عرف العالم على مدار التاريخ مكفوفين كانوا أكثر قدرة على إبصار المستقبل من المبصرين، ولم يكن فقد البصر عائقًا أبدًا أمام أسماء كثيرة من المكفوفين الذين قدموا للعالم إضافات معرفية وفكرية لا حصر لها.. سواء في العالم العربي والإسلامي أو حتى خارجه، فطه حسين هو أحد عظماء المكفوفين الذين أناروا لأجيال كثيرة منارات من العلم، والشيخ عبدالعزيز بن باز الذي تولى رئاسة لجنة الإفتاء بالمملكة العربية السعودية، ولويس برايل الذي اخترع أبجدية خاصة للمكفوفين وغيرهم الكثير.. وهذا دليل على أن فقد البصر لم يكن عائقًا في طلب العلم أو المعرفة، وهو ما يتفق معه د.عبدالباسط عزب، رئيس جمعية الكفيف العربي، إلا أنه يقول إن الاهتمام الثقافي والاجتماعي بالكفيف على المستوى الرسمي لا يحظى بالاهتمام الكافي، بالرغم من أن هناك دولا عربية تحرص على دعم وتأهيل الكفيف بشتى الصور، إلا أن الكفيف لا يزال يعاني من التهميش والتجاهل، والدليل على ذلك ما نراه في الأفلام لوضع الكفيف وشخصيته، حيث يظهر عديم الثقافة وشخصية منقادة وتابعة ومستهترة، وطالب بتفعيل القوانين الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة والاهتمام بهم ثقافيا للارتقاء بهم وبالمجتمع، وأن تقوم الجهات الرسمية بدورها في ذلك.
يشير عزب إلى أن مؤسسات المجتمع المدني المعنية بالكفيف لا تتلقى الدعم الكافي من الجهات الرسمية، وتعتمد على جهودها الذاتية في الاهتمام ورعاية الكفيف اجتماعيا وثقافيا، وعلى سبيل المثال فمن خلال جمعية الكفيف العربي الذي يتولى هو رئاستها تعمل الجمعية على تثقيف الكفيف من خلال توفير الكتب المتنوعة المطبوعة بطريقة برايل، كما توفر دورات تدريبية وتثقيفية لتأهيل الكفيف ثقافيا، كما تتعاون الجمعية مع قناة العطاء الفضائية الكويتية الخاصة بذوي الاحتياجات الخاصة في تسليط الضوء على وسائل الارتقاء بمهارات المكفوفين من خلال تخصيص برنامج بعنوان نجوم العطاء للمكفوفين في كل الدول العربية، من خلال إقامة مسابقة في لعبة كرة الجرس ويحصل الفائزون على جوائز مالية كبيرة، هذا بالإضافة إلى العديد من المسابقات الثقافية الخاصة بالمكفوفين والتي تستلزم العمل على تنمية مداركهم الثقافية في شتى المجالات، وهو ما يحتاج إلى وعي مجتمعي وتنشيط الجهات الرسمية ومؤسسات المجتمع المدني؛ لتحقيق هدف تثقيف الكفيف واعتباره عضوًا فاعلاً في المجتمع يستحق الاهتمام وليس التهميش.
جهود شخصية
وتؤكد سناء البدوي، وهي أول وكيلة مدرسة كفيفة في العالم العربي وتشغل منصب وكيلة مدرسة شبرا باخوم الثانوية بنين بمحافظة المنوفية في مصر، أنه لا يوجد اهتمام نهائي بثقافة الكفيف، وحتى إذا أراد الكفيف تثقيف نفسه فلن يجد أمامه إلا الاعتماد على مجهوده الشخصي، فجميع المؤسسات بما فيها وزارات التربية والتعليم والهيئات الثقافية التابعة للحكومات لا تهتم بوضع برامج لتثقيف الكفيف، وحتى إن كان هناك خطط موضوعة بالفعل فهي غير مفعلة وغير مطبقة على أرض الواقع، كما أن بعض الجامعات العربية التي أنشأت مكتبات صوتية للمكفوفين لا تزال خدماتها قاصرة على طلاب الجامعة فقط، وهذا يتسبب في شعور الكفيف بنبذ المجتمع له وتمييز الأصحاء عليه.
