في البدء جاءت تونس
الشعوب
الأنظمة الحاكمة
الديمقراطيات المنافقة
"الحريق" مظلوم في ذاكرتنا وثقافتنا؛ فهو رمز التخريب والتدمير والتشويه، إلا أنه يبدو حين تثور الشعوب ضد ظالميها شيئا آخر أو رمزا لشيء آخر، وهو "التطهير"، نعم الحريق رمز من رموز التطهير، أو هكذا يجب أن يكون، فهو يذهب بالغثاء، ويزيل الوخم والعفن، ويميز أوتاد الأرض وجبالها الشامخة من أكوام الرماد، ويكنس من الظالم اللحمَ والعظم، ولا يُبقي له جلدا ولا شعرا.
وما الحرب التي تزيل الاحتلال أو تصد العدوان إلا "حريق مقدس" يطهر بنيرانه الأرض من الوباء، ويدفع بالقوة ما لا يُدفَع بالوسائل الأخرى، ويقدم بالأرواح المحترقة في أتونه برهانا لا يُرد ولا يُناقَش على حقيقة الوطن وأحقية شعبه فيه.
ووقود هذا الحريق دائما هو أقدس وقود عند الناس، حتى الملحدين منهم، وهو دم الشهداء الذين كان الاتحاد السوفياتي نفسه في عنفوان شيوعيته وإلحاده يحتفل بضحاياه منهم كلما جاءت ذكريات الحرب العالمية الثانية، فما بالنا بمن يجعل الشهيد في الصفوف الأولى من المقبولين عند الله، ويجعل الموت معنى مجازيا عند وصف مسيرة الشهيد فوق الأرض، ويعد رحيلَه بركة عليه وعلى أهله الذين يشفع فيهم عند ربه؟!
بدت تونس منذ الاستقلال عن فرنسا سنة 1956 نقطة سياسية راكدة في الحياة السياسية العربية، ولم يرتفع لها رأس بشكل ظاهر منذ استقرار مقاليد الأمور في يد الحبيب بورقيبة بعد الاستقلال إلا حين انتقل إليها مقر جامعة الدول العربية بصورة مؤقتة سنة 1979 بعد عقد اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وحين انقضت المرحلة البورقيبية وانتقل الحكم إلى قبضة زين العابدين بن علي سنة 1987. ولهذا وذاك كان مدهشا جدا للمتابعين أن تبدأ انتفاضة الشعوب الواقعة تحت الظلم من تونس بالذات.
<!-- TOKEN -->
جاءت المفاجأة المدوية من شعب القيروان والزيتونة وسيدي بوزيد الرائع، فثار حتى بلغ آخر الجدار الذي يستهدفه كل من يبحث عن الحرية، وهو إزالة الديكتاتور، وفرض إرادة الأمة
"
حقيقة توقع كثيرون ولا يزالون يتوقعون أن ينفد صبر الشعوب الخاضعة للحكم الديكتاتوري المتدثر بثياب ديمقراطية مهلهلة في أنحاء كثيرة من العالم، لكنهم عجزوا بالنسبة لعالمنا العربي عن تحديد نقطة البدء أو زمانه بدقة، وجاءت المفاجأة المدوية من شعب القيروان والزيتونة وسيدي بوزيد الرائع، فثار حتى بلغ آخر الجدار الذي يستهدفه كل من يبحث عن الحرية، وهو إزالة الديكتاتور، وفرض إرادة الأمة.
ولابد، قبل محاولة قراءة هذا الاختيار القدري العجيب، من التنويه إلى ظاهرة غريبة تتعلق بديكتاتوريات ما بعد الحرب الباردة، إذ ظهرت في أحط صور الاستبداد؛ وذلك أن الديكتاتور –كما بدا منذ صوّره أفلاطون في جمهوريته قبل أربعة وعشرين قرنا من الزمان– رجل مستبد يقبض على أمور البلاد بالقوة بعد أن سادتها الفوضى، ويمسك كل الخيوط بيده، ضنا أن يشاركه في تحريك الدفة غيره. ويبدو عنصرا الاستقلال والقوة بارزينِ في هذه الشخصية.
