جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
حل الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك ثالثًا بين الزعماء العرب الذين أزيحوا عن منصبهم بالقوة منذ أن حلت الألفية الثالثة، وإذا كان مبارك قد اشترك مع نظيره التونسي زين العابدين بن علي في الطريقة والزمان الذي سقطا فيه، فقد اختلفا كلاهما في هاتين الناحيتين عن نظيرهما العراقي صدام حسين الذي أزيح بقوة الغزو الأميركي الدولي عام 2003.
القراءة الخاطئة
وقد كان في إمكان مبارك أن يقرن تنحيه الإجباري عن الحكم في فبراير/شباط الماضي بالخروج من مصر إلى دولة تقبل لجوءه إليها، كما حدث لزين العابدين بن علي تماما، لكن يبدو أنه كان يطمح في أن يكون لوجوده في أرض المحروسة تأثيره في إعادة الأمور إلى ما كانت عليه، ومن المؤكد أنه لم يكن يتوقع أن يصل الحال به إلى حد أن يحاكَم هو وأسرته كما يحاكم غيرهم من أركان النظام الذين عملوا في معيته.
نحن إذن أمام قراءة أخرى خاطئة من مبارك للخريطة الجديدة التي صنعتها ثورة مصر 2011، فقد كانت خطاباته الثلاثة الشهيرة أثناء الثورة (يوم الجمعة 28 يناير/كانون الثاني، ويوم الثلاثاء 1 من فبراير/شباط، ويوم الخميس 10 من فبراير/شباط)، إضافة إلى كلمته التي بثتها قناة العربية في العاشر من أبريل/نيسان، عبارة عن قراءات خاطئة للواقع الذي جرف مبارك ونظامه من فوق ظهر الحياة السياسية، وربما من فوق ظهر الحياة كلها.
ويبدو أن القراءة الخاطئة –للأسف الشديد- هي التي مثلت عنوان الحكم في عهد مبارك، فلم يقرأ عصره ولا شخصية مصر ومكانتها ولا شعبها وتاريخها وعلاقاتها عربيا وإقليميا بصورة صحيحة، وبدلا من أن يكون جديرا بمنصبه فيسخّر جهوده لخدمة وطنه وشعبه وأمته، سخّر المنصب في تحقيق أغراض شخصية وعائلية، ثم أتاح لأنصاره أن يتصرفوا في الدولة وشؤونها كما يحلو لهم.
إن الرجل الذي عزل نفسه عن الحكم الفعلي لمصر منذ عام 1993، نأيا عن أسباب التوتر والانفعال، كما أفاد بعض من عملوا معه عن قرب، كان يفتقر إلى قدرات السياسي الماهر الذي يمكن أن يقود كيانا سياسيا ذا علاقات معقدة بالعالم من حوله كمصر؛ ولهذا كان من الطبيعي أن يكون حصاد عهده في الحكم مرا بالنسبة لمصر والمصريين والعرب والمسلمين، وذهبيا بالنسبة لإسرائيل التي عدت مبارك –على لسان وزير التجارة والصناعة الإسرائيلي بنيامين ين إليعيزر- كنزا إستراتيجيا!
إن من الملامح النفسية الأساسية للرجل الذي نجح في الحياة العسكرية قائدا لسلاح الطيران ضمن نظام الرئيس أنور السادات، وفشل، في المقابل، فشلا ذريعا في القيادة السياسية منفردا بأعلى منصب في مصر، هو أنه أناني يدور حول ذاته، وعنيد يبالغ في الخصومة، يميل إلى التجمل، ولا يحسن تصور الأمور وقراءة مآلاتها، ويتمسك بالمظاهر، وتسيطر عليه الوسوسة والخوف على نفسه، لا يحب المواجهة، ولا تحمل المسؤولية، قد يكون جنديا ماهرا، إلا أن ذلك مرتبط فيما يبدو بخجله وحرصه على ألا يظهر له عيب.
ولسنا نريد أن نقع في الرجل بعد أن فقد سلطانه، ونخوض في سيرته خوضَ المتشفي، إلا أن بيان طبيعة المستبد، وتحليل سلوك الديكتاتور هو حق التاريخ، وحق الشعوب التي كثيرا ما تُبتَلى بمثل هذه النماذج البشرية الشائهة.
ليس من اللائق أخلاقيا أن نفتش في دفاتر الديكتاتور أي ديكتاتور، عن سقطة أخلاقية أو انحراف سلوكي مثير لا تعلق له بحقوق الشعوب ومصلحة البلاد؛ ذلك أن ما يظهر لنا من سلوكه مع العباد وسياسته لأمور الأوطان كاف لإطلاعنا على كثير من الجذور النفسية غير السوية التي دفعت إلى التصرف في الأمور بهذه الطريقة أو تلك.
