خواطر إيمانية

يهتم الموقع بالتدبر والتفكر في آي القرآن الكريم لاستنباط معانيها الباطنة

 

سم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

      لقد عُرِف القرآن بأنه علم يحتوي على كثير من العلوم أهمها علم "المحكم والمتشابه" و"الناسخ والمنسوخ" وأسماء هذه العلوم في حقيقة الأمر هي أسماء صفات للآيات التي تكون منها الكتاب لما أوضحته بعض الآيات. فعلم المحكم والمتشابه أساسه الآيتان 7 آل عملران و23 الزمر. حيث جاء في الآية 7 آل عمران أن الكتاب منه آيات محكمات ومنه أخر متشابهات كما يلي:{هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ }  7 آل عمران

وجاء في الآية 23 الزمر أن الكتاب كله متشابه كما يلي:{ ٱللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ ٱلْحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُدَى ٱللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}                           23 الزمر

أما علم الناسخ والمنسوخ فأساسه الآية التالية: { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }   106 البقرة

      لقد اتفق العلماء في معاني مصطلحي المحكمات والمتشابهات، وبيَّنوا أن المحكمات ناسخات والمتشابهات هن المنسوخات. كما اتفقوا على أن المنسوخات لاتوجد إلا في الأحكام.  أي أن الأخبار لا يوجد فيها ناسخ ولا منسوخ. وبالرغم من اتفاقهم هذا إلا إنهم اختلفوا في تصنيف الآيات وتحديد أيهن من المتشابهات المنسوخات وأيهن من المحكمات الناسخات. فمنهم من صنَّف بعض الآيات كمتشابهات وصنَّفها غيرهم بأنها محكمات. ومنهم من صنَّف بعض آيات الأخبار من المتشابهات نسبة لأن تعريفهم للمتشابه ينطبق عليها. وتعريف المتشابه هو عدم وضوح دلالتها واللبس في معانيها. وقد ضربوا مثلاً لها بالحروف المقطعة في بداية السور.

      إن اختلاف العلماء في تصنيف الآيات بالرغم من اتفاقهم في معاني مسمياتها يشير إلى أن هنالك أمر خفي قد كان سبباً في اللبس في تصنيف الآيات. والبحث عن هذا السبب الخفي أمر تمليه الضرورة القصوى لمعرفة المتشابهات التي وردت في الآية 7 آل عمران لما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم وهو: عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: (تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:( هو الذي أنزل الكتاب منه آيات محكمات) إلى قوله1:(وما يذكر إلا أولوا الألباب) فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأحذروهم)والسؤال الذي يفرض نفسه هو: كيف يتأتى لنا طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم بالحذر من الذين يتبعون الآيات المتشابهات ونحن لم نصل بعد إلى الآيات متشابهات أصلاً؟

     عليه قررت البحث عن معالم الآيات المتشابهات واقتراح دليل لمعرفة الآية إن كانت متشابهة أم لا حتى نستطيع الحذر من الذين يتبعونها. ومثل هذا البحث يقتضي تحديد معالم آيات كل نوع من آيات الكتاب المذكورات حتى لا يكون هنالك لبس في تصنيفهن. وتحديد معالم الآيات بدوره يقتضي تحديد الآتي: أولاً : آراء العلماء في المحكم والمتشابه ثانياً: معنى المحكمات والمتشابهات من القرآن والسنة للوصول للفرق بين متشابهات الآية 7 آل عمران ومتشابهات الآية 23 الزمر.ثالثاً: أقسام الكتاب ومعالم وأهداف تنزيل آيات كل قسم من القرآن والأحاديث رابعاً: معنى الفتنة ومعنى التأويل اللذان يبتغيانهما الذين في قلوبهم زيغ مما يجعلهم يتبعون المتشابهات. وذلك بحصر الآيات والأحاديث الذين وردت فيهم كلمة الفتنة أو التأويل وتحليلهم. وإذا تم التوصل لمعالم الآيات المتشابهات يمكن وضع دليل مقترح لمعرفة الآية إن كانت متشابهة منسوخة لا يعمل بها أم لا.  وأخيراً إن تم وضع الدليل يمكن تطبيق مثال عليها وبالله التوفيق.   وقد تم تلخيص آراء العلماء في جداول في ملف مرفق                                        