أما ديكتاتور ما بعد الحرب الباردة، فهو محروس ومدعوم في مواجهة شعبه من أعتى نظم النفاق الديمقراطي وأجهزته ومؤسساته في العالم (أوروبا والولايات المتحدة الأميركية)، تلك النظم التي أباحت لنفسها احترام شعوبها وإشراكها بصورة أو بأخرى في اختيار قادتها وزعمائها، وضنت بهذا الحق على الشعوب الأخرى؛ كي تبقى البلاد أمامها لقمة سائغة ونُهْبة سهلة.
ولأجل هذا لم يبق هناك شك في أن الخارج (الديمقراطي تحديدا) هو الحامي الأول للنظم الديكتاتورية في عالمنا من السقوط، على الرغم مما قد يبدو بين الطرفين من سوء تفاهم في بعض القضايا الفرعية التي لا يمكنها أن تخفي حقيقة التواطؤ.
لكنْ – وعَوْدا إلى ما نحن بصدده- إذا كان حريق التطهير قد شب في عالمنا العربي، فلماذا بدأ من تونس بالذات؟
لا أحسب أن الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي كان لديه من يقرأ له نفسية الشعب الذي يحكمه، ولهذا استغرق في إجراءات التضييق السياسي والأمني، وصادر حرية شعبه، وتتبعت أجهزة أمنه أنفاس الناس، وضيق عليهم في قوت يومهم ولقمة عيشهم حتى بلغ الفقر والبطالة حدا مرعبا، وفتح النظام في مقابل ذلك أبواب الثراء الفاحش لمن يدور في فلكه من الأزلام والأقارب والأصهار، غير مراع لأي مساحة تنفيس، أو بقعة فراغ يتخلص فيها الناس من همومهم.
كانت تونس "بن علي" من أشد دول العالم تضييقا على الصحافة والفكر، وانتهاكا لحقوق الإنسان، ومصادرة لحق الناس في التدين الحر وممارسة السياسة، ومصادمةً لمشاعر الناس وانتماءاتهم، ومطاردة للخصوم السياسيين في داخل البلاد وخارجها، وتفتيتا للهوية، وتحريما لنقد الحاكم في مسرح أو قصيدة أو صحيفة أو خطبة أو في حوار أو حديث.
إن شخصية زين العابدين برمتها هي شخصية رجل الأمن الذي لا يرى سلاحا مناسبا للسيطرة على جماهير الشعب وقواه أنجع من الأحذية الثقيلة، فلا مجال عنده للحوار ولا المشاركة، ولا قبول للتنوع وتعدد الألوان. وهي قضية نفسية مرجعها عادة إلى الخوف وضعف الثقة في النفس وفي الآخرين، مع الاهتمام بمظاهر التقديس الزائف الذي تخلفه الغيرة من الآخرين، وسهولة الخضوع للرغبات النسائية.
بدت الدولة البوليسية أمام الجماهير التونسية جدارا صُلبا بالفعل، لكن صبر ساعة كان هو التحدي النفسي الأكبر بين الجماهير والنظام، وكان مرور الوقت يزيد من التمدد الجماهيري داخل فراغ النظام الهش
"
وإذا أدخلنا في الحساب مركزية الدولة وبوليسيتها، وتساءلنا عن أسباب عجز هذه العوامل، التي كانت هي كل دولة زين العابدين، عن الحيلولة دون سقوطه، فسنجد أن جنودا كثيرين قد دخلوا على الخط أضعفوا من تأثير هذا العامل في مواجهة الثورة التونسية الجديدة بصورة كبيرة، وأخطر هؤلاء الجنود: وسائل الاتصال الحديثة، فقد كان الهاتف المحمول والقنوات الفضائية هي عامل التواصل والتسميع بين الجماهير، ولعبت المعلومة دورا بارزا في تعضيد الجماهير كي تصابر في مواجهة الرصاص الحي والسحل والضرب المبرح.
لقد بدت الدولة البوليسية أمام الجماهير التونسية جدارا صُلبا بالفعل، لكن صبر ساعة كان هو التحدي النفسي الأكبر بين الجماهير والنظام، وكان مرور الوقت يزيد من التمدد الجماهيري داخل فراغ النظام الهش، ويضاعف من تضييق الصخور الجائعة للحرية على الإسفنج المنتفخ بلا رصيد، ويضعضع من ثبات الجندي الموزَّع بين طاعة النظام وحفظ الحق الإنساني للمواطن في الحياة الحرة الكريمة.
