التلوث البيئى بمركبات الرصاص

كعامل مسبب للإعاقة 

الرصاص ومركباته المنتشرة بشكل واسع على سطح الأرض يعتبر من أقدم السموم المعروفة فقد إستخدمه الرومان فى أغراض متعددة منها صنع البراميل التى كان يختزن فيها النبيذ وغيره من الخمور فى أقبية خاصة تحت القصور وكانوا يستخدمون بعض مركباته لتحلية الطعام والمشروبات كما كانوا يستخدمونه فى إحداث الإجهاض لنسائهم حتى قيل أن الرصاص ومركباته يعتبر العامل الأساسى فى سقوط الإمبراطورية الرومانية بسبب الآثار السامة المدمرة لمركباته التى كان يكثر إستخدامها فى حياتهم اليومية .

ولم يكن الرومان يستخدمونه فى قتل الأجنة فى بطون أمهاتهم فقط بل كانوا يستخدمونه كسم زعاف فى قتل أعدائهم بوضع بعض مركباته عديمة الطعم أو ذات الطعم السكرى فى الطعام أو الشراب فلا يشعرون به حتى يلقوا حتفهم وتحكى مجلدات تاريخهم الطويل العديد عن إستخدامه فى هذا الغرض ، هذا وقد إستدل العلماء على أن معرفة هذه الخصائص السمية لمركبات الرصاص كانت منذ عصور سحيقة فى القدم قبل عصر الرومان نتيجة لما أظهرته التحاليل المختبرية لعظام وجماجم الهياكل العظمية القديمة وجود آثار مركبات الرصاص فى العظام  مؤكدة إستخدامها كسموم من قديم الزمان للتخلص من أعدائهم بصورة غير مميزة عن الموت الطبيعى فلا تكتشف الجريمة . 

أما فى العصور الحديثة عندما بدأت الثورة الصناعية فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فقد بدأ إكتشاف الخصائص السمية الجسمية والسلوكية لمركبات الرصاص مع الزيادة المطردة فى أعداد العمال الصناعيين الذين يعملون فى مصانع إنتاج المعادن الثقيلة ومركباتها حيث جذب ظهور أعراض التسمم المختلفة بصورة ملحوظة بين عمال هذه المصانع أنظار الدوائر الطبية والسيكولوجية والصحة المهنية وصحة البيئة إلى منشأ هذه الأعراض مما دعا إلى إجراء العديد من المسوح الميدانية والدراسات الاحصائية والبحوث المختبرية على الحيوانات بإستخدام مركبات المعادن الثقيلة كالرصاص والزئبق ودراسة الأعراض التى تظهر كنتيجة للتسمم بعد تناول جرعات مختلفة  من كل مركب من مركبات الرصاص على الأجنة والأطفال فى مراحل النمو المختلفة بإعتبارهم أكثر حساسية وأعمق وأسرع تأثراً من التسمم بهذه المادة (وغيرها) ، وفيما يلى بعض نتائج هذه البحوث ... 

1-مصادر التلوث البيئى بمركبات الرصاص كثيرة ومتنوعة ويعتبر الرصاص ومركباته أكثر العناصر الثقيلة إنتشاراً على كوكب الأرض وبصفة خاصة فى المناطق المأهولة بالسكان وأهم مصادره التى تلوث البيئة هى النفايات الصلبة والسائلة للمصانع وكذلك الغازات التى تتصاعد منها مداخن المصانع كما توجد فى عادم السيارات وتراب الشوارع نسب عالية من مركبات الرصاص وكذلك فى أحبار الطباعة والعديد من الدهانات والألوان المستخدمة فى الأثاث وفى لعب الأطفال ، كذلك تزداد معدلات الرصاص فى الدم والشعر والأسنان بين أطفال المناطق الصناعية وأواسط المدن حيث تشتد حركة مرور السيارات التى تلوث الجو والأتربة بمركبات الرصاص ، أما عند أطفال المناطق الريفية والصحراوية فإن معـدلات الرصـاص فى الدم والشعر تكون أقل نسبياً . 

