مشروع ميكنة مقتنيات دار الوثائق القومية المصرية
رؤية نقدية
تعد دار الوثائق القومية أو الأرشيف القومي المصري بمثابة المستودع الرئيسي الذي يقوم بالحفظ والإتاحة للوثائق المتعلقة بتاريخ مصر التي تمتد إلي فترات موغلة في القدم وتحديدا منذ العصر الفاطمي وحتي الوقت الراهن, وهي بذلك تمثل ذاكرة الوطن والمعين الأساسي لكل باحث ودارس ومستفيد في مجال الدراسات التاريخية والأبحاث العلمية, بالإضافة إلي أهميتها القصوي في المحافظة علي حقوق الوطن والمواطنين لما تمثله تلك الوثائق من أهمية كبري كمستندات أو أدلة يمكن أن يرجع إليها للاحتجاج بها.
ودار الوثائق تحتفظ بأعداد هائلة من الوثائق المفردة والدفاتر والسجلات والمضابط والخرائط التي تتعلق بكافة جوانب التاريخ السياسي والحربي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والقضائي والتعليمي لمصر في مختلف العصور.
ونظراًً لتلك الأهمية القصوي لدار الوثائق فقد ظهرت الحاجة إلي وجود أدوات البحث بمختلف أشكالها وأنواعها ( فهارس – أدلة – مستخلصات – كشافات ..وغير ذلك ) للمساعدة في الوصول إلي تلك الكنوز الوثائقية وقت الحاجة.
ولقد كان السبب وراء فكرة مشروع إعداد قاعدة بيانات رقمية لوثائق الدار- وفقا لتصريحات رئيس الإدارة المركزية لدار الوثائق أنذاك – الصعوبات التي كانت تواجه عملية استرجاع الوثائق نتيجة لعدم وجود نظام دقيق لفهرسة تلك الوثائق, مما أدي إلي ضرورة وجود وسيلة يمكن من خلالها فرز الوثائق وتصنيفها وإيجاد الطرق الآلية لاسترجاعها( 1).
وفي هذا الصدد يمكن أن تثار بعض التساؤلات عن مدي جدوي إعداد مشروع الميكنة في ظل عدم وجود نظاماً يدوياً جيداً يتيح الوصول إلي وثائق الدار, وذلك لأنه من المعروف أن من أهم مراحل الإعداد والتجهيز لمشروعات التحول الرقمي والأرشفة الالكترونية أن يكون لدي الجهة المراد رقمنة وثائقها نظاماً يدوياً جيداً يعمل بطريقة صحيحة تتيح الوصول إلي الوثائق المرتبة المنظمة داخل أوعية حفظها, حيث أن الهدف الأساسي من الرقمنة هو الوصول إلي الوثائق المختلفة بسرعة وسهولة, مع المحافظة علي الأصول الورقية من التداول لحمايتها من التلف والدمار التي يمكن أن تتعرض له مع كثرة استعمالها من قبل الباحثين.
فتكنولوجيا التحول الرقمي وحدها- من وجهة نظري- في ظل عدم وجود تنظيماً أو ترتيباً للوثائق المراد تحويلها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تحل مشكلات الأرشيفات المهلهلة المفتتة والوثائق المتداخلة والمختلطة موضوعياً والمجموعات الأرشيفية المتكاملة التي بُعثرت موضوعاتها ووزعت علي أكثر من مخزن أو مكان حفظ داخل الأرشيف ( 2 ).
ولذلك فالقول بعدم وجود نظم فهرسة يدوية هو السبب الرئيسي وراء التوجه إلي إنشاء قاعدة بيانات إلكترونية هو قول - من وجهة نظري- قد جانبه التوفيق ومن ثم فقد أدي إلي وقوع العديد من الأخطاء الجسيمة عند إعداد تلك القاعدة, حيث كان من الواجب أولاً وقبل القيام بمشروع الميكنة أن تتم عمليات الإعداد والتجهيز والحصر العلمي الدقيق والترتيب والترميم للوثائق والوحدات الأرشيفية ( تدخل تلك العمليات في إطار ما يسمي بالمرحلة التمهيدية للتحول الرقمي ) حتي يمكن تحويل تلك الوثائق رقمياً علي نحو علمي سليم دون وقوع اخطاء جسيمة.