وأحسب أن هذه المفاجأة التونسية المدوية، التي غيرت في شهر واحد ما ترسخ من حكم ديكتاتوري خلال عقود متتالية، سترغم جميع الأطراف الدولية والإقليمية على إعادة حساباتها، وقراءة الواقع والوقائع وفقا لمقاييس وأسس صحيحة، الشعوب، والأنظمة الديكتاتورية، والغرب المتغلغل بسلطانه في شرايين أوطاننا.
أدركت الشعوب البائسة بعد ما حدث في تونس أنها أقوى مما تتصور، فطول الأمد ومرور الزمن على جثوم الديكتاتور على صدر الشعب، قد يُنسي هذا الأخير قوته السحرية الكامنة، لكنه لا يلغي الحقيقة الأكيدة، وهي أن الشعوب –حتى وهي عزلاء من القوة المادية- أقوى من ظالميها، والأمة أبقى من جلاديها، ذلك أن الله الحكيم ما كان ليوقف مصير المجتمعات الإنسانية الواسعة على رغبات فرد لا يرى في المشهد سوى نفسه، ويعتبر من حوله فئرانا سائرة في فلكه أو ساعية لاختطاف الكعكة من بين يديه.
إن قطرات الماء تبدو ضعيفة حين يُنظَر إليها في صورة قطرات، لكنها هي نفسها البحر المائج الموار الذي تخشاه الغواصات، وتعمل حسابه حاملات الطائرات. وما قوى الشعب المتكاتف إلا هذا البحر الذي يمكنه أن يغرق أكبر ديكتاتور.
لقد أكدت الأحداث التونسية الأخيرة صدق معادلة "الثورة" في عقول وعواطف الشعوب المقهورة التي تتعرض ذاكرتها للعدوان والنسيان دائما، تلك المعادلة التي تقول: إن التضحية العاجلة ببعض الشرفاء في عزة خير من التضحية بالجميع في مدى زمني قادم لا محالة وفي ذلة.
لكن، هل تقدم جماهير تونس ونخبها الوطنية المخلصة على المدى الزمني القادم نموذجا متكاملا للنجاح الثوري، أم سيسرقون الثورة منها من جديد؟ ذلك هو رهان الأيام القادمة الذي تواجهه تونس.
وأكثر من ذلك يمكن للجماهير التونسية أن تفتتح في مسلسل الكفاح العربي والإسلامي مرحلة جديدة، تستعصي على الالتفاف حول حقوقها، وتتحرك بوعي في ساحة يكثر فيها من يسعى إلى وأد الحلم الذي هو من حق كل إنسان.
لو خاطبنا الأنظمة الحاكمة بلغة الوعظ –وهو بُعد لا ينبغي أن يخلو منه حديثنا "مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ"– فليس عليهم أكثر من أن ينظروا إلى ذل الرئيس المخلوع وتردد الطائرة به بين أجواء هذه الدولة وتلك حتى تقبل إيواءه، وقد كان بالأمس تفرَش له الفرش وتبسط له البسط في مطارات العالم.
وأشد مضاضة على النفس من هذا –إن كان ثمة بقايا إنسانية لم يهدمها الظلم والتسلط- هو تخلي الصديقين الفرنسي والأميركي عن حليفهما العتيد، وصار مَثَلُهم ومثله كما جاء في أصدق كلام "كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ".
الأنظمة الحاكمة في المنطقة لم تنتظر الحدث التونسي إلى نهايته حتى تنظر في حساباتها، فسارع بعضها إلى التدخل لكبح جماح الأسعار، وإتاحة مزيد من فرص العمل, وتحجيم التظاهرات الشعبية
"
والحق أن الأنظمة الحاكمة في المنطقة لم تنتظر الحدث التونسي إلى نهايته حتى تنظر في حساباتها، فسارعت الأردن والجزائر مع ظهور بعض الشرارات في شوارعها وخطاب نخبها إلى التدخل لكبح جماح الأسعار، وإتاحة مزيد من فرص العمل لمقاومة البطالة المتفشية، وتحجيم التظاهرات الشعبية.
