جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
لا أقصد بهذا السؤال التسويق للمقال ولا صاحبه، ولم أقصد منه فرقعة إعلامية ولا التحريض على قلاقل، بل أردت حقيقة السؤال -على ما فيه من إثارة- والتي توقفنا أمام واقع صادم حين نفتش عن حقائق ما يجري في بلادنا العربية المنتفضة أو المنتظرة لدورها في الانتفاض، وعلاقة ذلك بالشعوب الغربية
التي "تظن أنها حرة".لعل من النقاط المهمة التي ندلف من خلالها إلى محاولة الإجابة عن هذا السؤال الرئيسي، أن نفسر بصورة صحيحة وعميقة ما تشهده البلاد العربية من ثورات بصورة ستفوق في أهميتها -لو سارت في طريق تطورها الطبيعي- كثيرا من الأحداث الكبرى التي شهدها العالم خلال القرن الأخير.
فقد يبدو أن الثورات العربية التي ابتدأت من تونس، ثم انتشرت كالنار في الهشيم في بلاد عربية مجاورة وغير مجاورة، حتى صار التظاهر "تقليعة" شعبية عالمية.. قد يبدو أنها مجرد انقلاب على دكتاتوريات ضيقت على مواطنيها حريتهم، واستغلت ثرواتهم في مصالحها المحدودة.
غير أن هذا في نظري ظلم للحقيقة، فهؤلاء الحكام جزء من منظومة سياسية دولية تقوم على تقسيم دول العالم قسمين: مستغِل (اسم فاعل)، ومستغَل (اسم مفعول)، وهي التقسيمة نفسها التي كانت في الحقبة الاستعمارية، ولكن بدلا من أن تقوم جيوش الدول الكبرى بالاحتلال الشامل والمباشر للأوطان كما كان، فإنها تكتفي بوجود جزئي في بعض بلاد المنطقة، مع التركيز بالأساس على مساندة الأنظمة التي تضمن بقاء المعادلة الاستعمارية في حقيقتها كما هي: مستغِل ومستغَل.
وهذا يعني باختصار أن الثورات العربية في عمقها هي في الأساس ثورات على هذه المنظومة الدولية الجائرة، وفي ضوء هذا يمكننا أن نفهم الانتقاد الغربي -الذي كان يأتي على استحياء ومن وقت إلى آخر- لسجلات حقوق الإنسان في بلادنا، على أنه توزيع أدوار حتى تنطلي الحيلة على المغفلين.
كما نفهم التصريحات الغربية الصاعدة والهابطة أثناء الثورة المصرية، والتي كانت تتراوح في البداية بين الدعوة إلى الهدوء والدعوة إلى إدخال إصلاحات (رشى) ترضي الجماهير، ثم تطورت مع الثورة إلى مطالبة مترددة لمبارك بالتنحي نفهمها على أنها محاولة للحيلولة دون تكرار التجربة الأميركية المُرة مع الثورة الإيرانية، حيث وقف الأميركيون في وجه الخيار الشعبي صراحة فخسروا طهران تماما بعدما كانت موالية لهم تماما.
مهما يكن، فإن الثورات العربية التي انطلقت كأطول سلسلة متتابعة من الأعمال المطالبة بالحرية والهادمة للأصنام السياسية في التاريخ، ليست مجرد انقلابات ضد أنظمة قمعية فاسدة، بل هي قبل ذلك ثورات في وجه المنظومة السياسية الدولية الجائرة التي تحكم العالم منذ رحيل المستعمرين الغربيين عن مستعمراتها.
وهذا الأمر الأخير بعينه هو ما يمثل أكبر تحدٍّ لثوراتنا الوطنية في مراحل ما بعد رحيل الدكتاتور.
تصدير الثورة
وفي مزيد من التقدم والاقتراب من الإجابة عن سؤال هذه السطور الأساسي، نحتاج إلى فهم هذا الاصطلاح الشهير "تصدير الثورة" في ضوء ما يشهده العالم بذهول في منطقتنا الثائرة. وقد صُك المصطلح -كما هو معروف- قبل نحو ثلاثة عقود في إيران التي كانت تبشر بعصر من الثورات في العالم يتولاها "المستضعفون" الواقعون تحت سيطرة "الاستكبار العالمي" ضد "الشيطان الأكبر" أي الولايات المتحدة.
غير أن إيران -رغم مساعيها الكثيرة والمتنوعة في هذا السبيل- لم تفلح في تصدير ثورتها، واقتصر تأثيرها العميق على لبنان بتحويل حزب الله بسحنته المذهبية المعروفة إلى قوة فاصلة في بلاده وذات تأثير إقليمي واضح في حسابات المنطقة. وتسببت محاولاتها هذه في عداوة إقليمية عميقة لها، مما ألجأها أخيرا إلى الاكتفاء بالتصدير الثقافي المذهبي عن طريق الدعوة والتعليم.