أما فيما يتعلق بالإعداد والتجهيز لمشروع الميكنة فقد قام المسئولون بالدار بعمل مشروع صغير لفهرسة ورقمنة عدد قليل من الوثائق ليكون بداية التجربة التي يسترشد بها في عمل قاعدة البيانات الضخمة وهنا يمكن ان نطرح سؤالا عن مدي استفادة الدار نفسها من ذلك المشروع الاسترشادي ؟
أقول للأسف الشديد أن دار الوثائق لم تستفد كلية من ذلك المشروع, وذلك للعديد من الأسباب أهمها عدم وجود عمليات حصر أو ترتيب أو تنظيم لمحتويات الدار(3), وكذلك عدم تكوين رؤية واضحة من قبل المسئولين فيما يتعلق بالغرض من وراء ذلك المشروع الاسترشادي, بالاضافة إلي عدم تمكن الدار من وضع التصورات الواضحة ومعرفة آليات ومتطلبات التحول الرقمي وإعداد قاعدة البيانات الالكترونية.
ورغم كل تلك المشاكل تم توقيع بروتوكول تعاون بين وزارتي الثقافة والاتصالات مفاده أن تقوم وزارة الاتصالات بالتمويل اللازم لإعداد قاعدة البيانات وإنشاء موقعاً إلكترونياً للدار علي الإنترنت, بحيث يمكن من خلاله الاتصال بتلك القاعدة والبحث عن الوثائق عن طريق استراتيجية بحث معينة أو مفاتيح معينة. ولقد تم طرح مناقصة بهذا الشان فاز بها تحالف مجموعة من الشركات بقيادة شركة
I BM) ) والتي عهدت بالمشروع من الباطن لشركة ( Alied Soft ) رغم عدم وضوح أسس إختيار تلك الشركة بالذات, وبدأت بذلك المراحل الفعلية لإعداد المشروع الذي يهدف إلي إعداد قاعدة بيانات تضم نحو 25مليون تسجيلة, بالاضافة إلي عمل مسح ضوئي لنماذج مختلفة من الوثائق تبلغ نحو مائة ألف وثيقة( 4).
وهنا لابد ان نتوقف أمام المشكلات التي واجهت دار الوثائق في سبيل إنجاز ذلك المشروع الضخم والتي تتلخص في عدم جاهزية مخازن الدار بما تضمه من مقتنيات غير مرتبة وشتات وثائق مبعثرة, بالإضافة إلي عدم توافر الكفاءات البشرية والفنية من موظفي الدار التي يمكن أن تقوم بالرقابة والتوجيه والتدريب والإشراف بالمراحل المختلفة لإعداد قاعدة البيانات ( مثل الفرز والترتيب - إعداد الملفات الموضوعية للوثائق المفردة - إدخال بيانات الوثائق صعبة القراءة- مراجعة التسجيلات... وغير ذلك ) الأمر الذي جعل الدار تتجه إلي الاستعانة بأعداد كبيرة من شباب الخريجين من ذوي التخصصات المختلفة ( تجارة- حقوق- زراعة - حاسب آلي- آداب- ألسن- اقتصاد- معاهد سكرتارية .. وغيرهم ) والذين لم يكن لديهم أدني خبرة أو معرفة مسبقة بكيفية التعامل مع الوثائق ليقوموا بمهام الفرز والترتيب والتجميع والمراجعة والترقية بعد توزيعهم علي ثلاثة فرق
الفريق الأول:
هو فريق الفرز الذي تولي مسئولية فرز وترتيب الوثائق المفردة ووضعها داخل ملفاتها الموضوعية.
الفريق الثاني:
وهو فريق التجميع الذي عُهد إليه مهمة إدخال بيانات الوثائق علي أجهزة تسجيل رقمية يسع الواحد منها نحو 300 ملف صوتي.
وهذا الفريق تم تدريبه بمقر الدار علي عمليات قراءة خطوط الوثائق وتقرير عناوينها وإختيار الكلمات الدالة المفتاحية لكل منها وفقا لخطة تدريب شاملة تم وضعها لتحقيق ذلك الغرض. الفريق الثالث:
وهو من تولي مسئولية إدخال البيانات التي تم تجميعها أو تسجيلها بمعرفة الفريق الأول علي أجهزة الحاسبات الآلية بمركزي الإدخال بالمعادي ومصر الجديدة التابعين للشركة المنفذة.
ولقد عُهد إلي مهندسي الشركة بتدريب ذلك الفريق بمقر الشركة علي كيفية التعامل مع برنامج الإدخال الذي, مع ملاحظة أن هذا الفريق لم يتم تدريبه بشكل كاف علي كيفية التعامل مع كلمات الوثائق الصعبة و كتابتها بشكل صحيح.