وقد يعني هذا أن الشعوب في نظر حكامها المستبدين لا تثور إلا لأجل بطونها، وهي قراءة خاطئة ومبتسرة للحدث التونسي الذي افتتحه شاب أحرق نفسه احتجاجا على التضييق عليه في طلب لقمة عيشه؛ إذ إن هذا الحادث الصغير هو الذي وصل بالحال إلى وضع الغليان، وليس هو صانعه برمته، فقد كانت أسباب الاحتقان قد تراكمت من قبل خلال سنوات طويلة، وتنوعت معها صور المعاناة التي وفرت القابلية للاحتراق في انتظار السبب الصغير الذي يخرجه من القوة إلى الفعل.
وينتظر في الأيام القادمة أن نرى مزيدا من التأثير السياسي لقراءة الأنظمة الحاكمة في المنطقة للوضع التونسي الجديد، فتتجنب الحكومات الاقتراب من المثيرات التي تصدم الجماهير مباشرة، مثل رفع الأسعار، وتوريث الحكم، مع عدم تساهلها أمنيا مع الاحتجاجات والتظاهرات خوفا من اتساعها تحت شره الجماهير الباحثة عن الحرية والعيش الآمن.
وأحسب أن كثيرا من الأحداث السياسية الكبيرة التي شهدها العالم العربي سابقةً على الانفجار التونسي الأخير بقليل –مثل الانتخابات النيابية المصرية- لو تأخرت إلى ما بعد وقوع الانفجار، لتغيرت صورتها كثيرا.
لكن الفرصة لم تمض تماما على أية حال، فما زالت معركة الشعوب ضد سنة التوريث السيئة قائمة، وأحسب أن الأحداث ستؤثر بقوة على توجهات الأنظمة في تسويقها، وربما تدفعها إلى استبعادها من أجندتها تماما في المدى القريب على الأقل.
أكبر لصّ يمكن أن يسرق تضحيات الشعوب في سبيل حريتها واستقلالها هو القوى الدولية المستغلة، تلك التي تطمع دائما في أن تطوي العالم تحت جناحها. وليس هذا مجرد تخمين وتوقع، بل هو ما حدث بالفعل في مرحلة ما بعد الاستعمار، حيث كانت الاتفاقات السرية هي الراسم الأكبر لمعالم هذه المرحلة على حساب تضحيات الشعوب وآمالها.
وهذه الدول المساندة للدكتاتورية في المنطقة أمامها خياران في قراءة الحدث التونسي والسياسة المناسبة في التعامل معه ومع مجمل قضايانا السياسية:
الأول: هو أن تسعى إلى الالتفاف حول مطالب الشعوب، مع نصح الأنظمة الحاكمة بتوسيع هامش الحرية والديمقراطية الضيق، ومحاسبة بعض رموز الفساد الاقتصادي، وعدم المساس بلقمة العيش، حتى لا تصل الأمور إلى مستوى الانفجار الشعبي كما حدث في تونس. مع الاستعداد "الدولي" الدائم لمحاصرة الأنظمة الجديدة "المتمردة".
<!-- TOKEN -->
أكبر لص يمكن أن يسرق تضحيات الشعوب في سبيل حريتها واستقلالها هو القوى الدولية المستغلة، تلك التي تطمع دائما في أن تطوي العالم تحت جناحها
"
الثاني: أن تكف هذه الدول عن مساندة الأنظمة المستبدة، وتترك للشعوب حقها في تقرير مصائرها، اعتمادا على الحق الطبيعي للإنسان في إدارة مقدراته والانتفاع بها، وإقامة العلاقات مع الآخر وفقا لما يحفظ مصالح الأمة ويصون حقوقها.
وفي حال الاختيار الأول، لن نكون قد فعلنا شيئا سوى تأخير نقطة الانفجار إلى موضع متقدم على منحنى الزمن، وفي هذه الحال لن نشهد في المنطقة تساقطا للأنظمة كالذي جرى للشيوعية في شرق أوروبا، والتي تهاوت نظمها الحاكمة متتابعة عقب تفكيك الاتحاد السوفياتي في العشرية الأخيرة من القرن الماضي؛ لأن الحكومات الشيوعية كانت تخضع لمنظومة واحدة سقطت بسقوطها.
وأما المنطقة العربية، فيحكمها منطق آخر، وهو مركزية "نقطة اللاعودة" في أزمة النظام مع شعبه، وهي مسألة متفاوتة من دولة إلى أخرى، مع وضع عدوى الثورة في الحسبان.
ساحة النقاش