جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
لا تزال السياسة موصوفة بأنها ممارسة للعبة قذرة لتحقيق أهداف ما، أو عَقد لصفقات يصعب عقدها بدون إتباع سياسات ملتوية، وقد شاعت هذه الصورة الميكافيلية الشائهة للسياسة بصورة خاصة مع سيطرة الرجل الأبيض حديثا على العالم من خلال الغزو العسكري والنهب الاقتصادي.
وكان من المتوقع قبل مائة سنة أن تنأى السياسة الأميركية بنفسها عن الاستغراق في تأكيد هذه الصورة السلبية للسياسة، وذلك بسبب حداثة مشاركة الولايات المتحدة في السياسة الدولية، وانشغالها بالداخل الأميركي منذ الثورة الأميركية وحتى منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، وكذلك شيوع مبادئ الرئيس وودرو ويلسون الخاصة بحق الشعوب في تقرير مصيرها.
لكنْ سرعان ما تورّط الأميركيون سياسيا فيما تورط فيه أسلافهم وحلفاؤهم الأوروبيون، وبدا أنهم يواصلون الطريق الذي افتتحه هؤلاء الأخيرون، حتى بدا أن صورة السياسة الدولية الأميركية لا تختلف في قتامتها عن أختها الأوروبية، خاصة تلك التي مثلها الأقطاب الكبار: الإنجليز والفرنسيون.
وقد كان هذا دليلا قاطعا على أن الأيديولوجيا الواحدة تولد نتائج متشابهة حين تخضع لنفس أسلوب التطبيق، بقطع النظر عن البقعة والعِرق الذي يوظفها في إدارة شؤون المجتمع والدولة.
لقد عانى العالم في القديم كثيرا من المفاجآت المرعبة التي هددت المدنية الإنسانية في عمومها، ومن أبرزها التتار الذين مثّل زحفهم على الحواضر والمدن والأمم سيلا من الموت والخراب المتواصل الموجات طوال عشرات السنين، إلا أن مثل هذا الأسلوب الخشن لم يحتج إلى زمن طويل حتى ولَد التاريخُ موجة بشرية مضادة استطاعت أن تكسره، خاصة مع ظهور عوامل الاختلاف والتنافس الداخلي على المجتمع التتري، وشعور الجيش الإسلامي المصري الشامي في عين جالوت أنه آخر حائط صد يمكن أن يمنع التتار من مواصلة طريقهم غربا وشمالا.
أما سياسة الحسابات والصفقات التي تؤجل وتعجل وتقدم وتؤخر الخطوات حسب مستوى الاستغلال الذي يتاح لها، كما تفعل السياسة الغربية، فهي أطول عمرا وأشد خطرا على مجتمعات البشر. وإن كان من الممكن ألا تكون في نتائجها الظاهرة أقل ضررا من زحوف التتار، فإن من المؤكد أنها أعمق تأثيرا من جرائم هؤلاء القدماء.
شماعة القاعدة
لسنا نريد اللعب بمشاعر أهالي ضحايا الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 الأبرياء حين نزعم مع الزاعمين أنه لم يثبت قطعا إلى الآن أن تنظيم القاعدة هو المسؤول الفذ عن دم ذويهم، وأن التحقيقات التي جرت في هذا المجال لم تتوفر فيها للمتهمين حقوقهم الطبيعية التي يضمنها القانون، حتى يواجهوا أدلة ظنية أو مؤكدة توجه لهم، وتؤكد تورطهم أو براءتهم.
ولكن نترك هذا الاختلاف إلى شيء آخر مؤكد ومن اليسير أن نتفق عليه، وهو أن السياسة الأميركية بالغت جدا في توظيف عداوة القاعدة لها في إلحاق الضرر ببلاد عربية وإسلامية لم يكن لها أن تواجَه بكل هذه العداوة والضراوة، مع ملاحظة أن بعض هذه البلاد كان يقف أيديولوجيا على طرف نقيض من وقفة أسامة بن لادن وتنظيمه.
وهذا يكشف أن نشاط تنظيم "القاعدة" استُغِل من قِبَل الأميركيين في تنفيذ خطط وتحقيق أهداف وضرب أنظمة في أعمال ما كان ليتوفر لها غطاء مناسب بدون المبالغة في التخويف من التنظيم الدولي، وتأكيد اتهامه في كثير من المصائب التي لحقت بأميركا ومصالحها في العالم، خاصة في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001.
لقد عاقب الأميركيون شعوبا ودولا كاملة لأجل تنظيم صغير، لم يكن في إمكانه أن يؤثر في السياسة الدولية بل المحلية في الدول المستقرة، إلا بالدعاية التي حولته إلى بطل مغوار قادر على مناطحة الأميركيين، حتى التحق بالقاعدة وادعى النسبة إليها كل تنظيم كاره للأميركيين ويتهمها بالجور على المسلمين وحقوقهم.
