النظام الجماهيري
الانحياز وعدمه
كيف نفهمه ونتوقع تصرفاته؟

"البداية شيء من الواقعية المرة، والنهاية كثير من العبثية والتخبط", هذا باختصار هو ما يمكن أن نصف به مواقف العقيد معمر القذافي وتراجعاته خلال تجربته السياسية والفكرية الطويلة في منصب سياسي واحد، هو الأول والأخير له، وهو منصب الزعامة المطلقة.

هذا مع التسليم من ناحية التقييم بما قاله عنه إحسان عبد القدوس قبل أكثر من ربع قرن من أنه "ليس حاكما طبيعيا يمكن قياسه بالحقوق والواجبات"، والتمسك من ناحية التوصيف بما قاله عنه غسان شربل قبل أيام من أنه وقع في عبادة صورته، وتفرغ لمخاطبة التاريخ بدل الاستماع إلى شعبه!.

إننا نستطيع أن نقرأ القذافي وما تبقى من أيامه في مرآة ماضيه العريض الذي سطره في كل مناسبة، عن طريق المفاجآت التي أضحكت كثيرا من المتابعين، بل أذهلتهم بسبب ما وصلت إليه من عبثية مغرقة، لكنها -وهو الأهم- تكشف عن نمط غريب من أنماط التعاطي مع المواقف والأزمات، والتي بلغت ذروتها في أزمته الأخيرة مع شعبه ومع العالم في وقت واحد.

إن "ملك ملوك أفريقيا" -التي ليس فيها دول ملكية إلا نادرا- اعتاد أن ينتقد التيار السائد في نهر السياسة العالمية والإقليمية، وقد يكون معه حق في هذا، إلا أن البديل الذي يقع اختياره عليه يمتاز دائما بالشذوذ وعدم الواقعية، وفي مواجهته لتيار السياسة الدولية يميل العقيد في البداية إلى العنترية المفرطة، ثم يرتد إلى انتكاسة يقف فيها عمليا على الطرف النقيض لما اختاره قبل ذلك.

ارتباك في الفكر، وعبثية في المواقف تكشف عنهما كل صفحة يمكن أن تقلبها من حياة العقيد، وإليك عينة منها:

النظام الجماهيري

كثير من الأفكار والآليات والوسائل المتخذة لإدارة الحياة الإنسانية تحتوي على نقص كبير أو صغير، إلا أن المجتمع الإنساني يبقى مضطرا إليها لأنها أفضل المتاح من ناحية، ولأن خيرها أكثر من شرها من ناحية أخرى.

لنأخذ مثلا تولي شخص أو مجموعة صغيرة من الأفراد حكم بلد طويل عريض، وإعطاء هذا الحاكم سلطة لا تُعطَى لغيره من أبناء مجتمعه الذين قد يكون فيهم من هو أفضل منه، هذا الوضع ضروري لاستمرار الحياة الجماعية للإنسان بدون خلل يؤدي إلى انهيارها. ولا يقلل من أهمية هذا الأمر أن كثيرا من الحكام يستغلون مواقعهم، ويمارسون سياسات قمعية واستبدادية ضد جماعاتهم وشعوبهم.

وقصارى ما يمكن القيام به للتقليل من فرص طغيان الحاكم هو بقاء الشعب يقظا عارفا بحقوقه، ورافضا لأن يتسلط عليه أي شخص كان، مع سن التشريعات والقوانين وتشكيل الأجهزة التي تقلل احتمالات استغلال الحاكم للسلطة في أغراض منحرفة.

أما العقيد القذافي، فله موقف آخر من هذا، وهو إلغاء الحكومات، وتحويل الكيانات السياسية إلى جماهيريات؛ بمعنى أن يحكم الشعب كله نفسه عن طريق لجان وتشكيلات منه لا تتجاوز سلطتها تنظيم الجلسات والاجتماعات الخاصة بها، إلا قليلا.

