كشفت دراسة أجرتها منظمة الصحّة العالميّة أن 12.5% من تلامذة المرحلتين الابتدائية والإعدادية في مدارسنا العربية مصابون بضعف البصر الشديد، وعلى رغم ذلك يجلسون مع زملائهم الأصحاء داخل الصفوف نفسها.
مستقبل هؤلاء التلامذة مهدّد بالخطر في ظل عدم توافر مدارس متخصصة لهم، وغياب الصفوف الخاصة بهم في المدارس العاديّة. فإما أن يصابوا بالعمى وإما أن ينضموا إلى مدارس المكفوفين.
{الجريدة} تنقل تفاصيل هذه المعاناة على لسان بعض أولياء الأمور، وتقدّم نصيحة الخبراء حول التعامل الأمثل مع التلامذة ضعفاء البصر حفاظاً على مستقبلهم.
في هذا السياق، يقول والد الطفلة بسمة أحمد مصطفى (6 أعوام) التي تعاني من ضعف بصر شديد: {رأى بعض الأطباء أن حالة بسمة وراثية، فيما لم يشر آخرون إلى هذا السبب. وبعد علاجات كثيرة وجد الأطباء أن ابنتي ستعاني من هذه الحالة مدى الحياة، ونصحوني بإخضاعها إلى تدريبات بصرية لتتعرف إلى الأشياء وتنشيط المراكز البصرية في المخ}.
يضيف: {ذهبنا إلى جمعية أهلية تقدّم هذه الخدمة، وبعد فترة من التدريبات بدأت حالة بسمة تتحسّن حتى على المستوى النفسي، لكن المشكلة أخذت في التزايد عندما بلغت ابنتي عامها السادس فقررت إلحاقها بإحدى المدارس، وعلمت أن حالات كثيرة تشبه حالتها أُلحقت بمدارس للمكفوفين، وعلى رغم أنني كنت رافضاً للفكرة من البداية، فكيف نحكم على طفلة ترى النور بأن تغلق عينيها وتعيش في الظلام؟ إلا أنني في النهاية وجدت نفسي مجبراً على إدخالها مدرسة للمكفوفين، وإلا لن تتعلم}.
أما إيمان فتحي (30 عاماً) فتوضح: {تزوجت من ابن عمي ورزقت بثلاثة أطفال يعانون من ضعف البصر الشديد. ذهبت بهم إلى الجمعيات الأهلية وبدأت في تدريبهم على القراءة والكتابة والتعرف إلى الألوان بواسطة الميكروسكوب والعدسات المكبرة، واستمر الوضع إلى أن بلغ أحد أبنائي سن الالتحاق بالمدرسة. وفعلاً تمكنت من إدخاله مدرسة عادية تجاور منزلنا، لكنه أخذ يشتكي من عدم رؤيته الكتاب المدرسي إلا بواسطة عدسات معينة يحملها معه في حقيبته، وعندما يخرجها يسخر زملاؤه منه. بعد فترة رفض الذهاب إلى المدرسة فلجأت إلى طبيب نفسي وبدأ معه جلسات علاجية إلى أن عاد إلى المدرسة، لكن استيعابه ضعيف مقارنة بزملائه، وهو في حاجة إلى كتب خاصة (مكتوبة بخط كبير)}.
وتضيف إيمان: {رفضت ابنتي الثانية تماماً الذهاب إلى المدرسة، على رغم أنني أعرضها على معالج نفسي دائماً، فهي تقول ألا أصدقاء لها في المدرسة}.
وتشير إيمان إلى أنه لا بد أن يعمد المسؤولون في المدارس إلى تشكيل صفوف خاصة بضعفاء البصر، موضحة أنها رفضت أن يلتحق أبناؤها بمدرسة للمكفوفين لأنها لا تقبل أن تحكم عليهم بالعمى مدى الحياة.
المركز الأول
يحصل الطفل في الصف الأول الابتدائي باسل ياسر حمدي على المركز الأول بين زملائه، على رغم أن المدرسة ليست مخصصة لضعفاء البصر. حول حالته يوضح والده: {مشكلة باسل بدأت مذ كان عمره سنة ونصف السنة. آنذاك بدأت أشعر أن ابني لا يرى الأشياء بوضـوح فلجأت إلى الأطباء وعرفت أنه يعاني مرضاً وراثياً، علماً أن ابنتي الكبرى لا تعاني من هذا المرض. نصحني الأطباء بدفع ابني إلى الاختلاط بأطفال أصحاء كي لا ينمو وهو يشعر بالوحدة، فأدخلته الحضانة، ثم بدأ يشكو من أنه لا يرى الكلمات على اللوح. نصحني الطبيب باللجوء إلى جمعية أهلية خيرية تعتني بأطفال يعانون من هذه الحالة وتوفر لهم الأجهزة اللازمة. ذهبت إليها فوجدت أن الخبراء فيها يدربون الأطفال على الرؤية الصحيحة، وعلى استخدام التلسكوب والعدسات المكبرة لرؤية اللوح والقراءة}.
يقول والد باسل أن ابنه حصل في نهاية التدريب على تلسكوب من الجمعية، التي دربته هو أيضاً على كيفية التعامل مع ابنه وتقديم الدعم النفسي إليه.
لكن عند دخوله الصف الأول الابتدائي بدأت معاناة باسل النفسيّة، لأن التلامذة رفضوا صداقته وسخروا منه، لأنه يحمل التلسكوب ليرى {السبورة}، أمّا والده فدعمه نفسياً وساعده في الدراسة إلى أن أصبح من المتفوقين، وبدأ يحصل على المركز الأول، وشكّل صداقات مع زملائه.