وقد واجهت عملية تجميع بيانات الوثائق صعوبات بالغة يمكن أن تجمل فيما يلي :
1- وجود عشرات الآلاف من الوثائق المفردة التي ترجع إلي القرن التاسع عشر والموضوعة داخل أوعيتها بمخازن الدار خاصة المخازن التابعةلإدارة الانتاج ومخازن إدارة الخاصة دون ترتيب أو تنظيم وليست لها أي معينات للبحث أو وسائل إيجادية, الأمر الذي دفع الدار إلي الاستعانة بعشرات من الشباب تحت مسمي ( فرق الفرز والترتيب ) والتي قامت بعملية ترتيب الوثائق المفردة - كما سبق ان أوضحت- ووضعها داخل ملفات مع إعطاء كل ملف منها عنواناً خاصا به بشكل يعكس محتوياته.
ولكن ثمة ملاحظة مهمة أود الإشارة إليها وهي أن فرق الفرز هذه لم تكن لديها الخبرات الكافية في التعامل مع تلك الوثائق المفردة, كما أنها لم تتلق التدريبات الكافية التي تؤهلها لمثل ذلك العمل الفني المهم ( حتي في أبسط الحالات كان معظمهم لا يستطيع التفرقة بين عنوان الوثيقة وعنوان الملف ) بالإضافة إلي عدم وجود رقابة أو إشراف من جانب الدار لتوجيه هؤلاء الشباب نحو معايير وضوابط عملية الترتيب ووضع عناوين الملفات لعدم توافر الكفاءات الفنية من بين موظفي الدار العاملين بالمخازن ممن يكونون علي دراية بكيفية إعادة ترتيب الوثائق المفردة ووضعها داخل ملفاتها الموضوعية وصياغة العناوين المناسبة لكل ملف منها ( يري رئيس الإدارة المركزية لدار الوثائق ومدير المشروع الدكتور رفعت هلال أن هذا المشروع يعتبر سابقة معدومة النظير في داخل مصر وخارجها, فلم يحدث من قبل أن تم تجميع بيانات أي أرشيف علي مستوي الوثيقة, وكل ما قامت به الأرشيفات العالمية هو عمل فهارس أو قواعد بيانات لمستوي الملف أوالسجل)(5) وقد أدي ذلك إلي :
- فتح ملف لكل وثيقة مفردة علي حدة مع إعطاء عنواناً للملف هو في ذات الوقت عنوان الوثيقة.
- توزيع وثائق الموضوع الواحد علي عدة ملفات لكل منها عنواناً مختلفاً .
- وضع عناوين غير صحيحة للوثائق والملفات مما أدي إلي وجود عناوين وهمية لبعض الملفات لا تعكس ولا تعبر عن الوثائق التي تتضمنها تلك الملفات.
- أخطاء لغوية وإملائية في صياغة عناوين الملفات.
- أخطاء فادحة في كتابة تواريخ الملفات أي الفترات الزمنية التي يتضمنها كل ملف.
- عدم التفرقة بين الترجمات الأصليةالمصاحبة للوثائق المدونة باللغة التركية العثمانية التي تعد مرفقا للوثيقة ذاتها (لقد جرت العادة في القرن التاسع عشر علي إرفاق بعض الترجمات العربية للوثائق المدونة باللغة التركية العثمانية وهي بذلك تعد مرفقات للوثائق التركية وجزءا لا يتجزأ منها), والترجمات الموضوعة من قبل الدار في فترات لاحقة والتي لا يمكن إعتبارها مرفقات.
2- وجود المئات من الوحدات الأرشيفية المحفوظة بالدار والتي تفتقر إلي أدني معايير الحفظ الأرشيفي بالطرق العلمية من حيث الترتيب والتنظيم والتكامل, فالوحدات المحفوظة بالدار تعاني منذ سنوات طوال وفي ظل الإدارات المتعاقبة للدار وحتي الآن من سوء حفظ وعدم ترتيب وهناك عشرات الأمثلة التي تعكس مدي ما تعانيه تلك الوحدات من تفكك وتشتت وعدم تنظيم، مما كان له أكبر الأثر في خروج قاعدة البيانات بهذا الكم الهائل من الأخطاء الجسيمة التي يصعب تجاوزها في الوقت الراهن.