وعبارة "يحكم الشعب كله" تساوي مجتمعا بلا سلطة، أو دولة يتوفر لها ركنان فقط: البقعة، والأمة، وهو أمر غير معقول بالمرة؛ إذ إن مجتمع القبيلة حتى في حال ترحلها وتنقلها وراء المراعي كان يستبدل البقعة ببقعة أخرى، غير أنه لم يكن يستغني عن زعامة تقوده.

إن حل "الجماهيريات" الذي سوَّق له القذافي وجوقته تسويقا واسعا وطويلا، قد يبدو -من الناحية التجريدية الخالصة- مغريا ومقدمةً للخلاص من الاستبداد، وضمانا للتساوي بين الناس، وتحقيقا للمجتمع المثالي، إلا أنه بعيد كل البعد عن الواقع، بحيث لو طبقناه فلن نكون إلا أمام وضع من اثنين:

- إما هرج ومرج لا تستقر معهما حال، ولا يبقى أمان، أي أنه لا تكون هناك دولة ولا أمة بالمعنى المعروف. وقد حدث هذا في الصومال بعد أن خفّت يد السلطة فقط عن الإمساك بزمام الأمور، فما بالنا بمجتمع بلا سلطة محددة، أو بلا سلطة على الإطلاق؟

- وإما أن تؤول المسألة إلى دكتاتورية خالصة يصبح فيها الزعيم الملهم أو الحزب المقدس هو قطب الرحى للدولة (أنا ليبيا). وما قام به القذافي من تنكيل بأبناء الشعب الليبي أثناء ثورتهم وقبلها جاء من منطلق هذا الشعور الدكتاتوري بامتلاك الوطن ومن عليه وما عليه وما يطير في سمائه وما يستقر في جوفه.

ومن هنا يكون القذافي قد استبعد من الأنظمة المعتادة في إدارة الدول أفضل ما فيها، وهو حفظ أمن المواطن وضمان سلامته واستقرار حياته، واحتفظ بأسوأ ما فيها، وهو الاستبداد المطلق والتصرف المنفرد وغير المسؤول في أمور البلاد والعباد.

ويشبه هذا من بعض الوجوه مشكلة أخرى دارت في إطار الدراسات الأخلاقية والسياسية؛ إذ قيل إن النظم العرفية والقانونية التي تفرضها المجتمعات على أفرادها تصادر بالضرورة جزءا من حريتهم، وقد عبر عن هذا البحاثة الفرنسي أميل برييه بقوله: "إن الناس في مختلف بقاع العالم يفهمون النظام الذي تفرضه الجماعة على أفرادها كما لو كان من شأنه أن يجعل الإنسان عبدا. ويبدو أنهم يجهلون أن المجتمع ليس إلا نتيجة للسلوك الأخلاقي لدى كل فرد من أفراده" (اتجاهات الفلسفة المعاصرة: ص 76).

وقد تبدو "الجماهيريات" مجرد فكرة انفصلت عن الواقع، إلا أن الغالب عليها أنها "فذلكة سياسية" لجأ إليها مستشارو العقيد -أو مؤلفو الكتاب الأخضر المنسوب إليه- للتغطية على نموذج استبدادي له تفرده الخاص في تسيير أمور البلاد بثرواتها الهائلة، والوصول بالقمع والتنكيل بالليبيين في الداخل والخارج إلى مستويات قياسية، حتى لا يبقى في البلاد إلا خانع فاقد لحريته، أو متواطئ منتفع من فتات النظام، ولا مجال بعد ذلك للحديث عن الثروات المنهوبة ولا الحياة الصاخبة التي يحياها الزعيم وأبناء الزعيم، فقط يبحث الناس عن قليل من الحرية، أو حتى مجرد الحياة.

الانحياز وعدمه

وعلى النمط ذاته خرج علينا القذافي في الثمانينيات باقتراح لإلغاء منظمة عدم الانحياز، وشطبها من الوجود، والسبب هو عدم جدوى هذه المنظمة.

