فرص الاستمرار والتمدد
فرص الانحسار والتوقف

لا يبدو أن ما أثارته الثورة التونسية في نفوس الشعوب من توق إلى الحرية وكراهية للأنظمة المستبدة ومطالبتها بالتنحي أنه سيتوقف قريبا، خاصة بعدما أكدت ثورة التونسيين عمليا أن وصول الشعوب إلى هذه الأهداف ليس مستحيلا، كما كان يفرض عليهم الإحباط بسلطانه الكئيب.

وقد كانت مصر في صدارة الدول التي توقع المحللون أن تمتد الشرارة إليها، ولم يخب هذا التوقع منذ وقت مبكر من أحداث تونس، حين خرج عشرات المصريين في مظاهرة احتفالية عند السفارة التونسية بالقاهرة عقب الإعلان عن هروب "بن علي"، مهنئين أشقاءهم ومطالبين بأن يسري عليهم ما سرى على الشقيقة العربية الصغيرة والرائدة. وتلت ذلك وقفات وأيام احتجاج وغضب مصري ضيق وواسع.

غير أن فرص الاستمرار والانحسار في هذه المرحلة من الاحتجاجات المصرية العارمة تبدو بحاجة إلى قراءة، بحثا عن احتمالات النجاح والفشل في وصول المصريين إلى أهدافهم.

فرص الاستمرار والتمدد

أول ما يدعم من يصرخ في وجه الظلم هو الحالة النفسية الإيجابية التي يعيشها، لا فرق في هذا بين فرد وجماعة. وأصعب ما يمكن أن يعيشه مهضومو الحقوق هو أن يصير الاستيلاء على حقوقهم وانتهاب لقمة عيشهم أمرا طبيعيا في نظرهم، وأن يستقر في خلدهم أن القوة والسلطان تعطي لأصحابها الحق في الاستيلاء على ما ليس لهم، وأنهم هم أنفسهم لو كانوا أقوياء لفعلوا فعلهم! حتى يبدو الظلم في نظرهم دائرة مغلقة تفرض ضرورتها أن يتسلط طرف ويخضع الباقون.

وقد تفرض الهزيمة النفسية على المظلوم شعورا قاتلا بعدم جدوى مقاومة الظالمين، إذ إن فارق القوة قد يسد أبواب الأمل أمامه، فيغفل عن مواضع قوته التي تبدأ من نقطة أساسية لا تغيب، وهي أنه "صاحب حق"، وأن الله تعالى مع "صاحب الحق".

ولا يبدو أن الشعب المصري قد تحوّل كله عن حال الإحباط الذي كان سائدا منذ وقت قصير إلى فتح باب الأمل على مصراعيه، إذ ما زال هناك مصريون يرون أن لا جدوى من مقارعة النظام الحاكم الذي لم ترتخ -في ظنه- يده القابضة على مقاليد الدولة بعد. ولعل من مصلحة النظم المستبدة أن تشيع مثل هذه الأفكار بين جماهيرها المغلوبة على أمرها حتى تمعن في السيطرة عليها.

ومع هذا، فإن الحدث التونسي الكبير قوّى كثيرا جدا من آمال المصريين، وأنعش لديهم أحلام العيش في وضع سياسي واقتصادي وثقافي وتعليمي يلبي طموحاتهم، ويتيح للساعين والطموحين منهم إظهار مواهبهم والتنفيس عن طاقاتهم التي ناءت بثقل الاستبداد والبطالة والمحسوبية وضيق ذات اليد.

ومع أن الحدث الثوري التونسي لم يصل إلى غايته الكاملة حتى الآن، فإن ما مضى من فصوله ما زال يلهم الجماهير في مصر وغيرها، ويدغدغ مشاعرها الحالمة باقتراب الفجر، ويحيي آمالها. ويكفي أن تستحضر الذاكرة من أحداث تونس مشاهد الكر والفر بين الجماهير والشرطة ورفع الرايات التونسية الحمراء بقمرها الناصع وهلالها القاني، لكي تستعيد الجماهير نشاطها وحيويتها من جديد.