أما الآن فإن "تصدير الثورة" من بلد عربي إلى آخر يتم تلقائيا، فما دعا أحد من ثوار تونس إلى الثورة في مصر، وما دعا ثوار مصر إلى أن يحذو الليبيون ولا اليمنيون ولا غيرهم من العرب حذوهم، وإن كانت قد دارت أمنيات في نفوس تونسية ومصرية كثيرة بأن يزول القمع وأنظمته من عالمنا كله.
صُدِّرت الثورة العربية تلقائيا من بلد إلى آخر لأن الظروف التي صنعت هذه الثورة واحدة، ولا يبدو أن الجهد الكبير الذي بُذِل طوال العصر الحديث لتفتيت العالم العربي قد أفلح في طمس حقيقة توافق أقطار العالم العربي في المقومات والأسس التي تقوم عليها الحياة فيها، ولهذا كان من اليسير -وبدون جهد يُذكر- أن تعبر الثورة العربية في سلاسة من هذا البلد إلى ذاك، حتى صرنا لا نكاد نستثني أحدا من إمكان وصول هذه العدوى إليه.
بيد أن السؤال المهم هنا هو: هل يمكن أن تعبر الثورة حاجز الأجناس لتصيب بعدواها دولا أخرى غير عربية تخضع لدكتاتوريات صريحة أو مقنَّعة؟
لا شك أن احتمالات هذا العبور واردة بالنسبة للأنظمة الدكتاتورية الصريحة أكثر، خاصة في تلك الدول القريبة والمحيطة بالعالم العربي، وقد صارت جميع الأنظمة الحاكمة الآن قابعة في كرسيها خائفة من أن تصيبها ضربات القدر، فتنتقل عدوى الثورة الشعبية إلى بلادها.
وهنا يأتي الكلام عن الدول الغربية وهي بيت القصيد، فهل تعيش شعوبها بالفعل حياة حرة تتولى فيها أمورها بالفعل، أم أن للنظر مجالا آخر ينفي هذه الحقيقة المزعومة؟
استغلال خاص
إذا كانت المنظومة الدولية في مرحلة ما بعد الاستعمار قد قسمت العالم -كما سبق- قسمين: مستغِل ومستغَل، فإن دائرة المستغِل الفاعل أضيق من أن تشمل الدولة الغربية برمتها، بل هناك فقط دوائر في هذه البلاد تسخّر سياسة بلادها في خدمة أهداف خاصة لجماعات سياسية واقتصادية بعينها على حساب جميع الأطراف الأخرى، بما فيها شعوبها نفسها.
وليس هذا جديدا في الحقيقة، بل قاله كثيرون من قبل، ومنهم هربرت شيلر في كتابه الشهير والخطير "المتلاعبون بالعقول.. كيف يجذب محركو الدمى الكبار في السياسة والإعلان ووسائل الاتصال الجماهيري خيوط الرأي العام؟" الذي يتبنى فيه رؤية تظهر المجتمعات الغربية باعتبارها مجتمعات مستغَلة من قبل حكوماتها ونخبها السياسية والاقتصادية المتحالفة مع الإعلام.
ومن عباراته المهمة التي قالها في هذا الصدد "باستثناء قطاع صغير جدا من السكان يُحسِن الانتقاء، ويعرف ما الذي يشاهده، ويستطيع بالتالي أن يستفيد من التدفق الإعلامي الهائل، فإن معظم الأميركيين محصورون أساسا -وإن لم يعوا ذلك- داخل نطاق مرسوم من الإعلام لا اختيار فيه، فتنوع الآراء في ما يتعلق بالأخبار الخارجية والداخلية، أو بالنسبة لشؤون المجتمعات المحلية، لا وجود له في المادة الإعلامية، وهو ما ينتج أساسا من التطابق الكامن للمصالح المادية والأيدولوجية لأصحاب الملكية... ومن الطابع الاحتكاري لصناعة وسائل الاتصال بوجه عام" (ص 32).
إن المستند الذي يجعل الشعوب الغربية تسكن هذا السكون إلى حكوماتها هو عقد اجتماعي موهوم بين الطرفين، تختار فيه الشعوب حكامها بحرية مقابل حراسة حياتها من الأخطار، وضمان حد مناسب من الأمان لها.
غير أن الحقيقة هي أن الجماهير في الغرب لا تختار حكامها بحرية حقيقية، لأن الذي يملك القدرة على الدعاية الواسعة هو الذي يمكنه المنافسة الحقيقية ثم القفز الفعلي على كرسي السلطة، بل إن هذه الجماهير ليست حرة -في الحقيقة- في اختيار نمط حياتها الخاص نفسه، كما سبق.
وأحسب أن المسألة قائمة في الأساس على ضعف الوعي الشعبي الأوروبي والأميركي بحقيقة علاقتهم بحكوماتهم، وانحصارهم من حيث الرؤية في واقع جزئي يحول بينهم وبين إدراك الحقائق كاملة، فليس من الضروري أن تظهر الدكتاتورية في صورة ساذجة يتولى فيها فرد واحد السيطرة على كل شيء، بل قد تقوم بالوظيفة نفسها مؤسسات وهيئات، فما دام هناك اضطرار وتحكم قسري فلا بد أن نعده دكتاتورية مهما كان القائم به.