      لقد عَرَّف العلماء كلاً من "المحكم" و"النص" والناسخ" كالآتي: إن "المحكم" هو(الواضح الدلالة الذي ليس في معناه غموض وبالتالي لا التباس في فهمه على أحد ولهذا يعمل به) والنص هو:(الذي يدل بصيغته نفسها على ما يقصد من سياقه) أي أنه(واضح المعنى من صياغه فلا التباس على أحد في فهمه) والناسخ هو المحكم (الواضح المعنى والدلالة وليس لأحد إلتباس في فهمه ولهذا يرد إليه ما التبس في فهمهه. فيستفاد من تلك التعريفات أن: "المحكم والنص والناسخ" مترادفات في المعنى مختلفات في اللفظ. وثلاثتهم أسماء صفات لنوع واحد من الآيات هي الآيات المحكمات. كما عرَّفوا كلاً من "المتشابه" و"الظاهر" و"المنسوخ" كالآتي: المتشابه هو:(الغير واضح الدلالة وبالتالي يوجد إلتباس في فهمه فلا يعمل به) والظاهر هو:( المتبادر منه إلى الذهن ليس هو المقصود أصله من سياقه) أي غير واضح المعنى المقصود من سياقه مما يجعله يحتاج إلى قرينة تخرجه من ظاهره) وللمنسوخ بأنه: (الغير واضح الدلالة وفي معناه غموض فيلتبس الناس أو بعضهم في فهم المقصود منه). وتعريفاتهم هذه تفيد أن "المتشابه والظاهر والمنسوخ" هم أيضاً مترادفات لأنها أسماء صفات لنوع واحد من الآيات وهي الآيات المتشابهات.

    وبالتالي نجد أن البحث في أي واحد من العلوم الثلاثة: "المحكم والمتشابه"، "الناسخ والمنسوخ" و"النص والظاهر" هو بحث في العِلْمَين الآخر. وبما أن هذا البحث بصدد معرفة المتشابهات المنسوخات سوف يكون التركيز على علم المحكم والمتشابه.

                                 الفصل الأول

                             المحكم والمتشابه من القرآن والسنة

   في هذا الفصل يتم تحليل معاني المحكم والمتشابه من آيات القرآن والسنة من أجل الوصول للفرق بين متشابهات الآية 7 آل عمران و الآية 23 الزمر

1-  المحكم والمتشابه من آيات القرآن      

      يتم في هذا المجال حصر الآيات التي بها مفرد أو أكثر من مفردات الآيتين 7 آل عمران و23 الزمر وتحليل معانيهن التي أوضحها علماء التفسير.

1-1    لقد ورد مصطلح المحكم في الآية:{الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} 1 هودفي قوله تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ). وقد جاء رأي قتادة فيه كالآتي1:(جعلت محكمة كلّها لا خَلَل فيها ولا باطل. والإحكام منع القول من الفساد، أي نُظمت نظماً مُحْكَماً لا يلحقها تناقض ولا خَلَل) وقال ٱبن عباس: (أي لم ينسخها كتاب)، وقال الحسن وأبو العالية: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} بالأمر والنهي. {ثُمَّ فُصِّلَتْ} بالوعد والوعيد والثواب والعقاب. وقال مجاهد: أحكمت جملة، ثم بُيِّنت بذكر آية آية بجميع ما يحتاج إِليه من الدليل على التوحيد والنبوّة والبعث وغيرها.) وجاء تفسير الفراء والكسائي كالآتي2: (أحكمت ثم فصّلت بألا تعبدوا إِلا الله). قال الزجاج: لئلا؛ أي أحكمت ثم فصّلت لئلا تعبدوا إلا الله. وقوله تعالى:{ وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } عطف على الأوّل.