يذكر والد باسل والحسرة واضحة على وجهه: {على رغم النجاح الذي حققه ابني كنت أتمنى أن يدرس وسط زملاء يعانون من المشكلة نفسها، ويحظون بمدرسين يعرفون المشكلة وكيفية التعامل معها}.
في سياق متصل، يقول والد يوستينا عصام عزمي (تلميذة في الصف الثالث الابتدائي): {ورثت يوستينا هذه الحالة، لكنها على رغم ذلك تتميّز بذكاء شديد وحب للحياة، ما دفعني إلى إدخالها مدرسة عادية، وهي الآن متفوقة ولديها أصدقاء، لكن لا أعلم كيف ستسير الأمور مستقبلاً... هل سينتهي هذا التفوق؟}.
أما عائشة نبيل عباس (تلميذة في الصف الثاني الإعدادي) فتقول: {لم أكن أعاني من شيء قبل عام. كنت في مدرسة عادية ولدي أصدقاء، لكن في العام الماضي وبشكل مفاجئ شعرت بضعف في البصر وذهبت إلى أحد الأطباء وأخبرني أنني أعاني ضعفاً شديداً في البصر، لأسباب وراثية. أصبحت لا أرى }السبورة{ ولا الكتب المدرسيّة إلا بالتلسكوب المكبر الذي أحمله في الحقيبة. هذا العام حدثت لي أكثر من مشكلة، من بينها مثلاً أنه في إحدى المرات طردني أستاذ اللغة العربية من الصف لأنني أخرجت التلكسوب من الحقيبة بينما كان يكتب على اللوح. كذلك ابتعد عني زملائي كلهم وانخفض مستواي الدراسي}.
د. بشيرة محمد البيومي استشارية العيون والتأهيل البصري، ومشاركة في الدراسة التي قامت بها مؤسسة {النور} الخيرية ومنظمة الصحّة العالميّة عن ضعفاء البصر، وتعلّق حول هذه المشكلة: {هذه الفئة قادرة على القراءة والكتابة بالخط العادي، وعن طريق استخدام المكبرات والنظارات، أو بعد تكبير المواد المطبوعة بأحرف كبيرة. وقد أجرينا مسحاً أولياً للوقوف على معدل انتشار العيوب الإنكسارية وضعف الرؤية لدى التلامذة بين السبعة أعوام و14 عاماً، وأخذ الخبراء عينة من المدارس الحكومية، وبعد عدد من الاختبارات تبين أن معدل انتشار هذه العيوب (حدة الإبصار أقل من 6/18) يبلغ 12.5%، وأن معدل انتشار ضعف الرؤية يبلغ مستواه الأعلى بين تلامذة المدارس الإعدادية، وووصلت نسبة ضعف البصر لدى الإناث إلى 21.4% في مقابل 13.6 لدى الذكور}.
وتشير د. بشيرة أن الدراسة أوصت بإجراء مسح للأطفال قبل دخولهم المدارس، قائلة: {لا بد من الاكتشاف المبكر لهذه المشكلة لدى الأطفال لمنحهم حقهم في الحياة على المستويين النفسي والاجتماعي من خلال التدريب المستمر على مهارات القراءة، لأن عدم استخدام العين سيؤدي إلى إتلافها والإصابة بالعمى}.
وتوضح الدكتورة أن ضعف البصر الحاد مرض وراثي وأعراضه تتمثل في إحمرار العين الدائم، وكثرة الدموع والإفرازات البيضاء من العين، وظهور عيوب واضحة في العين كالحول، بالإضافة إلى ذبذبة اهداب العين السريعة والمتكررة، وصعوبة التمييز بين الألوان.
والأعراض كافة قد تلاحظها الأم، ولا بد أن تأخذها بعين الاعتبار لتدريب الطفل من البداية على استخدام المعينات البصرية.
بدوره يشير د. سليمان عارف (استشاري العيون والمدير التنفيذي للمؤسسة التي شاركت في الدراسة) إلى طرق عدة لتعليم ضعفاء البصر، ويقول إن {أفضلها يكمن في دمجهم في المجتمع، بالإضافة إلى توفير اللوازم الخاصة بهم وتدريب المدرسين للتعامل معهم بطريقة جيدة، خصوصاً أن عدد ضعفاء البصر في مصر والعالم العربي عموماً ليس قليلاً، إذ تشير الإحصاءات العالمية إلى أن عدد المصابين بصرياً في العالم 161 مليون شخص، وأن نسبة 80% من هؤلاء موجودة في الدول النامية، ما يشكّل عبئاً اقتصادياً}.
ويؤكد د. عارف أنه لا بد من الاستفادة من هذه القوى ودمجها في المجتمع، خصوصاً أنها لم تحظ بأي اهتمام قبل بداية القرن العشرين من خلال برامج تربوية خاصة، إذ كانت تلتحق بمدارس المكفوفين للتعلّم بطريقة {برايل} تماماً كما يفعل المكفوف.
ويضيف: {الاهتمام بضعفاء البصر بدأ من خلال جهود طبيبي العيون الإنكليزيين جيمس كير وبشوب هيرمان، عندما وجدا عدداً كبيراً من التلامذة المبصرين ملتحقاً بمدارس للمكفوفين، فقدما تقارير عدة في المؤتمرات أكدا فيها ضرورة الاهتمام بهذه الفئة قبل فقدانها البصر. بناء على ذلك أُفتتح أول صف لتعليم ضعفاء البصر في بريطانيا عام 1908، وتم توسيعه بعد ذلك}.