3- وجود أعداد كبيرة جداً لا حصر لها من الوثائق والدفاتر والسجلات الممزقة والتالفة والمحفوظة في بيئة غير مناسبة, بالإضافة إلي عدم ملائمة طرق الحفظ الحالية بمخازن الدار وارتفاع نسب التلوث والرطوبة والحموضة بتلك المخازن ( حتي عمليات الرش والتبخير والتعقيم للمخازن تتم بصورة غير علمية وبطريقة عشوائية مما كان له تأثيراً سيئاً علي الحالة الصحية للعاملين بهذه المخازن ), وكذلك الغيبة الكاملة لمسئولي الدار من ناحية رسم الخطط ووضع التصورات التي تتعلق بترميم وصيانة تلك الوثائق وإصلاح وتطوير المخازن, الأمر الذي سوف يُعجل بسرعة دمار الوثائق وفقدها للأبد.
4- نظرا لضخامة المشروع ورغبة الدار في إنجازه في مدة زمنية قصيرة ( نحو أربع سنوات ) كانت هناك حاجة إلي وجود أعداداً كبيرة من مجمعي البيانات يعملون متزامنين في عدة مخازن, الأمر الذي أدي إلي صعوبة استيعاب المخازن لكل هؤلاء مرة واحدة مما أثر بالتالي علي كفاءة العمل وجودته .
5- ندرة وجود الكفاءات البشرية ذات الخبرة الفنية التي يمكن أن تقوم بالاشراف علي تدريب وتعليم المجمعين ومدخلي البيانات ومراقبة سير العمل, وأيضا المراجعة الدقيقة للتسجيلات المنتجة قبل ترقيتها ورفعها علي قاعدة البيانات, مما أدي إلي زيادة أعباء التوجيه والتدريب والإشراف علي المشرف الفني و صعوبة متابعة ورقابة وتوجيه للمجمعين في ظل أعدادهم الكبيرة وانتشارهم في العديد من المخازن, بالإضافة إلي أوجه التقصير الشديدة في النواحي التدريبية لفرق التجميع واختصار مدة التدريب ( تعرض المشرف الفني لضغوط شديدة من قبل الدار والشركة المنفذة للمشروع لاختصار مدة التدريب وسرعة تأهيل المجمعين للعمل بالمخازن), مما أثرفي النهاية علي كفاءة العمل كله.
6- صعوبة موائمة الدار بين الهدف من وراء إنجاز ذلك المشروع القومي في النهوض بدار الوثائق كأرشيف وطني للدولة والمحافظة علي التراث الوطني الوثائقي والإرتقاء بالخدمات التي تقدمها الدار, وبين إعتبار بعض المنتفعين من داخل الدار وخارجها أن الهدف من وراءه لا يتعدي كونه هدف إستثماري بحت ( سبوبة ) وللأسف الشديد لم يتخذ المسئولون بالدار القرارات المناسبة التي تتفق مع تحقيق الأهداف العليا للمشروع, مما أثر سلباً في نهاية الأمر علي الوثائق والوحدات الأرشيفية المحفوظة بالدار وعلي قاعدة البيانات ككل, وتمثل ذلك في :-
أ- أسلوب التسويف والمعارضة الذي اتبعه المسئولون بالدار لمعظم النصائح والتوجيهات التي وجهت لهم من قبل المشرف الفني وعضو اللجنة العلمية للمشروع فيما يتعلق بإعادة النظر في ترتيب وتتظيم الوحدات الأرشيفية بالدار, وفي رغبته بالتدخل الشخصي لتوجيه فرق الفرز وتدريبهم علي القيام بعمليات إعادة ترتيب الوثائق المفردة بشكل علمي
ب- المماطلة وتأجيل مناقشة الاقترحات التي قدمت من المشرف الفني وبعض أعضاء اللجنة العلمية للمشروع بشأن ضرورة إتمام عمليات إدخال بيانات الوثائق داخل الدار نفسها بدلا من وجود مراكز للإدخال خارج الدار, وذلك لضمان المحافظة علي سرية بيانات بعض الوثائق المهمة, وكذلك لتحقيق الإشراف المباشر علي مدخلي البيانات وعمليات التسجيل وتسهيل عمليات المراقبة والتوجيه والإشراف.
ج- رفض كافة مقترحات المشرف الفني الخاصة بتقليل أعداد الوثائق المطلوب تسجيلها من قبل كل مجمع في فترة العمل الواحدة حتي تخرج التسجيلات بمواصفات الجودة المطلوبة, وذلك لأن سرعة المجمع في تسجيل البيانات علي جهاز التسجيل الرقمي أدت في كثير من الأحيان إلي الوقوع في العديد من الأخطاء الجسيمة ( مثل: الكود الأرشيفي - صياغة العنوان - الكلمة الدالة- المنشيء- التاريخ الزمني للوثيقة ) فضلا عن ذلك فإن عدم وضوح الصوت وكثرة الضوضاء في المخازن- نظراً لزيادة اعداد المجمعين وضيق المكان المخصص للتجميع في بعض المخازن - قد ترك الكثير من الآثار السلبية علي عملية الإدخال.
