله الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}24 الحشر
تحليل آيات سورة طه
أما آيات سورة طه فأحسبها الأكثر دلالة للاسم الرحمن وهي:{طه}{ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}{ إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى}{ تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى}{الرحمن عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}{ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}{وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}1-7 طه حيث أخبرتنا أن الرحمن هو منزل القرآن الذي خلق الأرض والسموات العلي ثم استوي على عرشه ملكاً. وهذه الآية تعضد ألآية 2 الرحمن: (علم القرآن). فمن أسماء صفاته "الخالق" و"الملك" . ثم أخبرت الآية "7" أن الرحمن يعلم السر والجهر أي أنه عالم الغيب وحده. واصلت الآية "8" طه الأخبار عن الرحمن كالآتي: "الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى"، أي أنها استبدلت اسم الرحمن بالاسم الله مما يدل على أن الخالق لكل هذا الكون الذي استوي علي عرشه ملكاً ويعلم السر والجهر هو الرحمن الذي هو الله الذي لا إله إلا هو وله الأسماءالحسنى. عليه يعرب الاسم الرحمن في الآية "5" خبراً للمبتدأ مرفوعاً وهو مبدل منه، ويعرب الاسم الله في الآية"8" بدل تطابق كامل مرفوعاً. تواصل آيات سورة طه الأخبار عن الرحمن بالآتي: { يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أذن لَهُ الرحمن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا}{ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا}{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا}109-111طـه وإذا تتدبرنا محتوى الآيتين 109-111طـه وآية البقرة التالية: {الله لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} 255 البقرة نجدهن متفقات في المعنى، بالرغم من أن الآية 255 البقرة قد أنزلت بالاسم الله والآيتين 109- 111 طه قد أنزلتا بالاسم الرحمن الأمر الذي يدل على أن الاسمين علمان على ذات الإله الواحد الأحد.
تحليل آيات سورة الأنبياء
وبالتدبر في الآيات:{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرحمن وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ}{لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُم مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} 26-28 الأنبياء نجد الآية 26 تنفي إدعاء الكفار بأن الملائكة أبناء الله وذلك بنفي أن للرحمن ولداً فهي إذاً توكيد لوحدانيته. فيبرز بذلك اسما صفتيه "الواحد الأحد" و"القدوس" لأنه هو الذي لم يلد ولم يولد المنزه من الشريك ومن كل نقص بلفظ التسبيح سبحانه تماماً كما كانت أسماء الصفات بالاسم الله. كما أظهرت الآية 27 اسم صفة الرحمن "المهيمن" حيث أن الملائكة يعملون بأمره هو فقط. ومن أسماء صفاته أيضاً "عالم الغيب والشهادة" لما ورد في الآية 28 " يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم". فأسماء صفات الرحمن المستنبطة من آيات سورة الأنبياء ومن آيات سورة طه هي نفس أسماء صفات الله التي وردت في آية الكرسي في سورة البقرة. ودليل آخر هو أن العلماء في تفسير قوله تعالى: "وَقَالُوا اتَّخَذَ الرحمن وَلَدًا " نجدهم يستبدلون الاسم الرحمن بالاسم الله. ومثال لذلك التفسير التالي: (أي قال المشركون اتخذ الله من الملائكة ولداً قال المفسرون: هم حي من خزاعة قالوا: الملائكة بنات الله "سبحانه" أي تنزه الله وتقدس عما يقول الظالمون...) في الوقت الذي نزلت فيه الآية بالسم الرحمن ولم تذكر الاسم الله مما يؤكد أن الرحمن هو الإله الذي هو الله. وجاءت الآية التالية واضحة وصريحة وفاصلة في توضيح أن الرحمن هو الإله الواحد الأحد وهي: { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِّن دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 29 الأنبياء. أما آيات الفرقان فتخبر عن أن ملكية الإله ليوم الدين جاءت باسمه الرحمن والآيات هي:{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا}{ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} 25-26 الفرقان. نصت الآية 26 على ان ملك يوم الدين للرحمن.