وليس من اللازم أيضًا أن يكون تزوير إرادة الشعب الانتخابية بمنعه من الإدلاء بصوته، أو بتعبئة البطاقات بصورة مخالفة لما يريد كما هي سنة الدكتاتوريات المتخلفة، بل إن عدم إتاحة فرصة إعلامية متساوية أمام المتنافسين يضمن تقدم من تساندهم الإمبراطوريات الإعلامية والمؤسسات الاقتصادية الكبرى وجماعات الضغط المؤثرة فقط، فتصبح الشعوب أسيرة مصالح هذه الجهات.
ولهذا لم يخالف ثروت عكاشة الأدب حين قرر نتيجة هذا في مذكراته بقوله "إن الكثرة من رؤساء الولايات المتحدة نهازون للفرص، همهم الوصول إلى كرسي الرياسة، وهم ليسوا رجال دولة بقدر ما هم سياسيون محترفون تعنيهم مصالحهم الخاصة فحسب" (الجزء الأول، ص 47).
هل تقرر إذن أن الشعوب الغربية في الولايات المتحدة وأوروبا وكندا تحتاج إلى ثورات مماثلة لتلك التي تجري في بلادنا؟
وللإجابة أقول: إنها تحتاج إلى ثورة حقيقية، ولكنها مختلفة عن ثوراتنا التي نشهد فصولها المتتابعة حتى اللحظة.. تحتاج إلى ثورة لاسترداد الوعي، وهو ليس بالعمل الهين، إذ إن بقاء المبادرة خارج أيدي الجماهير يعني أن يستمر استغلالها وتسييرها مجبرة في مسار يضمن مصالح دوائر معينة دون الجمهور الذي لا ينال من خير بلاده إلا الفتات، مهما ظهر أنه يعيش في رفاه.
ثورة استعادة الوعي
إن استغلال الدول الكبرى للعالم الخارجي يتم عبر المنظومة السياسية الدولية الجائرة التي سبقت الإشارة إليها، وإن استغلال الدوائر ذات النفوذ في البلاد الغربية لشعوبها يتم عبر التسيير الآلي للمجتمع عن طريق الدعاية والإعلام صاحب الإمكانات الجبارة.
إن الأضواء التي تنعكس فوقنا وتوهمنا أننا نرى السماء، تنقذنا من رعب الفراغ القاتل، وبالمثل أدركت دوائر السياسة في الغرب أن انتهاء الحرب الباردة يمكن أن يصنع حالة الفراغ المرعب هذه في حياة الناس، فشغلوهم بمشكلة ما أسموه "الإرهاب" والتهديد القادم باتجاه الغرب من المسلمين والصينيين.
والحقيقة أن هذا كان بديلا عن أن يفكر المواطن الغربي -وخاصة على مستوى العقل الجمعي- في فهم حقيقة الواقع الذي يخضعونه له، وطبيعة علاقة حكومات بلاده به.
ولا أنفي أن الإشكالية الغربية في هذا الصدد معقدة جدا، فهي تكاد تكون كالجريمة التي لا دليل عليها، أو جريمة لا يحس بها أكثر ضحاياها، نظرا لكثافة ودقة ما يتسلط على عقولهم من دعايات وطرق لترويج الأفكار والسياسات.
ولعل أول خطوة في هذه الثورة التي تهمنا، ويمكنها أن تساعد واقعنا الشرقي على التطور الطبيعي الحر بعيدا عن كثير من التضييق والحروب التي تسبب فيها المرابون السياسيون والاقتصاديون في العالم، هي تغيير الإدراك الغربي بحيث يعي تماما أنه يُستَغَل بصورة خبيثة جدا، وأنه صار موضوعا لفاعلين قد استسلم لهم دون أن يكونوا أمناء على حياته بدرجة كافية.
وتلي ذلك خطوات أخرى يدركها الجمهور الغربي من خلال واقعه هو، ليس أقلها أن يشترط للمشاركة في انتخابات بلاده التسوية بين المتنافسين في الدعاية الانتخابية مهما كان شأنهم، ليس عبر المحطات التلفزيونية فقط، ولكن عبر وسائل الدعاية المختلفة، حتى لا يكون رأس المال هو الحاسم في تزويق صورة هذا المرشح وذاك، في حين لا يسعف الآخرين حظهم.
إن عودة الوعي إلى المواطن الغربي -بعدما زيفوا له كثيرا من الحقائق الدينية والسياسية والثقافية بل حتى الغذائية- من شأنه أن يستعيد الدولة الغربية من خاطفيها، أو ممن سخروها لخدمة مصالح محدودة لفئات من المجتمع وجماعات اقتصادية وسياسية لا تقل شراسة عن الدكتاتوريات التي أشعلت الثورات في عالمنا العربي.
المصدر: د نبيل الفولي الجزيرة نت
ساحة النقاش