د- تسجيل الآلاف من الوثائق عديمة القيمة مثل نسخ الملفات المكررة والسندات والمطبوعات المكررة وسراكي تسليم الخطابات الفارغة وما إلي ذلك من وثائق ومطبوعات ليست ذات أهمية تاريخية تستوجب رقمنتها ( 6), مما كان له أكبر الأثر علي كفاءة قاعدة البيانات.
تلك هي بعض الصعوبات- ليست كلها بالطبع- التي واجهت عملية تجميع البيانات, يضاف إلي ذلك كله رغبة الكثير من مجمعي البيانات ومدخليها في الحصول علي أكبر قدر من المرتبات خلال الفترة الزمنية للمشروع ( لهم بعض العذر في ذلك ), الأمر الذي أثر بالسلب علي كفاءة التسجيلات المنتجة بسبب السرعة الكبيرة في عمليات التجميع الصوتي والإدخال علي أجهزة الحاسب, وفي المقابل عدم دقة وكفاية عمليات الإشراف والمراجعة علي تلك التسجيلات .
وبعد إتمام عمليات التسجيل الصوتي لبيانات الوثائق تقوم الشركة المنفذة بإرسال التسجيلات إلي مراكز الإدخال خارج الدار بعد إعادة تسمية الملفات الصوتية ( لقد حدثت الكثير من الأخطاء والمشاكل الفنية من طاقم العمل المسئول من قبل الشركة المنفذة عن عملية إعادة التسمية هذه مما نتج عنه اختلاط أكواد الوثائق بعضها ببعض وحدوث الكثير جدا من الأخطاء الجسيمة التي يصعب تصحيحها عند القيام بعمليات المراجعة ).
أما عن عملية الإدخال نفسها فقد شابها الكثير من المشكلات شأنها في ذلك شأن عملية التجميع من حيث عدم تدريب فريق الإدخال علي كيفية صياغة أو كتابة ما يسمعونه في التسجيلات التي تتضمن بيانات الوثائق بصورة صحيحة, وذلك لغرابة المصطلحات المستخدمة في كتابة عناوين الوثائق والكلمات الدالة, وكان من الأجدر قبل إلحاق هؤلاء بالعمل أن يتم تدريبهم علي كيفية قراءة وفهم تلك الصيغ الغريبة علي آذانهم, وكذلك السرعة الكبيرة في الكتابة التي أدت إلي وقوع الكثير من الأخطاء الجسيمة ( أخطاء في الأكواد الأرشيفية – أخطاء في اللغة والصياغة – أخطاء في كتابة التواريخ الزمنية للوثائق ), أضف إلي ذلك كله عدم وجود رقابة وإشراف من قبل فنيين متخصصين بدار الوثائق علي عملية الإدخال هذه بل تُرك أمر ذلك الإشراف للشركة المنفذة.
ورغم محاولات الشركة ومسئولي الدار تلافي الأخطاء الجسيمة الناتجة عن عملية الإدخال باستخدام القاموس الإملائي وإختبارات الجودة الآلية إلا أن تلك المحاولات لم تؤت الثمار المرجوة منها لأسباب عديدة أهمها - من وجهة نظري - أن التكنولوجيا والنظم الآلية وحدها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتدخل بإصلاح الأخطاء الواردة عن عمليتي التجميع والإدخال ( مثل الأخطاء الإملائية واللغوية الناتجة عن سوء قراءة المجمعين وأيضا تلك الأخطاء الناتجة عن عدم فهم مدخل البيانات لبعض الصيغ أو المصطلحات الوثائقية الغريبة ومن ثم كتابتها بشكل خاطيء, وكذلك الأمر بالنسبة لصياغة العنوان نفسه وإختيار الكلمات المفتاحية التي تعبر عن مضامين الوثائق فلايمكن للطرق الآلية أن تحكم بصحة أو خطأ تلك الصياغة ومدي تطابقها أو عدم تطابقها مع مضمون الوثيقة أو الملف ( يمكن أن يكون العنوان صحيحاً من الناحية اللغوية والإملائية ولكنه لا يعبر عن مضمون الوثيقة ).