تحليل آيات سورة الفرقان
إن آيات سورة الفرقان التالية توضح أن الذي له اسم الصفة الحي والذي يسبح له بحمده هو الخبير بذنوب عباده فهو الوكيل وحده وهو الرب واسمه الرحمن: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا}{الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرحمن فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً}58-59 الفرقان. إذاً التسبيح بحمده يكون كالآتي: "سبحان الرحمن وبحمده" كما جاء التسبيح بحمد الله "سبحان الله وبحمده". واصلت آيات الفرقان توضيح الاسم الرحمن بأنه علم على ذات الإله غير مشتق بالآتي: { تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاء بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا} 61 الفرقان فكلمة تبارك التي وردت في الآية الأخيرة من سورة الرحمن: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} 78 الرحمن ووردت في أول سورة الملك:{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (1) الملك وفي سورة الزخرف: {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}85 الزخرف هي لفظ تقديس وتوحيد تطابق معناه مع لفظ سبحان لما ورد في قول الفراء: (إن تبارك وتقدّس في العربية واحد، ومعناهما: العظمة). واحسب أن المعنى التالي:( استقر له السلامة من العيوب والنقائص، لأنه الرب العلي العظيم، المالك للأشياء، الذي بيده أزمة الأمور نقضاً وإبراماً)، هو أكثر المعاني توضيحاً للمقصود باللفظين سبحان وتبارك كما أوضحه ابن كثير في معنى الآية:{ سُبْحَـٰنَ رَبِّ ٱلسَّمَـٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ } أي: (تعالى وتقدس وتنزه خالق الأشياء عن أن يكون له ولد، فإنه فرد أحد صمد، لا نظير له، ولا كفء له، فلا ولد له.) لقد ورد تقديس الإله باللفظين (سبحان وتبارك) بالاسمين الرحمن والله مما يؤكد تطابق الاسمين. ولنتمعن في
تطابق صفات الاسمين الله والرحمن في الآيتين التاليتين: { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرحمن إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} 19 الملك و{ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 79 النحل فمن يمسك الطير في جو السماء هو الإله الذي اسمه الله واسمه الرحمن. أما الآية :{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدًّا}96 مريم
فنجدها تخبرنا أن الرحمة كل الرحمة، للمتقين الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الآخرة فلا رحمة تفوق ود الإله سبحانه وتعالى في ذلك اليوم! وقد كانت بالاسم الرحمن وليست بالاسم الرحيم. وبتتبع كل السور التي أنزلت بالرحمن نستنتج أن اسم الرحمن له أكثر من 97 اسماً من أسماء صفات الاسم الله مما جعله يختلف عن بقية الأسماء الأخرى التي لكل منها اسم صفة واحد محدد. والفرق بين الاسمين: الله والرحمن هو أن اسم الله يتضمن اسم الرحمن ولكن اسم الرحمن لا يشمل اسم الله. وما ورد في الفوائد في سورة الفاتحة يعضد ما توصل إليه البحث وهو: "والأسماء المذكورة في هذه السورة هي أصول الأسماء الحسنى، وهي اسم (الله والرب والرحمن). وجاء في الفوائد أيضاً أن اسم "الله" متضمن لصفات الإلوهية، واسم "الرب" متضمن لصفات الربوبية، واسم "الرحمن" متضمن لصفات الإحسان والجود والبر. ومعاني أسمائه تدور على هذا". فما ورد في الفوائد وما يتضح من أؤاء جميع العلماء هو: أن هنالك صلة وثيقة بين الحروف المكونه منها صفات
الألوهية والربوبية وبين حروف الأسماء الله ورب العالمين. ولكن ما نتج من البحث يؤكد أن الألوهيه لم تختص بالاسم الله وحده ولا الربوبية تختص برب العالمين وحده لأن الألوهية للاسم الله ولرب العالمين كما أن الربوبية للاسم الله وللاسم الرحمن. وبالتالي لا يكون لصفة الإلوهية صلة بحروف الاسم الله ولا لصفة الربوبية صلة بحروف رب العالمين. وأحسب أن ذلك من معجزات القرآن اللغوية.