2-ليس من الضرورى أن تظهر أعراض التسمم بمركبات الرصاص مباشرة بعد تناول جرعات من الغذاء أو الماء أو الهواء الملوث مباشرة فقد يتأخر ظهورها أسابيع أو شهور أو سنوات طويلة فعلى سبيل المثال فإن الجنين الذى يصل إليه مركب الرصاص عن طريق دم الأم الحامل أو الطفل الرضيع أو الصغير الذى يتناول جرعات مع لبن الأم أو من الطعام أو الشراب أو الهواء الملوث غالباً لا تظهر عليه أعراض التخلف العقلى الذى يسببه الرصاص إلا عندما يصل إلى سن المدرسة أو ربما سن البلوغ . 

وعند حدوث تسمم بجرعات صغيرة نسبياً – أو حتى جرعات كبيرة نوعاً عند الكبار – فإنه قد لا تظهر أعراض عضوية مرضية (كتلف بعض الأنسجة أو الأعضاء) مباشرة ولكن تظهر أعراض سلوكية مختلفة منها بطء النمو والبرود الإنفعالى والشعور بالتعب والإرهاق والقلق والإكتئاب وصعوبة التركيز والإنتباه وبطء الإستجابة للمؤثرات وقصور القدرة على التكيف والتوازن النفسى وإنخفاض مستوى ذكاء الطفل وصعوبات التعليم والتحصيل المدرسى والنشاط الزائد Hyperactivity وعدم الإستقرار ... والسلوك العدوانى وضعف القدرة على التوازن الحركى وغير ذلك من أعراض ترتبط معظمها بوظائف الجهاز العصبى والمخ فمن المعروف أن مركبات الرصاص وغيره من المعادن الثقيلة تؤثر أولاً وبشدة على المخ والجهاز العصبى وخاصة إذا حدث التسمم فى المرحلة الجينية أثناء الحمل أو الطفولة عندما يكون الجهاز العصبى فى مرحلة التكوين والنمو السريع ، كذلك لأن الطفل الصغير فى مرحلة النمو يأكل كميات أكبر من الطعام الذى قد يكون ملوثاً بالنسبة لوزن الجسم أكثر مما يأكله الشخص البالغ وبالتالى تكون الجرعات التى يتناولها من المادة السامة أكبر كذلك . 

ومن الضرورى هنا أن نؤكد أن هذه الأعراض كمجموعة لا تظهر جميعها فى كل الأفراد المصابين بل يظهر بعضها أو قلة منها عند بعض المصابين ويظهر غيرها عند البعض الآخر ، ينطبق هذا على الكبار كما ينطبق على الأطفال .

3-وخلال السنوات العشر الماضية دلت البحوث التى أجريت فى الولايات المتحدة على أن درجة سمية مركبات الرصاص أكبر بكثير مما كان معروفاً من قبل ووجد أن تناول الطفل لجرعة يومية من مركبات الرصاص لا تزيد عن حجم ثلاث حبات من السكر الناعم (سنترافيش) تؤدى قطعاً إلى إبطاء نمو الطفل وخفض مستوى ذكائه بدرجة ملحوظة . 

ومن هنا تتضح خطورة هذه المواد السامة التى تضع الرصاص على رأس قائمة السموم القاتلة ونتيجة لتلك البحوث قامت الهيئة الأمريكية لحماية البيئة عام 1991 بخفض الحد الأعلى لتركيز الرصاص فى دم الأطفال من 40 ميكروجرام فى كل سنتيمتر مكعب من دم الطفل إلى 10 ميكروجرام وأن أى زيادة فى هذه النسبة تضع الطفل فى منطقة الخطر وتعرضه لصور متعددة مختلفة من آثار التسمم ، ومع هذا فقد نشرت هذه الهيئة الأمركية فى تقرير حديث أن من بين كل 9 أطفال تحت سن السادسة يوجد طفل تزيد فيه نسبة الرصاص عن 10 ميكروجرام . 

كما أفادت تقارير فرنسية أنه منذ عام 1985 يدخل المستشفيات كل عام 600 طفل من أطفال حى وسط باريس بسبب التسمم الشديد من مركبات الرصاص يتوفى أكثر من 2% منهم ويعانى 33% منهم من إصابات المخ والتخلف العقلى ويعانى الباقى من أعراض مختلفة منها فقد الذاكرة والتأثر الحركى والهلوسة وغيرها ، وفى تقرير لبحث قام به La Boyet  الفرنسى عام 1990 وجد أن 60% من أطفال العينة قد تعدوا خط الخطر من التسمم حيث كانت نسبة الرصاص فى الدم أكثر من 15 ميكروجرام ، وفى بحث آخر أجرى فى أوكرانيا فى الإتحاد السوفيتى السابق عام 1989 تبين أن 25% من الأطفال يولدون بتشوهات خلقية بسبب التسمم بالرصاص وفى زابريز Zabrize وهى مدينة شديدة الإزدحام وجد J.Kizina أن 47% من أطفال عمر 4 سنوات ، 61% أطفال عمر 6 سنوات و70% من أطفال عمر 10 سنوات يعانون من نوع أو آخر من إعاقات النمو بسبب تلوث البيئة بمركبات الرصاص والزنك والكدميوم وغيره من المعادن الثقيلة .

