<!--<!--<!--
تجلت الشورى في أعظم صورها بين رسول الله وأصحابه، وفي المواقف العظام التي تتحدد بها مصير الأمة الإسلامية ، في غزوة بدر أشار أحد الصحابة بتغيير موقع المعركة، فأجابه رسول الله، وفي غزوة أحد أشار عليهم بإبداء رأيهم في البقاء بالمدينة أم بالخروج لمقابلة العدو فكان الخروج بإجماع الصحابة فوافقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمواقف كثيرة للشورى بين النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، شاور الرجال كما في بدر وأحد والأحزاب وغيرها، وشاور النساء كما في صلح الحديبية، وشاور الشباب كما في حادثة الإفك حين أخذ رأي أسامة بن زيد وعلي بن أبي طالب، وهكذا في كل الأمور كانت الشورى.
والشورى لا تقلل من قيمة الحاكم أو القائد وقد رأينا أعظم حاكم وأعظم قائد يستشير أصحابه، لأنه يعلم الأمة في حاضرها ومستقبلها كيف تستفيد من عقول أبنائها وآرائهم حين تكون منزهة عن الهوى، وقد رأينا ذلك حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت سقيفة بني ساعدة ندوة للشورى بين المهاجرين والأنصار كل يبدي رأيه بصراحة تامة فيمن يخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجاء الصديق رضي الله عنه بعد مبايعته فقال: أيها الناس إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، إن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقد نقل السيوطي (المتوفى سنة 911هـ) في تاريخه عن الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه "لا يكون أحدا إماما إلا على هذا الشرط"، فليس الحاكم معصوما كما يدعي أهل البدع في كل الأزمان، وعلى الرعية مراجعته إذا رأت ما يخالف شرع الله، ولها الحق في عزله إذا لم يقم بما عاهد عليه الرعية، فلا تكن عبداً إلا لله وارفض كل أنواع العبودية لغيره.
وطالب الرياسة والعلو في الأرض قلبه معلق بمن يعينه عليها ولو كان في الظاهر مطاع فيهم فهو في الحقيقة يرجوهم ويخافهم فيبذل لهم الأموال والولايات ليطيعوه ويعينوه، فهو في الظاهر رئيس مطاع وفي الحقيقة عبد مطيع، وكليهما فيه عبودية للآخر، ولن يستغنى القلب عن جميع المخلوقات إلا بأن يكون الله هو مولاه الذي لا يعبد إلا إياه ولا يستعين إلا به ولا يتوكل إلا عليه ولا يفرح إلا بما يحبه ويرضاه، فكلما ازداد عبودية لله ازداد حبا له وحرية عمن سواه (ابن تيمية-العبودية).
هكذا يكون المؤمن متواضع لله عزيز به سبحانه، فلا تتبدد نفسه بين غرور الرئيس ومهانة المرءوس ويأسه، قال تعالى: "تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) القصص، ولايؤدي التشريع الإسلامي إلى تحكم رجال الدين فيها، فليس في الإسلام سلطة كهنوتية، وإنما هناك علماء متخصصون في الشريعة يجتهدون وقد يصيبون أويخطئون فهم غير معصومين، قال تعالى: "قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاء اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" (188):الأعراف.
ولا يستطيع أن يزعم علماء الإسلام أن لهم مكانة فوق البشر ولا وساطة منهم للناس عند الله، فكل مسلم صلته بالله مباشرة، قال تعالى: "وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً" (15):الإسراء، وليس لعلماء المسلمين أن يحرموا حلالا أو يحلوا حراما، قال تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ" (87):المائدة.
والحاكم عالم مجتهد قد يصيب وقد يخطئ، ولا يستطيع أن يحمل الناس على اجتهاده إلا أثناء حكمه أما اجتهاده فمتروك لأهل العلم للتقييم وفق الأصول المنهجية ، وقد أخذ بعض الفقهاء باجتهاد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ولم يأخذ بها آخرون إذا رأوا غيرها أحق بالإتباع، يقول القاضي أبو الحسن الماوردي في أقسام الأرضين "ما ملك من المشركين عنوة وقهرا فيكون على مذهب الشافعي غنيمة تقسم بين الغانمين وتكون أرضا عشرا لا يجوز أن يوضع عليها خراج، وجعلها مالك وقفا على المسلمين بخراج يوضع عليها، وقال أبوحنيفة يكون الإمام مخيرا بين الأمرين (الماوردي: الأحكام السلطانية ص137).
يجب أن يقوم الحكم على الشورى حتى لا يستبد الحاكم بالمحكوم، ولا تهمل إرادة الشعوب لأن في ذلك إذلالها، ولا يعتز الإسلام بذليل قط، والإستبداد صورة من صور الاسترقاق ولا يصح أن يسترق المؤمنون تحت حكم الإسلام، ولا ندري بأي سلطان يفرض الحاكم على المحكوم حكماً لا يكون مستمداً من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستشير في كل أمر لم ينزل به وحي ليعلم الحكام من بعده أنه لا يستقيم أمر المسلمين إلا بالشورى، وليعلم كل إنسان أنه إن استبد برأيه يخطئ، وإن أصاب وأصلح، فإنه قد أخطأ أيضاً، لأنه بمقدار استبداده يكون إذلاله للشعب، وإذا ما ذل الشعب فإنه يستسلم، والاستسلام للحاكم سبيل للإستسلام للأجنبي، وإذا كان المستبد عادلا، فإن الاستسلام له يؤدي إلى الاستسلام للظالم، ويكون بعد ذلك شر مستطير لأن شعار المستبد "من قال اتق الله قطعت عنقه".، ولو راجعنا أسباب سقوط الأقاليم الإسلامية في أيدي غير المسلمين لوجدنا استبداد حكامهم وشعور المسلم بأنه لا رأي له في بلده فتهون عليه ويستسلم للمستبد عادلا أو ظالما (محمد أبوزهرة:الوحدة الإسلامية ص:250).