إن كل من يطالع أقوال المعارضين المحدثين للتصوف من سلفيين وغيرهم يلاحظ تأكيدًا دائمًا على اتهام الصوفية جميعًا، وتعميم الحكم عليهم بانتحال عقيدة وحدة الوجود والحلول والاتحاد، وأن هذا المعتقد يمثل حقيقة مذهبهم دونما استثناء، وبغير تفرقة بين غلاة ومعتدلين .

وهو ما يؤكده الوكيل من أن خلاصة دين الصوفية، وفكرها وخلقها: لا تقابل، لا تضاد، لا تناقض، إذ الكل ذات واحدة، هي ذات الله سبحانه(1).

        والمتتبع لكتابات عدد من السلفيين المحدثين، ولا سيما حامد الفقي، وعبد الرحمن الوكيل، وغيرهم يجد إلحاحًا شديدًا على إبراز هذا المعنى، والتأكيد على أن كلا من محيي الدين بن عربي، والسهروردي المقتول، وعبد الكريم الجيلي وأضرابهم من أصحاب التصوف الفلسفي، هم المتحدثون بلسان الصوفية، والمعبرون عن حقيقة مذهبهم، والمفصحون الموضحون لعقيدتهم دون مواراة أو تجمل، حيث جرأوا على التصريح بما لم يتجرأ عليه غيرهم من الصوفية (2).

ونحن سنأخذ هنا نموذجًا واحدًا هادئًا –إن صح التعبير- يعبر عن موقف المعارضين المحدثين للتصوف من مذهب وحدة الوجود وأصحابه، وهو الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وسنبعد عن ألفاظ الوكيل الصارخة ولهجته المستفزة، وخاصة عندما يتعرض لابن عربي ومذهبه، وأمثلة ذلك كثيرة، منها قوله:

" وتستخلص من هذا النص وحده دين ابن عربي كله. إنه يعتقد أن رب الصوفية يتجلى أعظم تجل له في صورة أنثى يهصر جسدها المستسلم حيوان ثائر الجسد. يعتقد أن العاشقين ينتهبان خطايا الليل، هما رب الصوفية!! ويلحف على العشاق عربدت بهم خمرة الأجساد من دنان الإثم أن يدينوا بأنهم كانوا مع الرب الصوفي ليلاً وخطيئة وغريزة ولذة!! فما استغرقوا في اللذة بأنثى، بل بالرب المتجسد الخطايا في أنوثة عصفت بها الرذيلة!!..."(3). وسنشير إلى ما يقابل ذلك في كتبه، وكتب غيره.

يذكر عبد الرحمن عبد الخالق أن المتصوفة قد نقلوا عقيدة وحدة الوجود عن الفلسفة الأفلاطونية، وأنهم قالوا بما قاله هؤلاء الفلاسفة في نظرياتهم في بدء الخلق واعتقدوها وجعلوها هي الحقيقة الصوفية وسر الأسرار، ثم يؤكد أن أوائل الصوفية مثل: الجنيد والشبلي والبسطامي والحلاج قالوا بها، حتى جاء أواخر القرن السادس الهجري، وبداية القرن الذي يليه فشهد رجلاً عجيباً استطاع أن يصوغ هذه العقيدة صياغة كاملة، ويضرب لها آلاف الأمثلة، ويبني عليها فروعها المختلفة في الاعتقاد والتصور، ويؤلف فيها عشرات الكتب .

ثم تحدث عن الملامح العامة لمذهب ابن عربي كما جاءت في فصوصه وفتوحاته، وذكر أن ابن عربي ادَّعى بأن كل ذلك قد نقله بلا زيادة ولا نقصان عن الرسول الذي أمره بتبليغ ذلك للناس، وبالرغم أيضاً من كل ذلك فقد وجد هذا الرجل من المروجين والأتباع ما لا يقع تحت الحصر منذ ظهوره إلى زماننا هذا، ومن أمة الإسلام الذين يشهدون في كل يوم مرات كثيرة بأن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهذا من أعجب العجب (4).

ثم يتتبع ابن عربي - أو كما يسميه " الشيخ الأكفر " - وأقواله التي يكفي في إبطالها أن تتصورها تصورًا صحيحًا، فهي على حد قوله لا تحتاج إلى رد يبطلها، فهو على حد قول عبد الرحمن عبد الخالق يتبع أسلوب الثعالب في اللف والدوران والمراوغة، وأسلوب الاستفزاز لكل مؤمن، والنيل من عقيدة الإسلام بكل احتقار واستهزاء، فأشار إلى أن السلف الصالح فهم من اسم الله (العلي) بأنه العلو الحقيقي المستلزم مباينته تعالى لخلقه، والعلو المجازي الذي هو علو المكانة، وهذا عكس ما فهمه ابن عربي من هذه الصفة، وطبقها حسب عقيدته الباطلة في فصوصه.

ثم اتهم ابن عربي بأنه قد نقل عبارات الفلاسفة الأقدمين في العقل الأول والعقل الفعال وغيرها إلى الفكر الصوفي، واستبدل بدلاً من العقل الفعال عند الفلاسفة ما أسماه هو الحقيقة المحمدية، وأنه يلوي الحقائق ويلبس على المسلمين، وينقل لهم كلام الفلاسفة الملحدين في أسلوب جديد بغطاء إسلامي وآيات قرآنية، وأنه جعل هذه العقيدة الإلحادية هي العقيدة الأساسية التي قام الفكر الصوفي كله بعد ذلك عليها.

ونحن نرفض هذا التعميم ، ونذكِّر بأن ليس كل ما في كتب الصوفية لهم؛ لأنها لم تسلم من حملات الدس والتحريف، ولو ثبت بطريق صحيح عن بعض الصوفية كلام مخالف لحدود الشريعة، فنقول : ليست كلمة فرد واحد حجة على جماعة، شعارها ومذهبها التمسك بالكتاب والسنة الشريفة .

