التحرك المحسوب
التسرب الأميركي
سوريا بين ليبيا ومصر

ما زالت إسرائيل تراقب التطورات العربية الداخلية التي بدأت مع العام الحالي بقلق تخفيه أحيانا، وتعجز عن كتمانه أحيانا أخرى، ولا يخفى على المتابع أن وجوه المسؤولين في إسرائيل تبدو منذ تصاعد الأحداث العربية متلونة بلون القلق، وتشي بوضوح بخوف عبري عميق من "المجهول" الذي تتجه نحوه المنطقة.

التحرك المحسوب

وهذا لا يعني أن الإسرائيليين وقفوا أو يقفون الآن أمام ما يجري حولهم وعلى مرمى حجر منهم مكتوفي الأيدي، فالموساد الإسرائيلي عُرِف عنه نشاطه الدائب في أوضاع الاستقرار والسكون، حتى مع أصدقائه وكنوزه الإستراتيجيين، فما بالنا بساحات ثورية واسعة لما تصل بعد إلى حال الاستقرار، وفي واقع يُحتمَل بقوة ألا يلد أصدقاء مخلصين لإسرائيل، مع اليقين بأن أمثال أصدقائها السابقين لن يتكرروا أبدا.

ومن الطبيعي أن تحرص إسرائيل في مناخ عربي معبأ بالكراهية لها، بعد ما فعلت بالعرب والفلسطينيين وحقوقهم الأولية ما فعلت، على أن تتحسب من الظهور المباشر كطرف ضاغط أو مُعاد صراحة للثورات الجماهيرية العربية، فهذا من زاوية سيظهرها أمام الرأي العام العالمي نبتة متطفلة لا تعيش إلا إلى جوار كيانات ممسوخة يسيطر عليها الاستبداد ويمسك قيادها دكتاتور غليظ، ومن زاوية أخرى سيزيد التدخل الإسرائيلي المكشوف في الأوضاع العربية من استفزاز الجماهير التي صنعت الثورات، والتي ما زال في إمكانها أن تضغط على صاحب القرار للاتجاه نحو مزيد من النأي عن إسرائيل.

وهنا نجد مسوِّغا للتصدر الأميركي لمشهد التعامل مع الأوضاع الجديدة في البلاد العربية، ونفهم كذلك سر التعامل الأميركي الناعم -في الظاهر على الأقل- مع أوضاع مرشحة لمزيد من تفتيح الجروح التي صنعتها السياسة الأميركية والإسرائيلية في المنطقة طوال عقود متتابعة.

إن حركة الدبلوماسية الأميركية لا تجد في تعاملها مع الأوضاع العربية نفس درجة الحساسية التي تجدها الدبلوماسية الإسرائيلية، فمهما قلنا عن مساندة الولايات المتحدة للكيان العبري، والتعسف السياسي لواشنطن في التعامل مع القضايا العربية، فإن العقل العربي ما زال مضطرا في النهاية إلى التفريق بين أميركا وإسرائيل، بحيث يمكن أن تكون هناك قنوات ما للتعاطي العربي في كل الحالات مع الأميركيين دون حلفائهم في تل أبيب.

التسرب الأميركي

الأميركيون إذن لا يتولون إدارة مصالحهم فقط خلال المواقف التي يبدونها من الثورات العربية، بل ينوبون كذلك عن إسرائيل التي يبدو أن الأفول يتراءى في سمائها من بعيد، حتى إنها تتوارى كثيرا عن مشهد شرق أوسطي مشتعل كانت عادة ما تستأسد في التعاطي معه، وتفرض نفسها في صدارته في كثير من الأحوال.

ولا يغيب عن ذاكرة القارئ ذلك التحول السريع في الموقف الأميركي من الثورة المصرية، ففي بدايتها قالت هيلاري كلينتون إن أوضاع مبارك في حكم مصر مستقرة، وبعد قليل شاركت الرئيس أوباما قوله بضرورة الانتقال المنظم للسلطة، مما كان يعني حينئذ قبولهم تغييب شخص مبارك دون نظامه.