والمزعج للخاطر أن العقوبات التي أنزلها الأميركيون بأعدائهم خلال العقد الأخير، لم تتوقف عند حدود الحرب والغزو، بل تجاوزته بعشوائية مقصودة إلى التضييق السياسي والاقتصادي والتعليمي على عشرات الدول الإسلامية، ووصل الأمر إلى التضييق على نقل الأموال بين الدول بدون تمييز، فتعطلت مصالح، وأُغلقت هيئات ومؤسسات كانت ترعى مصالح الخلق وتقدم التعليم والدواء والطعام لملايين المحرومين.
لم تكن القاعدة سوى "شماعة" أميركية استخدموها بصورة بشعة في الإضرار بمصالح كثير من الدول والشعوب، لكنها أظهرت أيضًا أن الأميركيين لا يختلفون في نهمهم الاستعماري عن أسلافهم الأوروبيين، وأنه من الممكن أن يظهر التتار في ثياب أكثر تحضرا من ثياب تلك القبائل التي زحفت على العالم من سهول آسيا الشرقية قبل أكثر من ثمانية قرون.
الخطوة المؤجلة
لم يمثل شخص أسامة بن لادن يوما مشكلة، بل إن بقاء أي شخص ليس شرطا في بقاء فكرته وقوة تأثيرها، ولكن مدى نجاحه أو نجاح أعوانه والظروف المحيطة في تسويق فكرته على مستوى يضمن استمرارها ومواجهتها لمحاولات المحو.
وللأسف ساعد الأميركيون وعموم الغربيين بإعلامهم ومغامراتهم العسكرية المحسوبة وغير المحسوبة على منح القاعدة فرصة التمدد والبقاء أكثر من أي شيء آخر.
وقد جاءت "اللحظة الأميركية" لقتل بن لادن في سياق السياسة الأميركية التي سلف وصفها، أعني أنه حدثٌ تم توظيفه في وقت مناسب لغرض نحاول تبينه في السطور المتبقية، ولكن قبل ذلك نسجل ما لا يخفى على كثيرين، ويدور الحديث عنه بصراحة في المنطقة التي آوت زعيم القاعدة زمنا طويلا، وشهدت مصرعه أخيرا، وهو أن الأميركيين لم يروا في قتل الرجل قبل ذلك إلا تقليلا من ذرائعها التي تسوّغ تدخلها في بلدان وضغطها على دول ليس من اليسير توفير فرص للتدخل فيها.
لقد نجح الأميركيون في قتل بن لادن أخيرا، ولكن ليس لأنهم عجزوا عن ذلك طوال عشر سنوات، بل الراجح أنهم قد تعمدوا قبل ذلك تضييع فرص مماثلة لبلوغ الهدف ذاته، لأن بقاءه حينها كان أفضل لهم من قتله.
والذي يلفتنا أن قتل زعيم القاعدة أخيرا جاء قنبلة مدوية في أجواء ثلاثة مهمة تتعلق بالأميركيين:
أولها: فشل أميركي غربي فادح في أفغانستان، وهو ما يمكن تبينه بوضوح من خلال الضربات الموجعة التي يتلقونها من وقت إلى آخر من طالبان وغيرها من التنظيمات الأفغانية، وفشلهم في إدامة السيطرة الغربية على الغالبية العظمى من الأرض الأفغانية.
ثانيها: سلسلة الثورات العربية التي تهدد الهيمنة الأميركية على المنطقة.
ثالثها: تراجع شعبية الرئيس الأميركي باراك أوباما في الداخل.
أما التراجع الأخير، فإن قتل بن لادن سيمثل بالتأكيد رصيدا كبيرا للرئيس أوباما يمكن أن يرفع شعبيته إلى مستويات ترجح نجاحه في انتخابات الرئاسة الأميركية القادمة.
وأما الفشل في أفغانستان، فقد يكون الحادث الأخير ذريعة للانسحاب الغربي منها، مع تكوين حكومة مؤلفة من تيارات مختلفة، منها من يقبل الحوار من طالبان، مع إبقاء باب مفتوحا للتدخل الغربي والضرب بالطائرات بدون طيار وبطيار والتهديد بعودة الجيوش الغربية.
وأما الثورات العربية، فقد يوقظ قتل بن لادن كثيرا من التيارات النائمة في دول لم تعد محكومة بالحديد والنار، فتتورط أو تُدفَع بعض هذه التيارات في أعمال حمقاء تبقى ذريعة للأميركيين للتدخل المحسوب في شؤون أي بلد يطمح الأميركيون إلى تضييع فرصته في الحرية والحياة الكريمة.
المصدر: د/ نبيل الفولي الجزيرة نت
ساحة النقاش