ثالثاً- تعريف الاسم "الرحيم"
لقد اتفقت آراء العلماء على أن اسم الرحيم هو اسم صفة الرحمة على وزن فعيل وأن الرحمة باسم الرحيم للمؤمنين فقط وفي الآخرة فقط. واسم الرحمن هو اسم صفة الرحمة لجميع الخلق في الدنيا. ولكن إذا تمعنا في الآيات التي ورد فيها الاسم الرحيم لم نجده يدل على ذات الإله في بداية الآيات كالاسمين الله والرحمن. بل ياتي كاسم من أسماء الاسمين الحسنسن في نهاية الآيات. عليه سوف يتم تحليل الآيات التي ورد فيها الاسم الرحمن لمعرفة الصفة التي يدل عليها. وبالتمعن في الآية: {رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن
فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا}66 الإسراء نجد أن الرحمة عامة لجميع الناس المؤمنين والكفار وفي الدنيا وبالاسم
الرحيم. فلم يوضع اسم الرحمن بدلا عن الرحيم في نهاية الآية كالآتي: " إنه كان بكم رحمانا" بدلاً عن "إنه كان بكم رحيماً". الأمر الذي يؤكد أن الرحمة في الدنيا للخلق أجمعين وذلك بتوفير النعم للمؤمنين وللكافرين، وقد وردت باسم "الرحيم". وقد سبق أن علمنا أن الرحمة قد وردت أيضاً للخلق أجمعين بالاسم الرحمن وفي الدنيا. وفي الآية التالية: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} 36 الحج توضيح بأن رحمة الرحيم تشمل المغفرة للعصاة وقد طلبها لهم سيدنا إبراهيم من ربه في الدنيا. ولم يطلبها بالاسم الرحمن. وهذا دليل على أن رحمة الرحيم لم تكن مقتصرة على المؤمنين في الآخرة فقط كما ورد في رأي العلماء بل تشمل المؤمنين والعصاة معاً في الدنيا. وفي الآيتين التاليتين وردت الرحمة بالاسم الرحيم للمؤمنين في الدنيا. والآيتان هما:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } 12 المجادلة و{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَالله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}28 الحديد لما ورد في معنى الخير في الآية 12 المجادلة بأنه الطهارة والتزكية أي الهدى لما فيه الخير في الآخرة. كما ورد في معنى النور الذي يمشون به هو هديهم في الدنيا ونيل الجزاء الحسن في الآخرة. أما الآيات التالية فهي دليل العلماء على أن رحمة الله للمؤمنين في الآخرة باسمه الرحيم:{إنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ}{ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ}{ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِين} {لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ}45-49 الحجر فالرحمة يوم القيامة هي أساساً للمؤمنين فقط كما جاء في تفسير الشعراوي(أن الله رحيم بالمؤمنين فقط.. فالكفار والمشركون مطرودون من رحمة الله.) وكذا قول ابن جرير. إذاً الاسم الرحيم هو اسم صفة الرحمة المبالغ فيها في الدنيا للخلق أجمعين وذلك بعدم إمساك الله لنعمه وخيراته من العصاة في الدنيا ولعدم حرمانهم من المغفرة المتوفرة لهم متى ما اهتدوا لما كتبه فوق عرشه: "إن رحمتي سبقت غضبي". كما كانت للمؤمنين بهداهم والمغفرة لهم في الدنيا والآخرة . إذاً يتكون الاسم الرحيم من الأسماء: الهادي والغفور. ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم: "يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما" يؤكد ذلك. فما الفرق بين الاسمين الرحمن والرحيم إذاً؟
رابعاً: الفرق بين الأسماء "الله"، "الرحمن" و"الرحيم" والصلة بينهم وسر ارتباط الاسمين "الرحمن" و"الرحيم" في كل القرآن