      فيستنبط من تفسير الفراء والكسائي أن الآية 2 هود قد جاءت موضحةً لمعاني كل ما أحكم وفصل من آيات، وهو ألا تعبدوا إلا الله. وإذا أخذنا برأيهما هذا فالتفصيل لم يتوقف على ما ورد في الآية الثانية فقط بل يتَواصَلَ في الآيات التي تلتها لتفصيل الأسباب التي توضح وتؤكد عظمة عبادة الله وحده. والدليل على ذلك ما أوضحه القرطبي في معنى (وَأَنِ ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ) بأنه عطف على الأول.

      عليه أحسب أن معنى الآية 1 هود هو: " إن كل ما أحكم من آيات الكتاب وكل ما جاء في تفصيلها لا يخرج معناه من معنى محتوى آيات سورة هود. أي أن الآيات المحكمات قد فصلهن الحكيم الخبير بذكر آية آية بجميع ما يحتاج إليه من الدليل على التوحيد والنبوة والبعث، وتوكيد عظمة عبادة الله وحده. وهذا الرأي هو رأي مجاهد. كما يحتوي التفصيل على الأخبار عن يوم الحساب وما سيحدث فيه لمن يكفر بالوحدانية، وما سيحدث لمن يؤمن بها. ثم توكيد وحدانية الله وعبادته وحده بضرب الأمثال كضرب المثل الحسن للمؤمن والمثل السيئ للكافر. وأخيراً سرد قصص الرسل وموقف أممهم منهم ومن رسالاتهم وكيف كانت عاقبة الفريق الذي آمن وعاقبة الفريق الذي كفر توكيداً وتثنية لوحدانية الله.إذاً الآيات اللاتي أُجْمِلت معانيهن أي أُحْكِمتْ ثم فصلت في سور كسورة هود هن الأصل وهن أم الكتاب. وأم الكتاب هي سورة الفاتحة بناءً على الحديثين التاليين: عن أبي هريرة رضي الله عنه1: عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم". وعن أبي هريرة قال2: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم» فيستنتج أن آيات الفاتحة هن الآيات المحكمات اللاتي فصلهن الحكيم الخبير بناءً على قوله تعالى:(مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ) وهذا المعنى يرجح قول أبو عثمان الذي أخرجه القرطبي في تفسيره: (المحكم فاتحة الكتاب التي لا تجزئ الصلاة إلا بها). كما يستنتج أن تفصيلهن واحداً ومتشابهاً لا يخرج من محتوى سورة هود، وبالتالي هن أم التشابه. وبالرغم من أن الآية 1 هود بها مصطلح المحكم والمفصل فقط إلا أنها قد أوضحت أن كل آيات الكتاب معناها متشابه يصدق بعضه بعضا.ً وذلك لأن ما أُكل حكم من آياته وما فُصِّل معناه واحداً أي متشابهاً. أي أن سورة هود قد أوضحت معنى تشابه الكتاب الذي أورده مناع القطان بقوله:( وتشابه الكلام تماثله وتناسبه بحيث يصدق بعضه بعضاً...)

فيستنبط من ذلك أن سورة هود قد أوضحت معنى تشابه الآية 23 الزمر لأنها تتحدث عن أحسن الحديث والحديث هو الكلام. أي أنها تتحدث عن أخبار الإله ووحدانيته وما يترتب عليها وهو ما جاء في محتوى سورة هود. وبالتالي تكون آيات الفاتحة هن أم تشابه الكلام وأصله.

1-2    أما الآية: (وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ)  87 الحجر

فقد احتوت على مصطلح المثاني الذي ورد في الآية 23 الزمر. وقد جاء في معناها الآتي1: (ولقد أكرمناك أيها النبي بسبع آياتٍ من القرآن هي سورةُ الفاتحة التي تكررها في كل صلاة. وهذه السورة لها مكانتها الخاصة، لانها تشتمل على مجمل ما في القرآن. فمقاصد القرآن هي: بيانُ التوحيد، وبيان الوعد والبشرى للمؤمنين، وبيانُ الوعيد والانذار للكافرين والمسيئين، وبيانُ السعادة في الدنيا والآخرة، وقصصُ الذين أطاعوا الله ففازوا، والذين عصَوا فخابوا. والفاتحة تشتمل بطريق الايجاز والاشارة على هذه المقاصد ولذلك سميت " أم الكتاب" والسبع المثاني.)