ولا يجادل أحد في الواقع السياسي البائس للمنظمة المذكورة، التي ظهرت لا على أنها تكتل سياسي يمثل بديلا حقيقيا عن الانحياز إلى أحد قطبي الحرب الباردة، بل اكتفت "عدم الانحياز" بمجرد التفرج على المشهد الدولي، مع الانحياز العملي إلى أحد القطبين أيديولوجياً أو سياسيا، وإلا فكيف نفسر زيارات الرئيس المصري جمال عبد الناصر -أحد الوجوه الأبرز في المنظمة- إلى موسكو واتخاذه قرارات مهمة أثناءها أو عقبها مباشرة، وكيف نفهم تمسك نظيره اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو بالشيوعية إلى آخر رمق، وإبداء آراء ومواقف سياسية تنحاز في الغالب إلى جانب الروس.

كانت المنظمة المذكورة في حاجة إلى تفعيل لفكرتها، وإخراجها من الدفاتر وأوراق المواثيق إلى الواقع الدولي، وأن يتحول عدم الانحياز من كونه فرصة للهرب من استحقاقات السلوك السياسي للروس أو الأميركان، إلى الترجمة عن عدم الانحياز -على الأقل- في صورة مواقف تعاونية مع الأطراف ذات المواقف الإيجابية وعقابية مع الأطراف ذات المواقف السلبية.

وليس هذا موضوعنا هنا، بل المشكلة أن البديل الذي طرحه العقيد عن إلغاء المنظمة قام على الاستسلام لواقع الحرب الباردة، وتقسيم العالم بين القطبين الأميركي والسوفياتي؛ أي ضرورة الانحياز إلى أحدهما، والتوافق مع الواقع الدولي الذي تخلف عن الحرب العالمية الثانية بهذه التبعية.

وهنا يتردد موقف العقيد بين نقد فيه شيء من الصحة، بل قد تكون فيه كل الصحة، وبين الفشل الذريع في الوقوع على البديل المناسب، وهي واقعية أصدق ما توصف به هو أنها "واقعية سوداء"؛ لما تحمله من دعوة إلى الخضوع للأمر الواقع، والتحرر من الآمال الوطنية، والتحلل من الهوية الخاصة، وهو ما تجلى أكثر في مشروع القذافي لحل القضية الفلسطينية بإقامة دولة ثنائية القومية (يهودية عربية) أطلق عليها اسم "إسراطين".

كيف نفهمه ونتوقع تصرفاته؟

ظهر القذافي في ميدان السياسة فجأة سنة 1969؛ أي في ذروة الحرب الباردة التي شغلت من سنوات القرن العشرين حوالي أربعة عقود؛ بدأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وانتهت في عقد التسعينيات من القرن الماضي.

وبعد ظهوره هذا اختار العقيد -فيما بدا وكأنه تأثر بمواقف عبد الناصر في مصر- الانحياز إلى القطب الروسي، وقدم نفسه كخصم عنيد للأميركيين وحلفائهم، وتمثلت جهوده في "حروبه" معهم في مساعدة الجيش الأحمر في إيرلندا، وجماعة إيتا الانفصالية في إقليم الباسك الإسباني، وتفجير بعض الحانات والطائرات هنا وهناك.. إلخ.

وقد ظلت السياسة الأميركية تضيق على القذافي اقتصاديا، وقد تشن عليه هجمات عسكرية محدودة، كما حدث في الهجوم على منطقة العزيزية في عام 1986 عقب تفجير ملهى ليلي في برلين كان يرتاده عسكريون أميركيون، ولكن بدا أن الغرب لا يريد التخلص منه تماما، فيما يشبه احتفاظ شكسبير بشخصية كاريكاتيرية في أعماله تضفي على مسرحه شيئا من الطرافة.

إلا أنه مع اتساع مدى الحملة الأميركية الشهيرة على "الإرهاب" مع بداية القرن الجديد، حتى أدت إلى غزو العراق وإسقاط نظام الرئيس صدام حسين، بدا أن القذافي وأشباهه يتعرضون لضغوط وتهديدات غربية غير مسبوقة، وأن شبهة امتلاك برنامج نووي من شأنه أن يلحق أي زعيم بالمصير الذي ذاقه الرئيس العراقي الأسبق، ولو غيّبوا شخصيات شكسبير الكوميدية.