ومن العوامل التي يمكن أن تدعم المد الثوري في مصر كذلك: الثراء السياسي الذي تتمتع به الحياة المصرية، فرغم ضعف الأداء السياسي للأحزاب فإن أطيافا سياسية كثيرة تعمل في الحياة المصرية، ولم يلغ دورها عدم اعتراف الحكومة بكثير منها، كما أن الذي أضعف الأحزاب التي تعترف بها الحكومة هو تدخل الأجهزة الأمنية الرسمية فيها سعيا إلى تخريبها وتفريغها من مضمونها.

وإذا كان الحدث التونسي ثورة لا رأس لها، أو كيانا هلاميا انضوى في عباءة شعب بأكمله، بحيث لم يستطع النظام البائد أن يحدد من يتربص به لأن الكل يتربص به، ولا من يثور ضده لأن الجميع يفعلون ذلك.. إذا كان الأمر هكذا في تونس، فإن مصر تملك البعدين الجماهيري والنخبوي، وهذا يعني أن ترك القيادات الوطنية طليقة سيتيح مزيدا من تثوير الشارع، واعتقالها لن يجهض الحركة الجماهيرية التي تأخذ شكلا لا يستطيع النظام التحكم فيه.

وفائدة التنوع والثراء السياسي في الشارع المصري تكمن في أن الظروف متاحة لكي يثبت كل تيار سياسي وجوده في الساحة، بالمشاركة المباشرة في الاحتجاجات أولا، ثم بتوظيف طاقة الجماهير ثانيا، مستغلا الوضع النفسي الذي خلفته ثورة تونس، وكذلك التذمر الجماهيري المكتوم من كثير من القضايا والمواقف الحكومية.

وهذا الأخير جانب آخر يدعم بقوة فرص امتداد الاحتجاجات المصرية واتساعها، وربما يحوِّلها إلى ثورة حقيقية، وأعني به ثقل تركة الأخطاء التي ينوء بها النظام المصري الحاكم في نظر الغالبية الساحقة من أبناء الشعب، سواء تناولنا السياسة الداخلية أو الخارجية للنظام، فالشعب يحمّل الحكومة مسؤولية تردي الأوضاع الداخلية بسبب سياساتها المتبعة في إدارة شؤون البلاد، سواء تردي المستوى المعيشي لغالبية أبناء الشعب، أو ضعف رواتب موظفي الدولة، أو الفساد الاقتصادي المستشري لحساب رجال الأعمال الموالين للنظام، أو تردي أحوال التعليم، أو تزوير الانتخابات وتسلط الأجهزة الأمنية على المواطنين، أو ضعف الاهتمام بالجيش واستبعاد الكفاءات منه.

كما يحمّل الشعب المصري حكومته مسؤولية الأداء الضعيف في السياسة الخارجية المصرية طوال ثلاثة عقود، حتى توارت مصر خجلا في كثير من القضايا الإقليمية التي كان لها فيها حل وعقد، كالقضية الفلسطينية بتشعباتها، والحصة المصرية من مياه النيل، والسودان والحفاظ على وحدته.. إلخ.

والملاحظ أن هذه الشكاوى والمواقف الناقدة لسياسات النظام في القاهرة شملت في تنوعها كل فئات الشعب المصري وتياراته تقريبا، من نقابيين وممثلي المجتمع المدني وحقوقيين وصحفيين وإسلاميين ومسيحيين وشباب الجامعات، بل حتى بدو سيناء.

ولعل هامش الحرية الكلامية التي أتاحها النظام المصري للناس كنوع من التنفيس عن الغضب، حتى وصل النقد إلى رأس النظام نفسه.. لعل هذا يمثل وقودا إيجابيا لامتداد الاحتجاجات، إذ ليست هناك محرمات في نقد النظام منذ البدء، ولهذا لم تستثن مطالب الجماهير من البداية حتى المطالبة بإلغاء الانتخابات البرلمانية الأخيرة وتنحّي الرئيس نفسه.