فيستنبط من ذلك أن الكتاب كله متشابه وكله مثاني. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطي أصل وأم التشابه والمثاني الذي نزل بهن أحسن الحديث. وهذا المعنى يؤكد معنى الآية 1 هود ومعنى الآية 23 الزمر الذي توصلنا إليه.

2-    من الأحاديث

     لقد ورد حديث واحد له صلة بعلم القرآن بجانب أحاديث الفاتحة. وهو حديث السيدة عائشة رضي الله عنهاالآتي1:(إن أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا أثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لن ندعو الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا: لا ندع الزنى أبداً).يحتوي هذا الحديث على كثير من الأقوال (أي الجمل) التي تحتاج لتحليل لأهميتها في توضيح طريقة تنزيل آيات القرآن وأقسامها والهدف منها.

تحليل الحديث

القول الأول: "إن أول سورة من المفصل جاء فيها ذكر الجنة والنار" يشير إلى:

أولاً: وجود غير المفصل من السور(أي المحكم) الذي أنزل أولاً ولم يكن فيه ذكر الجنة والنار.

ثانياً: أن المُفَصَّل قد جاء توضيحاً وتبياناً لغير المُفِصَّل أي تفصيلاً للمحكم. ولهذا جاء في التفصيل ذكر الجنة والنار. إذاً قولها هذا هو توكيد لما ورد من تحليل لمعنى الآية "1" هود {الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}.

ثالثاً: أن المُفَصَّل هو سور كاملة لقولها" إن أول ما نزل منه سورة من المفصل" أي أن تفصيل الآيات المحكمات كان في سور طوال كسورة هود. وقولها هذا يؤيد قول الشعراوي2: (لكن التفصيل الذي جاء لنا من القرآن أنه سور، وكل سورة هي مجموعة من الآيات.) ويؤيد قول مجاهد وهو: ( أحكمت جملة، ثم بُيِّنت بذكر آية آية بجميع ما يحتاج إِليه من الدليل على التوحيد والنبوّة والبعث وغيرها) .             

ب-  وقولها:"حتى إذا أثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام" يوضح:

أولاً: أن أحسن الحديث الذي هو أخبار عن العقيدة قد نزلت آياته أولاً محكمات أي مجملات المعنى غير واضحات الدلالة ثم تم تفصيلهن في سور طوال بهن ذكر كل شيء

ثانياً: يخلو أحسن الحديث من الحلال والحرام، ولكنه لم يخلو من الأحكام التي أنزلت بالأوامر والنواهي أي بافعلوا ولا تفعل. حيث أوضح قولها أن آيات (الحلال والحرام)  لم تنزل إلا بعد اعتناق الناس للإسلام أي العقيدة.

ثالثاً: الحلال والحرام المعنيان في قولها هما الحلال البَيِّن باللفظ الواضح (أُحِلَّ لكم) والحرام البَيَّن باللفظ الواضح (حُرِّم عليكم) أو (لا يَحِلُ لكم).  لما ورد في الحديث التالي: عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال1: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الحلال بَيِّن وإن الحرام بَيِّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات إستبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتعه، ألا وإن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه. ألا وإ

محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب"

ج-  قولها:( ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لن ندعو الخمر أبداً، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا:لا ندع الزنى أبداً) يوضح كثير من الأمور وهي:

أولاً: إن هنالك أشياء قد تدرج فيها الحكم فلم ينهي الله عنها من أول مرة لإدمان الناس لها ولعدم مقدرتهم التخلي عنها من أول مرة. إذاً هي المتشابهات التي ذكرها عبد الوهاب خلاف بقوله: (فقد اقتضت سنة التدرج بالتشريع، ومسايرته المصالح، نسخ بعض الأحكام التي وردت فيها ببعض نسخاً كلياً، أو نسخاً جزئياً...النسخ في اصطلاح الأصوليين: هو إبطال العمل بالحكم الشرعي بدليل متراخ عنه، يدل على إبطاله صراحة أو ضمنياً، إبطالاً كلياً أو إبطالاً جزئياً لمصلحة اقتضته، أو هو إظهار دليل لاحق نسخ ضمناً العمل بدليل سابق.)