هذا وقد أشارت تقارير بعض منظمات الأمم المتحدة الصادرة فى الثمانينات أن تركيز الرصاص فى الجو يتراوح بين نصف وخمسة ميكروجرام فى كل متر مكعب من الهواء تبعاً للموقع الجغرافى (ريف أو حضر) وتبعاً لإزدحام المصانع وإزدحام المرور للسيارات بالمنطقة ... ومن هنا فالتركيز يكون نصف ميكروجرام فى الريف والضواحى ويصل إلى 5 ميكروجرام  فى وسط المدينة وتشترط دول المجموعة الأوروبية ألا يزيد التركيز عن 2 ميكروجرام فى المائة فى الهواء بينما فى مصر تراوحت النسبة بين 5ر5 ، 5ر9 ميكروجرام فى بعض أحياء وسط القاهرة . 

والطفل الذى يعيش فى المدينة – حتى إذا لم يكن معتاداً على أن يصل إلى جسمه الرصاص عن طريق الفم من دهانات الجدران واللعب والأثاث غالباً يصل إلى جسمه عن طريق التنفس بالهواء الملوث حوالى 160 ميكروجرام يومياً يمتص أنسجة الجسم وعظامها نصفها تقريباً . 

دلت بحوث برنامج الأمم المتحدة للبيئة UNEP على أن معظم سكان المدن يحتوى دمهم على مستوى من الرصاص يتراوح بين 100 ، 200 ميكروجرام فى لتر الدم ، هذه النسبة تقل عن 100 فى ستوكهولم وتصل إلى 230 فى مدينة المكسيك و240 فى بانجوك وإلى 140 كمتوسط على مستوى الولايات المتحدة ولكنها تصل إلى 300 فى وسط بالتيمور كمتوسط وحيث وصلت عند 26% من عينة مكونة من 333 مواطن بوسط المدينة إلى 600 ميكروجرام فى لتر الدم وزادت عن (640) فى أحد أحياء القاهرة (الجمالية) . 

وعموماً فإن الولايات المتحدة الأمريكية تحدد أقصى درجة تركيز الرصاص فى دم الأطفال بمقدار 250 ميكروجرام فى اللتر ، بينما منظمة الصحة العالمية تسمح بتركيز 300 ميكروجرام / لتر للنساء اللاتى فى سن الإنجاب ، وتعتبر منظمة الصحة العالمية WHO أن حالات الـ Haematological Effects تبدأ فى الظهور عندما يصل تركيز الرصاص إلى 200 ميكروجرام فى اللتر من الدم كما تبدأ أعراض التسمم على الجهاز العصبى عندما يصل التركيز بين 400-500 ميكروجرام ولو أنها تبدأ عند بعض الأفراد عند تركيز أقل من 400 بكثير وتتضمن أعراضها نتيجة التركيز المنخفض أعراضاً سلوكية منها نوبات تشنجية والضيق والقلق والتأثر الحركى والتهور والنشاط الزائد وعدم القدرة على التركيز والسلوك العدوانى والتخلف العقلى وغير ذلك من الأعراض السلوكية التى تظهر فى حالة الجرعات الصغيرة وتسبق الأعراض البدنية العضوية المرضية وتعتبر دليلاً على حدوث التسمم ويعتبر جرس إنذار التسمم قبل أن يكتشف الطبيب الأعراض البدنية (WHO,1980) . 