من كل الآيات التي ذكرت يستنبط أن كلاً من الاسم الله والاسم الرحمن يرد ذكره في بداية الآيات مخبراً عن ذات الإله ودالاً عليها. ولكن أسماء الصفات الأخرى كالرحيم والعليم والسميع...تأتي في نهاية الآيات لأنها الأسماء الحسنى للاسمين الله والرحمن. ومعظم الأسماء الحسنى على وزن فعيل. ولم يحدث قط أن ورد الاسم الله أو الاسم الرحمن كصفة واحدة ومحددة في نهاية الآيات كما هو الحال بالنسبة للاسم الرحيم وبقية الأسماء الأخرى. بالإضافة إلى حقيقة أن الاسم الرحمن لم يرد نكرة قط في كل القرآن على عكس الأسماء الأخرى بما في ذلك الاسم الرحيم. وبما أن صفات الاسم الرحمن هي نفس صفات الاسم الله، فهما إذاً علمان لم يتسم بهما أحد غير الإله الواحد الأحد، وبالتالي هما اسما جلالة غير مشتقين. عليه يعرب كل من الاسم الله والاسم الرحمن بدل تطابق كامل للآخر، إذا ذكر أحدهما استغني عن الآخر. كما ورد في كثير من السور مثل سورتي مريم وطه. ولكن اسم الله أعم وأشمل من اسم الرحمن. ويعضد ذلك ما جاء في كتاب رسائل ابن العربي في اسم الرحمن وهو: ( وهذا الاسم "الرحمن" يتضمن جميع الأسماء الحسنى إلا الله فإن له الأسماء الحسنى). كما يعضده أيضاً ما ورد في الجامع لأحكام القرآن: ("الله" هذا الاسم أكبر أسمائه سبحانه وأجمعها حتى قال بعض العلماء: إنه اسم الله الأعظم ولم يتسم به غيره ولذلك لم يثن ولم يجمع؛ وهو أحد تأويل قوله تعالى: "وهل تعلم له سمياً" مريم 65 أي تسمى غيره باسمه الذي هو الله.) أما الإسم الرحيم فهو اسم صفة جزئية. أي أنه اسم صفة واحدة وهي الرحمة من بين أسماء صفات كثيرة للإسمين الله والرحمن سواء أن كانت رحمة الهدى أو رحمة المغفرة. ولهذا يعرب الإسم الرحيم بدل جزء من كل. وبالتالي لم يكن علماً على الرب بل هو اسم مشتق من رحم يرحم فهو رحيم. ولهذا السبب لم يرد ولا مرة واحدة في القرآن كله كبدل لأحد الاسمين الله أو الرحمن.
أما الصلة بينهما فهي: أن الرحمن هو خالق الرحم في جوف حواء واشتق له اسما من اسمه وأن الرحيم هو صفة الرحمة المبالغ فيها، كانت الصلة بينهما هي التي أوضحها الحديث القدسي سابق الذكر: " أنا الرحمن خلقت الرحم واشتققت له اسم من اسمي ..." فمن يصل الرحم المشتق من الاسم الرحمن يستحق الرحمة المبالغ فيها بالاسم الرحيم . فمن يصل رحمه يوصله الله الذي هو الرحمن برحمته المتصف بها الرحيم ومن قطعها يقطعه الله من رحمته باسمه الرحيم فلا يدخل الجنة قاطع رحم. فيستنبط من ذلك أن الإله الرحمن يكفل المغفرة والأجر الحسن في الآخرة لمن آمن به، وذلك باسم صفة رحمته الرحيم لقوله تعالى: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرحمن بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} 11 يــس
سر ارتباط الرحمن والرحيم في القرآن دائماً
إن سر ارتباط الرحمن والرحيم في كل القرآن أحسبه يكمن في تسلسل الآيات التالية وأسماء الصفات فيها وهي:{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاء لِّلسَّائِلِينَ}{ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}{فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} 9-12 فصلت. هذه الآيات توضح أن رب العالمين قد أكمل خلق الأرض وما فيها وما تحتها في أربعة أيام ثم أكمل خلق السماوات وما فيهن في يومين. فرب العالمين الذي خلق كل هذا الخلق في ستة أيام واستوي على عرشه، هو: الإله الواحد الأحد المنزه من الشريك والأنداد. فمن أسماء صفاته التي أوضحتها آيات خلقه للسماوات والأرض هي: "الخالق"، "الملك"، "القدوس"، "السلام" "المؤمن"، "المهيمن"، "العزيز"، "الجبار" و"المتكبر" وذلك بخلقه وبمملكته