تؤكد سناء أنه كان يوجد في الماضي اهتمام بتثقيف الطلاب المكفوفين، حيث كان يتم طبع كتب ثقافية غير تعليمية.. وتطالب سناء الحكومات بضرورة الاهتمام من جديد بطباعة الكتب المتنوعة والتي تحمل ثقافة حقيقية للكفيف بطريقة برايل، حتى لا يشعر الكفيف بتهميش المجتمع له وتخلفه الثقافي عن الأصحاء، ولا بد من تكاتف الجهود وتعاون جميع الجهات والهيئات لتوفير الثقافة للكفيف بأسلوب يدركه ويتفاعل معه، حتى نخلق منه عضوًا فاعلاً في المجتمع.
أما الفنان التشكيلي والمرشد الأثري الكفيف أحمد ناجي، فيقول إن اهتمام المؤسسات الرسمية قاصر على الأنشطة التي يتم تسليط الإعلام عليها فقط، ويقول ناجي إن وزارات التربية والتعليم في الدول العربية تهتم بتوفير الكتب بطريقة برايل والكتب الصوتية للمكفوفين، أما في المرحلة الجامعية فلا يوجد اهتمام مطلقا إلا أخيرا، حيث كان الاعتماد على النفس فقط للتثقيف والتحصيل العلمي، وقد بدأ اهتمام الجامعة بثقافة الكفيف منذ عام 2005، وهناك بعض المراكز الثقافية تعمل على توفير الكتب المطبوعة والسمعية للكفيف، كما تقوم بعض الهيئات الثقافية بالعمل على تقديم منتج ثقافي للكفيف رغم عدم وجود إمكانيات كافية أو كبيرة لتقديم منتج ثقافي قوي للكفيف، إلا أن ناجي يعتبر أن هذه الجهود غير كافية لتثقيف الكفيف، حيث إن هذه المراكز تهتم فقط بتوفير نوعية محددة من الكتب دون مراعاة لما يطلبه الكفيف أو يبحث عنه من كتب لإشباع رغبته الثقافية.
من ناحيته أكد محمد زغلول عبدالحليم، مستشار رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة للتمكين الثقافي لذوي الاحتياجات الخاصة في مصر، أن الإدارة بصدد إصدار أول كتاب مسموع للمكفوفين حاليا، حيث يتم حاليا الانتهاء من تسجيل كتاب (قصص العرب) وهو موسوعة ضخمة نسبيا تقع في أربعة أجزاء تأليف محمد علي البيجاوي وآخرين، وتم إنجاز ثلاثة أجزاء منها وجاري تسجيل الجزء الرابع، يقوم بتسجيلها الشاعر سيد علي عبدالله وسوف توضع على قرص مدمج CD، بالإضافة إلى أنه يتم حاليا تسجيل دواوين شعرية من إبداعات الشباب؛ منها ديوان (في العارضة)، وديوان (شوارع هس) تأليف الشاعر ناصر صلاح، ومن المقرر أيضا تسجيل الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر علي محمود طه وكتاب (فقه اللغة) وكتاب (المدنية في الإسلام) وكتاب (أخبار أبي تمام).
دورات تأهيلية
يضيف زغلول أنه غير مبصر وكان وكيلا لمديرية ثقافة القاهرة، وعندما تم التفكير في إنشاء لجنة معنية بذوي الاحتياجات الخاصة تقدم بخبرته في هذا المجال، وقد أنشئت هذه اللجنة في شهر أبريل عام 2009 بهدف تبصير المجتمع بما يحتاجه ذوو الاحتياجات الخاصة من اهتمام مجتمعي وإلقاء الضوء على ما تحتاجه هذه الفئة ثقافيًا على وجه الخصوص، ومنذ نشأة اللجنة تم إنجاز عدد من الفعاليات الثقافية منها إقامة مؤتمرين على مدى عامين متوالين؛ الأول في ديسمبر 2009 تحت عنوان (ثقافة التواصل بين المجتمع وذوي الاحتياجات الخاصة)، والثاني في ديسمبر الماضي تحت عنوان (ذوو الاحتياجات الخاصة في المجتمع المصري.. تحديات الواقع وآفاق المستقبل) كما تم عقد دورة تأهيلية للإعلاميين الراغبين في التواصل والتعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة، بالإضافة إلى ملتقى ثقافي لمناقشة قضية الزواج لذوي الاحتياجات الخاصة من بعضهم البعض أو من المجتمع الخارجي، وتحويل السلاسل والإصدارات الثقافية بالهيئة إلى كتب مسموعة بأصوات قراء متطوعين لتتاح للمعاقين بصريا.
