بقلم: د. نبيل فولي* - 2012-04-24 06:59:21 |
غرقت في دراسة العلوم العقلية وتدريسها سنين عددا، مع سابق دراية – لا أزعم أنها عميقة - بالعلوم الشرعية واللغوية، حتى صار الأمر عندي بحيث لا أفهم عقلا بغير شرع، ولا شرعا بغير عقل، فالأمور عندي "نقل عقلية" أو "عقل نقلية" لا يبين فيها عقل متجرد من الإيمان، أو إيمان يغيب عقل صاحبه - بمعنى أو بآخر - في تفصيل لا أجد له هنا موضعا. ومع هذا، فقد دعتني الحال القائمة في مصر أن أكتب هذه السطور متخليا عن العقلانية الصارمة.. أتلمس سبيلا أخرى وسط هذه الفتنة التي تسيل بها الأقلام، وتطفح بها الأفواه في معركة قلّت فيها الخصومة الشريفة – مع وجودها بطبيعة الحال – وغلبت الخصومات التي تسبق فيها المصلحة الشخصية مصلحةَ الوطن كله، وتقدَّم فيها مصلحةُ الحزب على لقمة الفقير وقميص المسكين وابتسامة اليتيم. إنني في خارج مصر، ومن خارجها أتكلم على قرب عهدي بأزهرها وشوارعها وأهلها، أدرك على البعد ما قد يغيب عمن يعيش تفاصيل الحياة اليومية فيها، وأرى مشاهد الخارج وأسمع حديث أهله الذي قد لا يصل إلى أعين أهلي في مصر وآذانهم.. أدرك أن النبض الحقيقي في وطني الغالي الحبيب ليس في أدعياء الثقافة والإعلام الذين يدّعون العقلانية وهم أول من طلقها، ويزعمون مناصرة الحرية وهم أول من ضحى بها على مذبح الهوى.. النبض الحقيقي في مصر الكنانة تراه جليا في أبناء البلد المخلصين في المدن والقرى والأحياء الشعبية والراقية، في الزقاقات والحارات والشوارع والمساجد والكنائس، في أرض الوطن يزرعونها بالخير، وفي مصانعه يديرون سيورها المعطوبة، ويلحون على ماكيناتها المتوقفة.. دموع تختلط بالعرق، ودماء يحتضنها تراب الوطن في حنو عجيب ينبت الأمل في وجوه جففتها الشمس، وبللها ماء النهر الخالد. النبض الحقيقي في وطني تمثله أجساد أثقلتها هموم طوال بعد أن حرمها اللصوص من حق الحياة الكريمة في أوطانها، وأثقلتها أمراض سوء التغذية والكيماويات التي حشوا بها طعامنا وشرابنا لأجل مال قليل أو كثير، لكنه لا يساوي عند الجليل سبحانه حياة واحد من عباده الذين سوّت خلقهم يدُ القدرة المبدعة، فهدمتها يدُ الطمع والجشع الذي لن يمنح أصحابه الخلود والبقاء السرمدي! مع هذا، فلابد من أن نفهم طبيعة هذه النفوس التي تنادت من كل واد أن هلُمُّوا نهدم المعبد كله على رءوسهم، ونذبح الوطن إن لم يكن بد أن يصفوَ لمن يريد لنا أن نترك الزيف إلى الحقيقة، والقشور إلى اللباب، والجشع والنهب إلى الأمانة والاستقامة.. لقد تنادوا مصبحين فلم يكفهم، فتنادوا ممسين في أدوار لا تتوقف، وفشلوا في مائة محاولة لإفشال مشروع الحرية العظيم (ثورة 25 يناير)، فقالوا: لا مانع من محاولة أخرى؛ حتى لا تبقى لنا حيلة أو حول نلام على أننا لم نبذله! هؤلاء يتربصون بكم وبشعبكم؛ فإن بقيت القبلة قالوا: لم بقيت؟! وإن تحولت سألوا: لم تحولت؟! وما عن القبلة سألوا، ولكنهم خافوكم على دنياهم، أنتم تريدون أن تنتزعوا اللقمة الحرام من أفواههم