وبعظمته وبعرشه كما أوضحه ابن كثير أيضاً بقوله3: { ذَٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } أي: العزيز الذي قد عز كل شيء فغلبه وقهره، العليم بجميع حركات المخلوقات وسكناتهم. الجبار المتكبر ومن أسماء صفاته كما ثبت بالآيات "الحي القيوم" الذي لا يموت و لا ينوم ولا يأكل. "الأول" الذي لم يكن قبله شيء، الآخر" الذي لم يكن بعده شيء، "الظاهر" بآياته في الكون، و"الباطن" بما في غيبه، "المبدىء" للكون والمعيد له في يوم القيامة. أي أنه الرب الذي له جميع اسماء صفة الجلال أي "الرب ذو الجلال" أو الرب الجليل. والرب ذو الجلال أطلق على ذاته اسماً علماً هو"الرحمن" قد جمع فيه كل الصفات التي سبق ذكرها أي الصفات التي علمنا منها صفة "الرب ذو الجلال" . وبالاسم "الرحمن" أكمل "الرب ذو الجلال" خلقه في السماء بخلق أبينا آدم من صلصال. وبخلقه لأبينا آدم علمنا بنعته "الرب الكريم". حيث أن نعت "الرب الكريم" هو نعت يخص خلق الإنسان وتعديله وتصويره ( أي خلقه نطفة ثم علقة ثم تعديله أي تبرئة الذكر من مكونات الأنثى وتبرئة الأنثى من مكونات الذكر) ثم تصويره في الشكل الذي يخرج به من بطن أمه. وذلك مبني على الآيات التالية: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}{الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}{فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ} 6-8 الانفطار وقد ورد اسم صفة "الرب الكريم" في الآية:{هُوَ الله الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} 24 الحشر وهو "الخالق البارئ المصور". فعندما تضاف صفة "الرب الكريم" أي صفة خلق الإنسان وتعديله وتصويره لصفة "الرب ذي الجلال"، تصير صفة الرب هي "الرب ذي الجلال والإكرام". وبتعبير آخر: إن صفة "الرب ذي الجلال والإكرام"، هي صفة الرب الذي سمى نفسه الرحمن بعد أن أكمل خلقه في السماء وخلق أبانا آدم من تراب. وبالتالي صار الاسم العلم الرحمن جامعاً لكل أسماء صفات "الرب ذي الجلال والإكرام". ونهاية سورة الرحمن تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام تؤكد أن اسم الرب المنزه ومقدس من كل شرك والذي خلق الإنسان وعلمه البيان هو الرحمن الذي ورد في أول السورة. وعندما عصى أبونا آدم ربه وغوى بإتباعه للشيطان تاب الرحمن عليه. فأخبرنا باسم صفته "لتواب".
وبعد إنزال أبوينا آدم وحواء ومعهما إبليس إلى الأرض، أطلق الرحمن أي "الرب ذو الجلال والإكرام" علي ذاته علماً آخراً هو"الله". إذاً يتطابق الاسمان الرحمن والله تطابقاً كاملاً في هذه المرحلة لأن كلاً منهما اسم " للرب ذي الجلال والإكرام". ولكن بالاسم الله بدأ ربنا جلّ وعلا خلق الإنسان من علق في الأرض مكملاً بذلك كل الخلق في الأرض وفي السماء. فكان خلق الإنسان من طين هو آخر الخلق في السماء، وخلق الإنسان من علق هو آخر الخلق في الكون كله. وبإكمال الخلق في الأرض بخلق الإنسان من علق كتب "الرب " وباسمه الله علي نفسه فوق عرشه: " إن رحمتي سبقت غضبي" بناءً على الحديث التالي: عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال1: لما قضى الله الخلق كتب كتاباً عنده غلبت أو قال سبقت رحمتي غضبي فهو عنده فوق عرشه": موضحاً بذلك اسم نعت رحمته المبالغ فيها "الرحيم". أي أنه أضاف نعت آخر لنعت "الرب ذي الجلال والإكرام" وهو نعت "ذو الرحمة والفضل". فكانت العظمة كل العظمة حيث أخبرنا بنعته "الرب ذي الجلال والإكرام وذي الرحمة والفضل". وأحسب أن صفة "الرب ذي الجلال والإكرام وذي الرحمة والفضل" قد جمعت في صفة واحدة هي "الرب العظيم" بناءً على الآية: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (52) الحاقة فإذا تمعنا في الآية نجد ان الأمر فيها هو التسبيح باسم الرب العظيم. ولكن جاء تنفيذ الأمر كالآتي: "سبحان الله العظيم". أي أن الاسم الله قد حل مكان اسم ربك