أكد زغلول أن وضع ذوي الاحتياجات الخاصة في المجتمع يحتاج إلى رعاية وعناية كبيرة، فيجب أن يتقبلهم المجتمع كي يندمجوا وينخرطوا بين أفراده، وأن يشركهم المجتمع في فعاليات الحياة اليومية، وأن يستفيد من بعض طاقاتهم ومهاراتهم وقدراتهم العقلية والثقافية والفكرية والإبداعية وما إلى ذلك..
وأوضح أن مؤسسات المجتمع المدني العربية لم تكن تقوم من قبل بدورها تجاه ذوي الاحتياجات الخاصة. أما د.رشاد عبداللطيف، نائب رئيس جامعة حلوان السابق وأستاذ تنظيم المجتمع بكلية الخدمة الاجتماعية المصرية، فـأكد ضرورة الاعتراف بأن هناك تقصيرًا من المؤسسات الثقافية سواء الرسمية أو الخاصة في الاهتمام بثقافة الكفيف وتوفير ما يلزم لتنمية وعيه الثقافي، وهذا ما تسبب في وضع اجتماعي وثقافي متردٍ للمكفوفين، وطالب بضرورة اعتماد سياسات إصلاحية عاجلة للاهتمام بهذه الفئة، خاصة وأن المحاولات التي يتم تنفيذها منذ سنوات ثبت أنها غير كافية ولا تؤدي الغرض منها، مؤكدا أن الاهتمام بذوي الاحتياجات الخاصة بشكل عام والمكفوفين بشكل خاص في المجتمع هو معيار تقدم المجتمعات الحديثة، فلا يجب أن يقتصر الأمر على تقديم الخدمات فقط، بل لا بد من استثمار طاقاتهم وإمكانياتهم ليصبحوا أداة فعَّالة في تنمية المجتمع، وهي قضية حقوق إنسان نصت عليها وأكدتها الأديان وأقرتها المنظمات الدولية ودساتير دول العالم.
وطالب عبداللطيف بضرورة وجود إحصاء دقيق لعدد ذوي الاحتياجات الخاصة، خاصة المكفوفين في مصر حتى يتسنى وضع برامج رعاية متكاملة على المستوى القومي وتفعيل الخطة التي وضعت في التسعينيات لهذا الغرض، والتي استهدفت توفير الأنشطة الرياضية والترفيهية والتعليمية والدعم المادي والتأهيل المهني والتكنولوجي، خاصة وأن الكثير منهم أثبت جدارته في استيعاب التكنولوجيا الحديثة إذا توفر له التدريب والتعليم اللازمان. كما طالب بوضع إستراتيجية قومية لرعاية وتأهيل المكفوفين يساهم فيها رجال الأعمال والأكاديميون وتتولى تنفيذها أجهزة الدولة المختلفة كل في مجاله؛ لرعاية هذه الفئة بشكل متكامل.
مواثيق وقوانين
أعربت د.عزة كريم، الخبيرة بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، عن استيائها من موقف المجتمع بمؤسساته وهيئاته المتمثل في عدم الاهتمام الكافي بفئة قدر لها فقدان 20 ٪ من قدراتها ولكنها تملك 80 ٪ منها وقد نجحت بهذه النسبة وتفوقت على المبصرين في مجالات عديدة استطاعت تثقيف نفسها وإثبات تفوقها.
وطالبت كريم بضرورة أن نتكاتف جميعا للعمل على وجود عالم خالٍ من التهميش للكفيف، وتكوين رأي عام داعم لقضية الإعاقة بوجه عام والبصرية منها على وجه الخصوص، وتفعيل جميع المواثيق المحلية كقوانين الإعاقة الصادرة في كل دولة على حدة والإقليمية كالعقد العربي الخاص بالمعاقين (2004: 2013) والدولية كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان والاتفاقية الدولية الخاصة بحماية حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة، والتي وقِّعت وصدقت عليها أكثر من 16 دولة عربية من بينها مصر، والعمل على تبني مشاريع ثقافية تراعي حالة الكفيف وتعمل على تثقيفه كما يريد هو وليس كما نريد نحن، وهذا أبسط حق من حقوقه.