وجاء بعدها دور الغزل الأميركي للمحافظة على ما بقي من الحبال مع المصريين غير مقطوع، وذلك بإبداء الإعجاب البالغ بما صنعه المصريون في ثورتهم، وبقدرتهم المذهلة على التخلص بصورة حضارية راقية من نظام مطلق السلطة ومتحكم في كل صغيرة وكبيرة فوق تراب الوطن، وهو ما صرح بمثله الرئيس الأميركي باراك أوباما نفسه، وتبعه مسؤولون وسياسيون آخرون في بلاده.

ومع أن هذا كان مثار فخر للمصريين عموما، إلا أنه لم يخدعهم عن ضرورة التخلص التام من كل رموز النظام السابق، وأصروا على عدم الاحتفاظ بأي تحفة قديمة ترجع إلى العصر الذي ودعوه بدمائهم قبل أيام.

وكاد أن يكون هذا طردا تاما للأميركيين من المشهد المصري، ولما لم يكن لهم بد من المشاركة في المشهد الخطير محاماة عن مصالحهم ومصالح الحليفة الصغيرة التي أنابتهم عنها، مع مراعاة تجنب استفزاز الثوار الذين يمثلون جسما ضخما لا يمكن لسياسة عاقلة أن تعاديه صراحة، فقد اتبعت واشنطن سياسة يمكن تسميتها بسياسة "التسرب" إلى المشهد المصري.

وتعتمد هذه السياسة على المشاركة المباشرة أو من خلال المنظمات الدولية فيما يبدو دعما معنويا أو سياسيا أو اقتصاديا للدولة المصرية في مرحلتها الانتقالية، مما قد يكون في حقيقته تكبيلا لها عن الحركة الحرة فيما بعد، وذلك من خلال اتفاقيات اقتصادية لا تتجه ناحية التنمية الحقيقية، بل المعتمدة على الديون، والإبقاء على المساعدات الاقتصادية والعسكرية المتعلقة بمعاهدة السلام المصرية مع إسرائيل، والترحيب بديمقراطية بلا إسلاميين، والتخويف المركز منهم عن طريق أبواق إعلامية لم تفقد ولاءها للأميركيين إلى الآن، وإثارة شبهات حول دور أميركي مدَّعى في ترتيب الثورات العربية... إلخ.

الحضور الهادئ في المشهد المصري والتسرب الخفي إليه هو عنوان السياسة الأميركية تجاه مصر الثورة، وهو نوع من التمركز في هذا المشهد بحيث لا يمكنه ولو مستقبلا الاستغناء عن واشنطن، التي ستملك القدرة على لجمه عند الضرورة، أو حتى توجيه تياره الصاخب نحو أقل قدر ممكن من الخسائر، دون أن يكون من السهل في كل الأحوال إقصاؤها أو التخلص منها.

سوريا بين ليبيا ومصر

أما المشهد الليبي الذي يأتي الكلام عنه هنا بصورة عارضة، فإن تطوراته التي قادت إلى الحرب بسبب سفاهات العقيد القذافي، قد فتحت الباب على مصراعيه أمام الغرب ليبدو في صورة المنقذ الذي لا يُستَغنَى عنه.

ولعل التأخر الدرامي للناتو عن إنقاذ بنغازي -أكبر معاقل الثوار في ليبيا- من زحف الكتائب المرعب عليها في 19 مارس/آذار الماضي، واللعب بأعصاب الناس من خلال ذلك، ثم التدخل المفاجئ بشن الغارات على مواقع الكتائب، لعل هذا كله كان مقصودا تماما، حتى يكتمل شعور العرب والليبيين خاصة بهذه "الإنسانية العالية"، أو على الأقل الحاجة الضرورية إلى الغرب لدفع أنياب القذافي عنهم.