عملية الاستلام وتحقيق الجودة
تعتبر تلك العملية من أخطر وأهم العمليات في المشروع, وتعني هذه العملية أن تقوم الدار باستلام التسجيلات التي انتهي تجميعها من الشركة المنفذة في شكل دفعات، يلي ذلك تكليف فريق المراجعة وتحقيق الجودة بالدار بإجراء عمليات فحصها ومراجعتها للتأكد من جودتها قبل موافقة الدار علي قبولها.
ومن الملاحظ أن الدار قامت بقبول جميع الدفعات التي انتهت الشركة منها بغض النظر عن حجم الأخطاء الجسيمة( 7)
مراجعة التسجيلات وترقيتها
وهي العملية التي تهدف إلي التأكد من صحة بيانات التسجيلات ومطابقتها لما هو موجود فعلياً, ولقد استعانت الدار لتحقيق ذلك الهدف بفريق من الشباب من ذوي التخصصات المختلفة عديمي الخبرة والدراية بكيفية التعامل مع الوثائق والطرق الصحيحة لاستخلاص بيانات الوثائق والملفات الأساسية كالعناوين والكلمات الدالة, بالاضافة إلي عدم تمكن معظمهم من قراءة الخطوط القديمة خاصة خطوط سجلات المحاكم العثمانية.
ونظرا لعدم الخبرة التي تمتع بها هؤلاء والكم الهائل من التسجيلات التي تحتاج للمراجعة وتحقيق الجودة وضعف الإشراف الفني عليهم, فقد أدي ذلك إلي حدوث بطء شديد في إنجاز العمل نتج عنه وجود فجوة كبيرة جداً بين عمليتي التجميع والإدخال وعملية المراجعة, مما أسفر في النهاية عن تزايد أعداد الدفعات المنتهية التي تحتاج إلي مراجعة وتحقيق جودة وبالتالي حدثت مشكلات كبيرة في عملية المراجعة هذه ونتج عنها ترقية الكثير من الوثائق والملفات واتاحتها علي الموقع دون إتمام تصحيحها أو تحقيق جودتها وظهور الكثير من الأخطاء الجسيمة مثل:
- أخطاء في الكود الأرشيفي للملف أو الوثيقة ( أدي ذلك إلي استحالة الوصول إلي الوثيقة في مكان حفظها )
- أخطاء في العناوين ( عدم مطابقة العنوان لمضمون الوثيقة كلية, أو عدم صحة بعض المصطلحات ( خاصة أسماء الأشخاص والأماكن ومصطلحات الوظائف, أو صحة العنوان مع عدم دقة الصياغة ( عنوان ركيك ) بالاضافة إلي كم الأخطاء اللغوية والإملائية ).
- أخطاء في تحديد منشيء الوثيقة وخاصة بالنسبة للوثائق الإدارية المفردة.
- أخطاء في إختيار الكلمات الدالة المفتاحية.
- أخطاء في الوصف المادي للوثيقة.
- أخطاء في تحديد اللغة المدونة بها الوثيقة.
- أخطاء في تحديد التاريخ الزمني للوثيقة.
هذا ويعود السبب المباشر والرئيسي في وقوع تلك الأخطاء إلي عدم كفاءة وخبرة فريق المراجعة بالاضافة إلي الاكتفاء فقط - في كثير من الأحيان- بالمراجعة علي شاشة الحاسب الآلي دون الرجوع إلي الوثيقة الأصلية للتأكد من صحة البيانات المكتوبة ( ترجع كثرة الأخطاء الجسيمة في واقع الأمر إلي ضخامة أحجام التسجيلات ( عدة ملايين ) مما جعل أمر مراجعتها وتصحيح أخطائها بالرجوع إلي أصل الوثيقة الورقي من الأمور شبه المستحيلة, وبالتالي اعتمد فريق المراجعة علي نظام المراجعة العشوائية واختيار عدة تسجيلات قليلة من بين مئات أو آلاف التسجيلات للقيام بمراجعتها علي أصولها الورقية المحفوظة بالمخازن ( إن الأساس الذي قام عليه المشروع والهدف الذي سعي المسئولون بالدار لتحقيقه والذي يتمثل في إنشاء قاعدة بيانات ضخمة ( 25 مليون تسجيلة ) في فترة زمنية قصيرة كان له أكبر الأثر في كم الأخطاء الذي عانت منه قاعدة البيانات هذه وذلك لعدم وجود خطط واضحة واستعدادات حقيقة ورغبة صادقة في إنجاز وتحقيق ذلك الهدف ).