هذا وقد دلت بحوث منظمة التغذية والزراعة على أن الأطعمة والخبز الذى يعرض للبيع مكشوفاً فى الشوارع يحتوى على نسبة عالية من الرصاص الذى يصل إليه مع أتربة الشارع المحملة بالرصاص الناتج مع عادم السيارات هذه الأتربة الحاملة للرصاص التى تثيرها حركة المرور والرياح تتساقط على الخبز والأطعمة المكشوفة المعروضة فى الشوارع فتنقل هذه السموم إلى الأفراد والأطفال الذين يتناولونها وهى ممارسات منتشرة بشكل كبير فى مصر فى أحياء القاهرة والأسكندرية وغيرها من المدن المزدحمة بحركة مرور السيارات والأمثلة على ذلك كبيرة منها الخبز والخضروات والفواكه والكشرى وحلويات الأطفال واللحوم المعلقة على واجهات محلات الجزارة أو المنقولة مكشوفة على سيارات أو دراجات والفطائر والعصائر ... إلخ . 

هذا وقد أدى تحريم إستخدام الوقود (بنزين السيارات) المحتوى على رصاص فى أمريكا ومعظم دول أوروبا إلى إنخفاض معدلات الرصاص فى الهواء من أكثر من 5 ميكرون فى المتر المكعب من الهواء فى نيويورك إلى 8ر2 ميكروجرام عام 1987 ، بينما هذه النسب ترتفع كثيراً فى شوارع مدن الدول النامية التى لاتزال تستخدم الوقود المحتوى على رصاص مع إزدياد حركة المرور وإعداد السيارات فى الطريق وخاصة فى وسط هذه المدن ، وقد بدأت شركات البترول فى مصر منذ أوائل 2005 فى إنتاج البنزين ومنتجات البترول الأخرى الخالية من الرصاص سوف يغير النتائج المؤسفة التى أسفرت عنها بعض البحوث التى أجريت فى أوائل القرن (2002) عندما كان السائد فى محطات الوقود وهو البنزين المحتوى على الرصاص لتقدير نسب التخلف العقلى بين الأطفال ومنها البحث الذى أجرته الهيئة العليا لرعاية المتخلفين عقلياً على عينة ممثلة لتلاميذ المرحلة الإبتدائية من مدارس القاهرة الكبرى فى السبعينات حيث تبين أن نسبة إنتشار التخلف العقلى على مستوى القاهرة الكبرى كانت 2ر4% وفى حى بولاق وصلت إلى 7ر6% بينما هى على مستوى لا يزيد عن 3% فى معظم المدن الكبرى فى أوروبا وأمريكا ، ومع إزدياد عدد ومرور السيارات بمدينة كبيرة كالقاهرة من تضاعف الأنشطة الصناعية ومعدلات إحتراق الوقود من المتوقع أن تكون هذه النسب قد إرتفعت فى الوقت الحاضر ومن المحتم متابعة إجراء البحوث الميدانية لقياس نسب التخلف العقلى وفى نفس الوقت إتخاذ القرارات الكفيلة بالحد من نسب التلوث فى مصر . 

أخطار التلوث البيئى بالنفايات والمخلفات الصناعية : 

    تلعب أساليب التخلص من النفايات الكيميائية والمخلفات والعوادم الصناعية دوراً كبيراً للحد من الإعاقة .................... إذا أهملت تشكل أخطاراً أكيدة فى تلوث البيئة ، وتكون هذه النفايات على شكل غازات أو أبخرة أو مواد صلبة أو سائلة أو عجائن فى صور متعددة وغالباً ما تحتوى أيضاً على مركبات الكلور والكبريت والكربون التى ينبعث منها مركبات غازية عند إحتراقها أو تحتوى على مركبات الرصاص والزئبق وغيرها من المعادن الثقيلة العالية السمية أو تكون مركبات مشعة قاتلة أو ذات خطورة على صحة الإنسان والكائنات الحية التى تعيش على كوكب الأرض وخاصة صحة الأم الحامل ومراحل الطفولة المبكرة وفقنا الله إلى حمايتهم وتهيئة البيئة المناسبة للنمو السليم . 

المصدر: نشره الاتحاد رقم 92
FAD

لاتحاد النوعى لهيئات رعاية اللفئات الخاصة والمعاقين

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 313 مشاهدة

ساحة النقاش

FAD
الاتحاد النوعى لهيئات رعاية اللفئات الخاصة والمعاقين هيئة ذات نفع عام لا تهدف لتحقيق ربح تأسس الاتحاد عام 1969 العنوان 32 شارع صبرى أبو علم – القاهرة الرمز البريدى 11121 ت: 3930300 ف: 3933077 »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

1,476,993

مشاهير رغم الإعاقة