وللأسف الشديد، صارت الثورة الليبية عقب ذلك مدينة للأوروبيين والأميركيين بالكثير، ولا يمكن حذف هؤلاء الحلفاء بسهولة من مستقبل الثورة، فضلا عن حاضرها الذي لما يُحسَم بعد. وهو أمر لا يخص ليبيا وحدها، بل يخص معها الجارة مصر التي يهمها التوافق مع نظام جديد يُنتَظر قدومه إلى ليبيا ما بعد الثورة.

أما احتمالات المشهد السوري مستقبلا بالقياس إلى ما جرى في المشهدين المصري والليبي، وما يتعلق بإسرائيل في هذه الناحية، فإن تطورات الأحداث الداخلية لدمشق هي التي ستوجه الخيار الأميركي نحوها، وقد نكون أمام احتمالات مفتوحة تبدأ من صيغة إصلاحية عملية وعميقة وواسعة يتبناها النظام وترضي الشعب السوري، وتمر بعسكرة الثورة، أو اندحارها المؤقت أمام القوة المفرطة، وتنتهي بانتصار الثورة سلميا وإزاحة النظام تماما.

ومع أن المسبار التركي يراقب الموقف السوري بدقة، مدركا أنه ينبغي الوقوف دون مرحلة الاضطرار إلى التدخل الغربي، وضرورة "أن تجد سوريا بنفسها حلا" باستجابة الأسد لمطالب الشعب السوري بالسلام والديمقراطية -كما هي تصريحات كبار المسؤولين الأتراك- وهو ما يمكن ترجمته في صورة مشروع إصلاحي حقيقي يطرحه النظام وترعاه الجارة المقبولة لسوريا، وتستطيع بثقلها تسويقه لدى الشعب السوري.

وهو ما حاولته أنقرة في الحالة الليبية من قبل دون أن تجد في حكومة القذافي استعدادا حقيقيا للاستماع، أو من الثوار قبولا لبقاء القذافي أو أي من أبنائه في السلطة بعد المجازر التي ارتكبت ضد المتظاهرين.

مع هذا، فإن استخدام الدبابات والمدافع في التعامل مع المتظاهرين السوريين من الصعب أن يدعم -بالمثل- فرص النجاح لحل كهذا، فقد قامت القسوة البالغة التي تعامل بها النظام مع المتظاهرين حاجزا نفسيا أمام القبول ببقائه في السلطة.

ومن هنا تبدو احتمالات التطور في الحالة السورية مفتوحة أكثر على النقيضين المصري والليبي، ومفتوحة أيضا على نقيضين غربيين في المقابل، يشبه أحدهما الموقف من الحالة القتالية الليبية والثاني الموقفَ من الحالة الثورية المصرية.

إننا لا نستطيع أن ننفي الوجود الأميركي في المشهد المصري الحالي، ليس فقط بسبب الثقل العالمي لواشنطن، ولا للعلاقات الأميركية غير العادية بحكومات مصر طوال أربعة عقود، ولكن أيضًا لأن الحليفة الاستراتيجية إسرائيل اعتادت طويلا على الاستراحة من أكثر الساحات العربية خطورة عليها؛ مصر، والآن تنبعث من هذه الجهة نذر بمخاطر لا تبدو هينة على أي حال.

ومن هنا قد لا تصل آمال الأميركيين إلى حد البحث عن "مبارك" جديد لإسرائيل في الساحة المصرية، لكنهم سيحرصون بالتأكيد على ألا تخسر إسرائيل القاهرة تماما. وهو ما يمكن أن تحسمه السياسة المصرية باختياراتها وتوازناتها خلال السنوات القادمة.

وأما دمشق التي تبدو منذ عقود خصما عنيدا لكنه غير محارب لإسرائيل، فإن تحولاتها يصعب أن تغير هذه الصورة، إلا أن التسرب الأميركي إلى المشهد السوري في حال الإطاحة بالنظام البعثي، من اليسير أن يساعد على تلطيف العلاقة بين الطرفين: سوريا وإسرائيل.

المصدر: د/نبيل الفولي الجزيرة نت
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 119 مشاهدة
نشرت فى 29 مايو 2011 بواسطة Drnabill

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

14,748