وجاءت المفاجأة القذافية من نوع "واقعياته" التي لم يزل يفاجئ بها العالم، فأعلن تراجعه التام عن أي نشاط فعلي معاد للغرب، وكشف للعالم أسراره، وأعلن تفكيك برنامجه النووي الذي كان قد ابتدأ فيه منذ وقت قصير، وتصالح مع المناخ السائد في السياسة الدولية، حتى رضيت عنه الولايات المتحدة الأميركية، ورفعت اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب عام 2006.

إن ما سبق من تحليل لسلوك القذافي السياسي والفكري -إن جاز أن ننسب له فكرا- ينطبق على سيرة الرجل في بداياته ونهاياته، فالرجل الذي انقلب -في عمل نبيل كما هو مفترض- على نظام الملك إدريس السنوسي ملك ليبيا الفقيرة المتهم بالاستبداد، هو نفسه الزعيم الذي لم يترك لسلفه فرصة للمقارنة به من جهة التردي المتنوع الذي عاشته البلاد بعد طفرة البترول الهائلة طوال أكثر من أربعة عقود من حكمه.

لقد بدأ العقيد حياته السياسية من القمة، وفي مرحلة عمرية تمتاز الشخصية فيها عادة بالهشاشة وغياب النواة الصلبة التي تمنح صاحبها القدرة على اتخاذ مواقف محددة وحاسمة وثابتة.

وقد أدى هذا التمكين المبكر في أجواء دولية متقلبة، وفي غير موعده، لشخص غير مؤهل نفسيا وعقليا وإداريا، وبلا مستشارين أو خبراء، أدى إلى ترسخ شعور التميز لديه، والإحساس بالاستحقاق الطبيعي للوجود في طليعة الأمة بل فوق أعناقها، وإذا اجتمع هذا التناقض في شخص واحد وواقع واحد، أدى إلى أسدية في مواجهة الضعفاء ونعامية في مواجهة الأقوياء، وهو ما يعني الحسم في حال الشعور بالقوة، والمواجهة المهتزة قبل السقوط أو السقوط المباشر في حال الشعور بالضعف.

ومن اليسير وفقا لهذا كله أن نتوقع -بعد الصراخ الكثير الذي ملأ به الهواء- ميل القذافي إلى الاستسلام إذا اشتد الضغط الشعبي والدولي عليه، خاصة إن وُعِد بالعيش خارج ليبيا آمنا من المتابعة القضائية.

ويبدو سلوك القذافي الحالي أشد قسوة في مواجهة المدن الليبية والثوار بسبب تراخي اليد الدولية التي تتعامل معه عسكريا، واطمئنانه إلى أنها لا تستهدفه شخصيا -كما صرح بذلك المسؤولون الغربيون بدون مواربة- ولو وجهوا التهديد النظري إليه بأن استهدافه للمدنيين سيعني استهدافه شخصيا، مع قصف بعض الأهداف في العزيزية، فإن ذلك سيمثل عامل ضغط كبيرا عليه.

لكن يبدو أن وراء الأكمة ما لا ندريه مما قد يتعلق بمجمل الثورات العربية، وأنه ينبغي أن تحصل ليبيا على حريتها بجميل غربي يطوق رقبتها، مع خراب واسع وعمليات قتل وتدمير مروعة، حتى تفكر الشعوب الأخرى ألف مرة قبل أن تقدم على الثورة.

ويدعم ذلك ما يدبَّر للمصريين والتونسيين في الخفاء، ويطفو فوق السطح من وقت إلى آخر، حتى لا تؤتي ثورتاهما الناجحتان ما أمله فيهما الشعبان الرائدان من أُكُل طيب، فيعم الإحباط، ويموت الأمل في أنحاء عالمنا العربي.

 

المصدر: د/ نبيل الفولي الجزيرة نت
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 75 مشاهدة
نشرت فى 6 إبريل 2011 بواسطة Drnabill

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

14,748