ثم أخذ يشرح أن المقصود من الحقيقة المحمدية عند أصحاب وحدة الوجود : أن محمدًا (صلى الله عليه وسلم) هو البذرة الأولى لكل موجود فكأنه بذرة لشجرة كان منها بعد ذلك الساق والفروع والأوراق والثمار والأشواك، فهكذا بدأ الوجود بمحمد، ثم خلق من نوره العرش والكرسي والسماوات والأرض وآدم وذريته، وتفرع الخلق وتدرج بعد ذلك من المخلوقات التي خلقت من نور النبي، فالموجودات كلها في عقيدة التصوف شيء واحد متفرع عن أصل واحد أو قل شجرة متفرعة عن بذرة واحدة. وإليك الآن نصوص عبارات هؤلاء الملاحدة الكافرين في هذه العقيدة الكفرية الزندقية ... (5).

ثم نقل نصوصًا مطولة من شرح القاشاني لفصوص الحكم لابن عربي، ونصوصًا لأحمد بن مبارك السلجماسي في كتابه الإبريز فيما يرويه عن شيخه الدباغ، ونصوصًا للجيلي تبين عقيدة القوم في الحقيقة المحمدية.

أما وحدة الأديان فهي نتيجة منطقية لصورة العقيدة الباطنية التي سعى الصوفية إلى غرسها وبنائها، وأنها التحقق - في زعمهم - من أن الموجودات ما هي إلا مظاهر لحقيقة واحدة هي الله، وأن الأفعال لا تتفاضل ولا تتناقض إلا بالنظر إلى الخلق، وأما بالنظر إلى الله الفاعل الحقيقي، فإنما هي شيء واحد يدل على ذات واحدة .

وبهذه العقيدة هدموا جميع الأديان، وأبطلوا جميع الشرائع واستحلوا كل المحرمات، وهذا الذي أقرره هنا لا أقرره أيضاً استنباطاً واجتهاداً، وتحميلاً لألفاظ القوم ما لا تحتمل، فقد مر بك بيت الشعر المنسوب إلى ابن عربي:

عقد البرية في الإله عقائداً             وأنا اعتقدت جميع ما اعتقدوه(6).

ولسنا بحاجة لأن نستعرض تفصيلاً نقدهم للبدع والضلالات عند منحرفي الصوفية، وخاصة أصحاب وحدة الوجود، فكتبهم مليئة بهذا الأمر حقيقةً من البدع الاعتقادية كالقول بالحلول والاتحاد ووحدة الوجود، أو البدع العملية كالذكر بكيفيات معينة، والعبادات المبتدعة، والزهد المذموم، وتعظيم القبور والأضرحة، سواء قالوا بالدسِّ عليهم في كتبهم أو لم يقولوا.

والذي يهم هنا هو رفض تعميمهم وجعله وصفًا لازمًا للتصوف ، والصوفية جميعًا ، فلا يخفى ما في هذا التعميم من نظر، وقد وصل بهم الأمر إلى اتهام كل صوفي بأنه قائل بوحدة الوجود، دونما فرق بين القدامى والمعاصرين، وكل ذلك من المبالغة غير المقبولة، ولا شك أن مثل هذه النظرة التي رادفت ما بين التصوف ووحدة الوجود، وجعلت من الأمرين شيئًا واحدًا، أو بمثابة وجهي العملة، كانت من أبرز الأسباب التي ضاعفت من عداوة أغلب السلفيين المحدثين للتصوف والصوفية.

وجملة القول أن نكرر ونذكِّر: إن الميزان الحاكم لذلك كله ، هو مدى الموافقة أو المخالفة لكتاب الله، وسنة رسوله (صلى الله عليه وسلم) .

 


(1) عبد الرحمن الوكيل: هذه هي الصوفية، ص 174، ومقدمة عبد الرحمن عبد الخالق: الفكر الصوفي في ضوء الكتاب والسنة .

(2) د/ أحمد قوشتي: الاتجاه السلفي بمصر في العصر الحديث موقف من التصوف، ص 71، بحث مقدم للمؤتمر الدولي العاشر للفلسفة الإسلامية بكلية دار العلوم، 2005م.

(3) عبد الرحمن الوكيل: هذه هي الصوفية، ص 40 .

(4)  عبد الرحمن عبد الخالق: الفكر الصوفي ، ص 106 – 107، وقارن الوكيل: هذه هي الصوفية، ص34- 39، 52- 56، وغيرها، مصطفى درويش: الزحف الصوفي الأحمر على عقائد الإسلام وأمته، ص 9- 13، مجلة الهدي النبوي، عدد(14) مجلد (39) سنة 1399هـ.

(5)  عبد الرحمن عبد الخالق: الفكر الصوفي، ص 211- 212 ، وقارن الوكيل: هذه هي الصوفية 72- 86، د/ غازي: الصوفية والوجه الآخر ص37 وما بعدها.

(6)  عبد الرحمن عبد الخالق: الفكر الصوفي، ص 313 ، وقارن عبد الرحمن الوكيل: مصرع التصوف، ص 99، هذه هي الصوفية، ص 93- 98، د/ غازي: الصوفية والوجه الآخر ص13 وما بعدها.

المصدر: د/ مصطفى فهمي: رسالة دكتوراه-كلية دار العلوم-جامعة القاهرة
Dr-mostafafahmy

د/ مصطفى فهمي ...[ 01023455752] [email protected]

ساحة النقاش

مصطفى فهمي

Dr-mostafafahmy
فلسفة الموقع مهتمة بتحديد طريقة الحياة المثالية وليست محاولة لفهم الحياة فقط. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

454,829