ثانياً:  إن المشتبهات في الحكم كما ورد في حديث النعمان هي أحكام المتشابهات التي لم ينزل الحكم فيهن بلفظ الحلال البيِّن (أُحلَّ لكم) ولا بالحرام البيِّن (حُرِّم عليكم) بل أنزل الحكم فيهن إباحة مؤقتة للتدرج في حكم النهي مما جعل الناس يشتبهون في حكمها هل هو حلال أم حرام وهو تعريف المتشابه الذي أورده عبدالوهاب خلاف بقوله: (والمتشابه لغة: مأخوذ من التشابه وهو أن يشبه أحد الشيئين الآخر، والشبه هو ألا يتميز أحد الشيئين من الآخر لما بينهما من التشابه عيناً كان أو معنى.) والشيئان المتشابهان في الأحكام هما الحلال والحرام.

ثالثاً: إن آيات الحلال البيِّن والحرام البيِّن هن آيات محكمات واضحات الحكم والمعنى. وبالتالي هن أول ما نزل في الحلال والحرام لأن حكمهن نزل في الأشياء التي يمكن للناس تطبيقها من أول مرة كما قال الشعراوي .

رابعاً: متشابهات الحلال والحرام قد أنزلن بعد آيات الحلال البيِّن والحرام البيِّن

عليه نصل إلى أن:

- الكتاب المذكور في الآية 23 الزمر هو كتاب جزئي لأنه أنزل أولاً كي يعتنق الناس الإسلام. فهو إذاً لا يحتوي على الحلال والحرام ولا على متشابهات الحلال والحرام. وقد أطلق عليه الكتاب الكلي وأريد به الكتاب الجزئي مجازاً مرسلاً علاقته الجزئية والله أعلم.

- الكتاب المذكور في كل من الآيتين 7 آل عمران و1 هود هو الكتاب الكلي الذي يحتوي  على محكمات العقيدة ومحكمات الأحكام ومتشابهات العقيدة ومتشابهات الأحكام واللاتي  أصلهن وأساسهن آيات الفاتحة السبع. وذلك لأن آيات الفاتحة هن أحكام محكمة وحكم تكرارهن فرض وواجب بجانب أنهن أخبار محكمة.

- أن الحروف المقطعة وغيرها من محكمات العقيدة المتشابهات أي أنهن يشبهن بعضهن ويصدقن بعضهن البعض لأهن أخبار. وقد وصفن بالمتشابهات لأنهن اشتركن في صفة متشابهات الأحكام غير واضحات الدلاله.

- أن محكمات العقيدة قد ذكرن ضمنياً في المتشابهات المثاني في الآية 23 الزمر. ومحكمات الأحكام قد ذكرن أيضاً ضمنياً في المحكمات في الآية 7 آل عمران. وأحسب أن ذلك من معجزات القرآن فكان سبباً في اللبس في تصنيف الآيات والله أعلم

الفرق بين متشابهات ومحكمات كتابي العقيدة والاحكام

إن محكمات الأخبار غير واضحات المعنى وقد فصلهن الله تدريجياً في سور طوال متشابهات في المعنى ومتماثلات يؤكدن بعضهن البعض لأنهن يتحدثن عن شيء واحد وهو التوحيد ولهذا لا يختلفن في المعنى أبداً. أما محكمات الأحكام فهن واضحات الحكم لأن العمل بهن فرض. ومتشابهات الأحكام هي اللاتي يتشابه فيهن حكم الحلال مع الحكم الحرام مما يجعل الناس لا يحرفون الحكم إن كان الحلال أم الحرام. ولهذا يوضح الله الحكم المطلوب تدريجياً بالنهي عن العمل بحكم المتشابهات.