ولا يخفى تعاظم دور وسائل الاتصال الإلكتروني ودور الإعلام المؤثر بقوة في المشهد المصري الحالي. وإذا كان الإعلام هنا سلاحا ذا حدين، أي أنه قد يعمل لصالح المحتجين وقد يعمل ضدهم، فإن وسائل الإعلام ذات المصداقية عند أغلبية المصريين ليست منها وسائل إعلام الدولة التي لم تهمل الأحداث الأخيرة كالعادة في مثيلاتها، لكنها غطتها تغطية قلقة متواربة.

فرص الانحسار والتوقف

لا شك أن المحتجين في مصر لن يكونوا وحدهم المستفيدين من الثورة التونسية بفصولها المتتابعة، بل سيستفيد منها النظام الحاكم كذلك وبكل تأكيد، خاصة بسعيه لتجنب وصول الاحتجاجات إلى مستوى اللاعودة، والحرص على ولاء قيادات الأجهزة التي تمثل ذراع الدولة القوية.

وتبدو أخطاء "بن علي" هنا أجراس إنذار معلقة تدق بقوة فوق رأس النظام في القاهرة وشرم الشيخ، كاستهانته بمظاهرات الجماهير في بدئها حتى عجز عن صدها، وعجزه عن امتصاص غضب الشارع في الوقت المناسب وبالوسائل المناسبة، وظهوره ضعيفا جدا في خطاباته التلفزيونية الأخيرة.

وبهذا تجمع القاهرة في تعاملها مع المتظاهرين بين العصا والجزرة، فتواجه المظاهرات بيد حديدية، وتضيق على وسائل الاتصال خشية اتساع الاحتجاجات فوق الحد، وتتخذ في الوقت نفسه بعض الإجراءات الإصلاحية الفعلية في السياسة والاقتصاد.

غير أن نهم الجماهير التي انطلقت في احتجاجاتها قد يعقّد حسابات الحكومة أكثر، خاصة عند تفسير الناس لهذه الإجراءات على أنها تنازلات دفع إليها الضعف، وأن مزيدا من الضغط قد ينتج مزيدا من التنازل.

ومع هذا كله، فإن العامل الذي يتوقع أن يكون مؤثرا بقوة في تقرير مصير الاحتجاجات الشعبية المصرية الحالية ولو مؤقتا، قد يكون عاملا خارجيا، وذلك أن الثقل الخاص لمصر إقليميا جعلها محط أنظار الدول الكبرى التي هزتها أحداث تونس.

وإذا كانت فرنسا قد تأخرت عن التدخل في تونس لإنقاذ نظام "بن علي"، فإن عنصر المباغتة وعدم التوقع هو الذي أدى إلى هذه النتيجة، في حين أن الحالة المصرية تبدو من البداية مكشوفة تماما أمام نظر الأميركيين ووكلائهم في تل أبيب.

ويبدو أن خطر هذا العنصر الشديد لا يهدد مصير الاحتجاجات الحالية وحدها، بل يُخشَى أن يؤدي إلى فوضى جامحة في بلد يضم 80 مليونا من البشر، وأحسب أن النظام الجريح قد لا يخجل من طلب المساعدات قبل أن تعرض عليه.

غير أن هذا العامل نفسه قد يدفع بالأمور إلى حل وسط أيضًا، وذلك من خلال "النصائح والتوصيات" القادمة من واشنطن ونيويورك وباريس ولندن وبرلين وغيرها بالاستجابة لمطالب الجماهير الغاضبة، إلا أن المفتاح يبقى -حتى في هذه الحال- في أيدي الجماهير، ويتوقف تطور الأمور على مدى استعدادها لقبول حل وسط يبقى فيه النظام في مواضعه مع إدخال إصلاحات سياسية واقتصادية كبيرة أو صغيرة، أو قبول حل "الكل إلا واحدا"، أي بقاء النظام مع حذف شخصية الرئيس فقط

.

المصدر: د/ نبيل الفولي الجزيرة نت
  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 105 مشاهدة
نشرت فى 8 فبراير 2011 بواسطة Drnabill

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

14,749