ولما صارت المراجعة علي ذلك النحو من البطء الشديد وعدم إمكانية مراجعة وتدقيق كافة التسجيلات لعدم وجود الآلية التي تمكن من ذلك, اتخذ المسؤلون قراراً أري أنه من أكثر القرارات ذات الأثر السلبي علي جودة قاعدة البيانات ألا وهو استبعاد فريق المراجعة والاكتفاء بما تم إنجازه.
وبرغم كل ما سبق استمر سير العمل بالمشروع في مرحلتي التجميع والإدخال وتسليم الدفعات المنتهية من قبل الشركة بعد إجراء البرامج الآلية للمراجعة وتحقيق الجودة( مثل القاموس الإملائي والاختبارات الآلية والمدقق الإملائي وكلها برامج آلية تعتمد علي إستبعاد التسجيلات التي تخالف المنطق) حتي النهاية مع استعانة الدار أحياناً ببعض الأشخاص من غير المتخصصين لمراجعة وترقية بعض الوثائق بشكل صوري دون اعتبار لمعايير الجودة الحقيقية.
تلك هي الصورة الكاملة التي أصبح عليها مشروع ميكنة دار الوثائق, ذلك المشروع الذي تكلف مبالغ طائلة دون أن يحقق- من وجهة نظري كمتخصص- العائد أو الفائدة المطلوبة منه للعديد من الأسباب التي ذكرتها والتي تنحصر أهمها في عدم جاهزية الدار نفسها للقيام بتلك الخطوة المهمة نحو رقمنة وثائقها ( أتذكر في هذا الصدد ما سبق أن ذكره كاتب المقال لأحد المسئولين بالدار عن مدي أهمية أن تقوم الدار بصرف تلك المبالغ الطائلة علي قاعدة بيانات لمجموعات من الوثائق سوف تُفقد للأبد في القريب العاجل نتيجة لعدم توافر الظروف الملائمة لصيانتها وترميمها, وأيضاً للحالة السيئة جداً وأسلوب الحفظ العقيم داخل مخازن الدار, ألم يكن من الأجدي صرف تلك المبالغ علي صيانة وترميم الوثائق وتطوير المخازن وطرق حفظ الوثائق, ورفع الكفاءة الفنية للعاملين بالأرشيف... وغير ذلك من الأساليب التي تعمل علي النهوض بالدار؟ ), ولغيبة الخطط والتصورات الواضحة عن الوسائل التي كان ينبغي علي الدار أن تستخدمها في سبيل إنجاح ذلك المشروع لو كانت هناك رغبة حقيقية في خدمة تراث الدولة الوثائقي, ولكن للأسف الشديد بدا الأمر كما لو كان الأمر مجرد وسيلة لتحقيق أهدافاً شخصية لأفراد بعينهم دون وجود رغبة حقيقية لجعل دار الوثائق في أفضل صورة ممكنة بين أرشيفات العالم المحترمة.
الهوامش
1- رفعت هلال: وثائق مصر في عصر العولمة ( تجربة مصرية رائدة لميكنة مقتنيات دار الوثائق القومية ) القاهرة, دار الكتب والوثائق القومية, 2009م, ص 27
2- للاستزادة والاطلاع علي بعض نماذج من الوحدات الأرشيفية غير المرتبة بدار الوثائق القومية راجع دراسة سابقة لكاتب المقال بعنوان " مشكلات حفظ وترتيب الوحدات الأرشيفية بدار الوثائق القومية " والمنشورة إلكترونيا علي موقع kenanaonline
3- لقد قامت الدار بعمل مشروع حصر للمقتنيات ولكن نظرا لعدم مراعاة القواعد الأرشيفية الصحيحة في حصر الوثائق والمجموعات الأرشيفية والاعتقاد السائد بين موظفي الدار أن الحصر مجرد إحصاء عددي للوثائق والدفاتر, حدثت الكثير من الأخطاء أثناء إجراء ذلك الحصر, الأمر الذي أدي إلي عدم وجود استفادة حقيقية من هذا المشروع.
4- لقد ذكر السيد الدكتور رئيس الإدارة المركزية عن الأهداف المرجوة من وراء تنفيذ ذلك المشروع الضخم ومنها التعريف بالكنوز الوثائقية التي تقتنيها الدار وتسهيل إتاحتها من خلال قاعدة البيانات والحفاظ علي أصول الوثائق وصيانتها من التلف وحصر مقتنيات الدار من تلك الكنوز والارتقاء بأساليب ووسائل العمل داخل الدار ..وغير ذلك من الأهداف .