حكمة مبارك
والحقيقة أن المقابلة بين صدام حسين وحسني مبارك وما آل إليه مصيرهما، تبدو في هذا السياق وكأنها تفرض نفسها على القلم فرضا بما فيها من دلالات تخدم هدف هذه السطور؛ وذلك أن الرئيس المصري السابق تقمص، في ادعاء تنقضه الأدلة، شخصية الحكيم الناصح حين ضاق الخناق واشتد الحصار الأميركي على العراق، فقد نصح مبارك نظيره العراقي بالتنحي حتى يجنب العراق شرورا لا مَردّ لها.
وعقب الغزو الأميركي للعراق خرج مبارك على شعبه مؤكدا أن سياسته جنبت مصر مصيرا كمصير العراق التي داستها أقدام الغزاة الثقيلة، وأنه لولا السياسة الرشيدة التي التزمها في إدارة البلاد لأصابها ما أصاب بلاد الرافدين.
والمفاجأة الغريبة أن هذا الكلام قد خدع حينها كثيرا من المصريين، فأثنوا على حكمة الرجل الذي جنب بلادهم مصيرا كمصير العراق، فامتنع عن أن يخوض مغامرات غير محسوبة تورط مصر فيما لا تحمد عقباه، وتعطي النظام الأميركي المتعطش للخراب والدمار ذريعة للعدوان عليها.
وهذا الموقف، كما لا يفوتنا، هو نفسه الذي وقفته طائفة كبيرة من أبناء الشعب المصري "الطيبين" حين ألقى مبارك خطبته الشهيرة عبر التلفزيون في الأول من فبراير/شباط الماضي لتهدئة الثورة المشتعلة ضده، مذكرا بخدمته الطويلة لمصر والمصريين في الحرب والسلام، ومؤكدا أنه لم يكن ينوي الترشح في انتخابات الرئاسة القادمة، وأنه سيبقى في مصر حتى يموت ويُدفَن في ترابها.
والحقيقة أننا لا ندعو إلى أن يورط زعماء الدول الضعيفة بلادهم في مغامرات لا تجلب لبلادهم وشعوبهم إلا الكوارث والخراب، لكن لا ينبغي أن يكون البديل عن هذا هو الخنوع والخضوع لأهواء السياسة الدولية، فنساير الأميركان أو غيرهم فيما نحب ونكره، وما يوافق مبادئنا ومصالحنا وما يخالفهما، خاصة ما أسموه "الحرب على الإرهاب" التي استُخدمت فيها القوة العسكرية بصورة مفرطة جدا لم تصب ما عدّوه إرهابا إلا قليلا، في حين دمرت العراق وأفغانستان وقتلت مئات الآلاف من الأبرياء في أنحاء العالم.
إن المقارنة بين الرجلين –مبارك وصدام- تكشف أن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين كان صاحب مشروع إقليمي، ولكنه متسرع وقاس يسيء التصرف، ويستغل اتجاهات السياسة الدولية نحو المنطقة، فيشن باسمها حربا على إيران، ولكنه لا يحسن قراءة أغوار هذه السياسة فيسقط سقطة الكويت التي يسرت للأميركيين تجييش العالم ضده، ونشأت عن ذلك نتيجة كارثية على المنطقة لا تقل عن استسلام الدولة العثمانية للأوروبيين بعد أن ساعدوها ضد محمد علي الكبير في القرن التاسع عشر.
لقد كان صدام حسين يقدم نفسه زعيما لمشروع عربي كبير، يقود فيه العسكر المنطقة في ظل تحالفات تتقاسم الكيانات الصغيرة وتبتلعها، وقد عرض صدام على مبارك –كما أفاد الأخير في إحدى خطبه– أن يشاركه في هذا المشروع، إلا أن الرئيس المصري السابق رفض ذلك، فانطلق صدام نحو المغامرة وحده.
لقد جر السلوك غير المسؤول لحسني مبارك، والسلوك غير المحسوب لصدام حسين على بلادنا العربية شرورا وويلات كثيرة، وإذا كان الرجلان قد اتفقا في اتباع سياسة قاسية مع شعبيهما، حتى عانى المصريون والعراقيون في ظلهما أزمات حادة في الحريات وحقوق الإنسان، فقد طفحت السياسة القاسية لصدام وتجاوزت الحدود إلى الجيران في إيران والكويت، في حين أبدى مبارك تجاه السياسة الدولية وقراراتها تكيفا شبه تام، فيما يبدو أنه كان محاولة منه لإبعاد المنغصات عن كرسيه.
لقد نسب مبارك إلى سياسته صفة الحكمة، لكن الأيام أثبتت أن هذه الحكمة من الصعب إثباتها له، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، وإذا حاسبناه بالنظر إلى ما آل إليه مصيره، كما فعل هو مع صدام حسين، فإن حكمنا عليه سيكون أقسى؛ ذلك لأن الخلع كان من نصيبه بدون استعانة بقوة خارجية، وإنما اجتاحه سيل العرم، أو ما دُعي الثورة المصرية التي أزاحته في الحادي عشر من فبراير/شباط، وأشرقت الشمس على مصر من جديد.
المصدر: د/نبيل الفولي الجزيرة نت
ساحة النقاش