- معالم المتشابهات المنسوخات

- أنزلت في الحالات الشعورية التي أدمنها الناس في الجاهلية

- الآيات الأولى بها إباحة تظهر وكأنها حلال وهي ليس بالحلال البين لعدم وجود لفظ أحل لكم

- بها شرط مقيد لحكم الإباحة. فإن لم يستوف ذلك الشرط يبطل العمل بالإباحة فيظهر الحكم وكأنه حرام وهو ليس بالحرام البين لعدم وجود لفظ حرم عليكم.

- يصعب على الناس استيفاء الشرط

- يشتبه على الناس حكمها هل هو الحلال أم الحرام

- يعمل بالإباحة لفترة من الزمن ليعلموا أن العمل بالإباحة يتعارض مع تقوى الله والعمل بالأحكام المحكمة كتعارض شرب الخمر مع الصلاة وأكل الربا مع الصدقاة

- يستفتي الصحابة رسول الله صلى الله في حكمها

- تنزل آيات الاستفتاء موضحة إثم ومضار العمل بالإباحة دون التحريم. فيستمر الصحابة يستفتون النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تنزل الآية المحكمة التي تنسخ حكم الإباحة في الآيات التي سبقتها وتوضح حكم النهي النهائي.

- بعد نزول الحكم الناسخ لا يعمل بالحكم المنسوخ

- من يعمل بالحكم المنسوخ ولا يأبه بالحكم الناسخ في قلبه ضلالة وزيغ

عليه وضعت أسئلة من معالم آيات الخمر والربا لتكون مقياساً لمتشابهات كتاب الأحكام. و يمكن تطبيق هذا المقياس على أي آية يراد معرفة حقيقتها، هل هي متشابهة منسوخة منسوخة أم لا. وذلك بتوجيه أسئلة المقياس بنفس الترتيب للآية. فإذا كانت الإجابة على جميع الأسئلة الأوائل (بنعم)، ما عدا إجابة السؤال الأخير(بالنفي أي بلا)،  تكون تلك الآية من المتشابهات المنسوخات لتطابق معالمها مع معالم آيات الخمر والربا المنسوخات.  عليه نأخذ الآية 3 النساء كمثال لنوع المتشابهات الثاني لقياسها بالمقياس المقترح لمعرفة إن كانمت متشابهة أم لا. حيث صنفها صبحي الصالح من الظاهر وهي أول ما أنزل في تعدد الزوجات مما جعلها تحتاج لقرينة خارجية تخرج معناها من ظاهره والآية هي:{ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي ٱلْيَتَامَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَٰنُكُمْ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلاَّ تَعُولُواْ}                                               3 النساء.

 

 

 

وقد كانت معالمها مطابقة تماماً للمقياس ولمعالم آيات الخمر والربا كالآتي: أنزلت الآية في أكثر الحالات الشعورية وحب الشهوات وزينة الحياة الدنيا وهي النساء. لم يكن الحكم فيها بالحلال البين (أحل لكم) بل كان إباحة محكومة بشرط صعب تحقيقه بين أكثر من إمرأة وهو العدل (أي الاستقامة وعدم الميل من حدود الله وهي الوفاء بالعقود) فصار الحكم وكأنه حرام وهو ليس بالحرام البين. عمل الناس بالاباحة فترة من الزمن. عند رد حكم الآية للمحكم اتضح تعارض حكم الإباحة (تعدد الزوجات)مع حكم المحكم (إن الله يأمر بالعدل والاحسان ) وقد أوضح الله في الآية 3 النساء أن الواحدة والواحدة فقط هي التي تحقق العدل (ذلك أدنى ألا تعولوا) . ونسبة لعدم وضوح حكم الآية 3 النساء استفتى الصحابة رسول الله في حكمها فنزلت آيات بعدها تستفتي الصحابة (ويستفتونك في النساء الآية 127 النساء والآيات 128 و129 و130). لم ترد الإباحة مرة أخرى في هذه الآيات بل جاء الحكم باختيار واحدة إما إصلاح الميل والاستقامة بحب الأولى وإما فراقها إن صعب عليه الاصلاح والبقاء مع من مال إليها. والله أعلم

 

 

 

 

 

     

 

 

 

 

 

 

 

 

 


المصدر: إعداد بتول عثمان المهدي
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 669 مشاهدة

عدد زيارات الموقع

8,594