وتعليقا علي القول السابق للدكتور رئيس الإدارة المركزية أقول وبكل صدق من واقع تجربتي مع دار الوثائق ومن خلال المدة الطويلة التي قضيتها في العمل داخل مخازنها إن هناك صعوبات تحول دون تحقيق كل هذه الأهداف أو حتي بعضها بسبب عدم وجود مبررات وأسباب نجاح ذلك المشروع, ولافتقاد قاعدة بيانات دار الوثائق للعديد من المقومات التي تجعلها تحقق الأهداف التي أعدت من أجلها.
للاستزادة عن أهداف المشروع من وجهة نظر القائمين عليه راجع :
رفعت هلال : المرجع السابق, ص 33-34.
5- نفس المرجع, ص56.
هناك إصرار من قبل مسئول الدار علي القول بتفرد مشروع دار الوثائق عن غيره من مشروعات الأرشيفات العالمية وتجاربها في ميكنة الوثائق, وذلك بعقده مقارنة بين نموذج الأرشيف البريطاني والقول بإقتصار مشروعه علي رقمنة الملفات دون الوثائق المفردة, وهو بذلك يتجاهل إما عن عمد أو نتيجة لعدم معرفة, والذي لابد أن يقال في هذه المناسبة أن الأرشيف البريطاني يعتبر أن الملف هو أصغر مستوي في الوحدة الأرشيفية علي مستوي الترتيب أو الوصف, وذلك لأن الملف الواحد يضم عددا من الوثائق أو الأوراق المرتبطة معا, فالعبرة في عمل الفهارس علي مستوي الملفات هو عدم وجود قيمة حقيقية للوثيقة الواحدة طالما أنها ارتبطت موضوعياً بالوثائق الأخري داخل الملف.
وفي دار الوثائق المصرية هناك الكثير جدا من الملفات التي وردت من الجهة المنشئة مثل ملفات تركات الاشخاص بديوان بيت المال أو ملفات تصفية التركات والتي كانت تحتاج فقط وفقا للمفهوم الأرشيفي إلي ميكنة علي مستوي الملف وليس علي مستوي الوثيقة المفردة داخل الملف ( لقد واجهت أثناء عملي في المشروع كمشرف فني مشكلة حقيقية مع المسئولين بدار الوثائق في هذه النقطة بالذات لإصرارهم علي تسجيل الملف علي مستوي الوثيقة, مما أدي إلي وجود الكثير جدا من التسجيلات عديمة القيمة, علي سبيل المثال لا الحصر ملفات وزارة الخارجية ومجلس الوزراء وبلدية إسكندرية ..وغيرها )
أما الطامة الكبري فتتمثل في إصرارهم أيضاً علي ميكنة دفاتر قلم الصادر لبعض الوحدات الأرشيفية علي مستوي المكاتبات أو الوثائق المدونة داخل تلك الدفاتر ( كان الهدف من المشروع هو الوصول بقاعدة البيانات إلي نحو 25 مليون تسجيلة, ولعل ذلك وحده هو السبب الرئيسي في إتخاذ القرارات المتعلقة بميكنة دفاتر الصادر وملفات بيت المال وغيرها علي مستوي الوثيقة )
6- تلك هي إحدي الآفات الكبري التي تعاني منها دار الوثائق القومية وأعني بها كثرة الوثائق عديمة القيمة التي تم ترحيلها للدار من قبل بعض المؤسسات الحكومية, ويرجع ذلك من وجهة نظري إلي فشل إدارة الجمع ولجنة الضم والاستغناء بالدار في القيام بعملية تقييم الوثائق المستغني عنها من قبل تلك المؤسسات بصورة صحيحة قبل إتخاذ قرارات بنقلها إلي دار الوثائق..
للاستزادة عن ذلك الموضوع راجع أيضاً:
- مشكلات حفظ وترتيب الوحدات الارشيفية بدار الوثائق ( دراسة منشورة الكترونياً علي كنانة أون لاين )
7- تعد عملية قبول الدار للدفعات المسلمة بالرغم ما بها من أخطاء من أكبر الكوارث التي واجهت المشروع والتي لابد أن يتحملها وحدهم المسئولون بدار الوثائق وعلي رأسهم مدير المشروع رئيس الإدارة المركزية السابق ونائبه ويظهر أن الغرض الأساسي هو إتمام عملية تسجيل البيانات فقط دون اشتراط أية ضوابط أو معايير تضمن جودة التسجيلات المنتجة, مما أدي إلي وجود مشاكل وصعوبات هائلة واجهت فريق المراجعة والترقية فيما بعد.
ساحة النقاش