لتعطوها الملايين التي بنت أعشاشها وأكواخها فوق تربة هذا الوطن - من مسلم ومسيحي - قبل قرون طويلة، وهي الوطن والمواطن، وهي بحر هذا الوطن ونهره وتربته السوداء ورماله الصفراء. إنهم لم يتهموكم بالسعي إلى التهام الوطن فقط، ولكنهم تجرءوا – خرست ألسنتهم – واتهموا شعب الكنانة بأنه أعطاكم صوته لأجل "كيلو سكر وزجاجة زيت"، وأنه شعب ساذج تعاطف مع أدعياء التدين الذين ظلمهم المخلوعون.. إنهم لم يفهموا المعادلة: أمة تبحث عن ذاتها + حرية اختيار = اختيار من يمثل أصالتها ويعيش قضيتها. والله! إنهم لا يخشون فشلكم، ولو وثقوا، أو حتى غلب على ظنهم أنكم ستفشلون لتركوكم وفشلكم، ولما ثاروا عليكم كل هذه الثورة العارمة باللسان والقلم، ولا أعلنوا – بدون حياء - استعدادهم أن يقاوموكم بكل وسيلة تخطر أو لا تخطر على البال!! ولكنهم يرونكم تبشرون بخير، وتحملون للناس الخير، فنوابكم شرفاء نظيفة أيديهم من المال الحرام، ومرشحكم الرئاسي ثري لا يحتاج إلى مال، ومعروف لا يبحث عن شهرة، ومقدَّم لولا أن إخوانه قدموه إلى الحياة العامة ما تقدم ولا تصدر.. كان راهبا مشغولا بأدواء الاقتصاد المصري يعالجها في أناة ومسبحته في يده، ويداوي جراحاته عن دراية وخبرة، حتى اقتُحمت عليه خلوته، فقال وآلُه: "إنا لله وإنا إليه راجعون"! تروي الحكايات أنه عندما فُتحت وصية سليمان بن عبد الملك بعد وفاته سقط اثنان مغشيا عليهما:الأول (عمر بن عبد العزيز) لأن الخلافة قد صارت إليه، والثاني (فتى من بني أمية) لأن الخلافة أخطأته، فإنا لله وإنا إليه راجعون! هذا مثلكم ومثلهم، وإن كانوا عاطلين من مواهب أقل أموي شريف! هم عابوكم في حال الصواب الجلي، فلا تعجبوا أن يشنعوا بكم حال الصواب الخفي، فضلا عن الأخطاء التي لا يريد عاقل أن يقع فيها، غير أن الالتباس في زمن الفتنة قد يدفعه إليها، كما قال ابن العوام الحواريُّ (رضي الله عنه) قبل كثير قرون في الفتنة الأولى: "ما دخلنا - نحن أصحابَ محمد - في أمر إلا علمنا مدخلنا فيه ومخرجنا منه، إلا هذا الأمر". إن كثيرا من الأقلام والألسنة التي تسلطت عليكم في زمن الثورة هي نفسها التي حملت عليكم أيام المخلوعين، وهي غاضبة منكم ذلك الغضب الذي لا يمكن أن ينقلب رضى، إلا أن يشاء الله الذي بيده قلوب العباد، ولا نستبعد الهداية على أحد. إنني أقولها عالية: ينصر دينك يا د. بديع ومن معك من الرجال الذي يحملون هم هذا الوطن، على الدفع بالمهندس خيرت الشاطر إلى حلبة السباق على خدمة مصر والتضحية في سبيل مصالح أبنائها.. فأخيرا - وبإذن العلي الأعلى - سيصير كرسي الرئاسة على الحقيقة تكليفا لا تشريفا، تعبًا لا راحة، فقرًا لا نهبًا.. وهي أمور صرنا من بُعد عهدنا بها لا نصدق أنها يمكن أن تكون حقيقية تقبل الوجود الفعلي! ................. أستاذ المنطق والفلسفة في الجامعة الإسلامية العالمية ـ إسلام آباد - باكستان |
المصدر: د. نبيل فولي
نشرت فى 4 إبريل 2012
بواسطة Drnabill
عدد زيارات الموقع
14,749
ساحة النقاش