النهضة العلمية والفكرية في مصر
في النصف الأول من القرن التاسع عشر
أ.د. السيد محمد الدقن
ارتبط ظهور النهضة العلمية والفكرية في مصر في النصف الأول من الفرن التاسع برغبة محمد علي في بنااء دولة حديثة على النمط الأوربي؛ لكي يحقق أغراضه في التوسع والسيطرة والوقوف في وجه أي اعتداء من الغرب، فاتجه منذ توليه حكم مصر إلى الأخذ والاقتباس من الغرب؛ فأرسل البعوث إلى أوربا واستقدم الخبراء الأوربيين إلى مصر، وصحب هذا كله اقتباس العلوم والاختراعات والنظم الحربية والاقتصادية والإدارية.
ولكي يستقيم هذا الاقتباس اقتبس نظام التعليم الحديث أيضا؛ لأن التعليم هو حجر الزاوية في كل برنامج إصلاحي، ولا يمكن لأية نهضة من النهضات أن تقوم قومتها وتؤتي ثمارها ما لم تتخذ التعليم سندا لها، ولم تغب هذه الحقيقة عن محمد علي، فشرعت الحكومة في إنشاء المدارس المختلفة العالية والتجهيزية(الثانوية) والابتدائية، على أن هذا التنوع في المعاهد العليا كان بحسب حاجات الدولة، فقد أنشئت إلى جانب المدارس الحربية مدارس أخرى لتخريج المهندسين والأطباء والبيطريين والصيادلة والمترجمين والفنيين في مختلف الصناعات.
ومن الأعلام الذسن انتظموا في هذه المدارس وذاع صيتهم بعد ذلك رفاعة رافع الطهطاوي المؤرخ والمترجم، الذي كان رائد حركة فكرية، وإم لم تثمر على يديه إلا أنه شهد تباشيرها في أخريات أيامه، عندما تهيأت العقول لتقبل حركة الإصلاح، وأخذت البلاد تسلك سبيلها إلى الثورة السياسية والفكرية والاجتماعية، فقد ذهب رفاعة إلى باريس مأمام لأول بعثة تعليمية كبرى أوفدها محمد علي إلى فرنسا سنة 1826 م، ولميكتف بوظيفة الإمامة، بل نهل من علوم الفرنسيين وأنظمتهم، وأدرك ما لم يدركه المبعوثون أنفسهم من بعد الصيت وحفاوة التاريخ، فكتابه "تخليص الإبريز وتلخيص باريز" كان دعوة للارتقاء أكثر من وصف رحلة وكان منهاجا للنهوض أكثر منه تعريف بأمة بعيدة، كما كان بشيرا بالبعث الوطني الجديد، فقد تحدث عن ثورة الفرنسيين 1830 م وأسبابها ودوافعها، وعن نظام الحكم في فرنسا والدستور الفرنسي ودلالة ذلك على حرص الشعب الفرنسي على حقوقه، وكأن رفاعة بذلك أراد أن يقول أن الأمم الراقية هي التي تحكم نفسها بنفسها، وأن حرص الأمة على حقوقها يحميها من عسف الحاكم وبطش السلطان، وبجانب أثر رفاعة في النهضة القومية فقد ظهرت آثاره الفكرية والعلمية واضحة، عندما قام بحركة ترجمة من الفرنسية في كافة فنون الطب والهندسة والحربية والتاريخ والجغرافيا، كما كان صاحب اقتراح إنشاء مدرسة الألسن التي تخرج فيها جيل من المترجمين الذين ترجموا ما يربو على ألفي كتاب.
وبجانب رفاعة، كان هناك بعض أعلام هذه النهضة الفكرية مثل علي البقلي الطبيب و محمد بيومي العالم الرياضي، و على مبارك المهندس الذي قدر له أن يقوم بدور عظيم في النهضة العلمية في عهد اسماعيل.
وجدير بالذكر أن نزعة محمد علي الاستبدادية ورغبته في الحكم الفردي المطلق، جعلت هذه النهضة الفكرية لا تؤتي ثمارها المرجوة من ناحية أثرها على الحركة الوطنية في عهده، كما أن ارتباط إنشاء هذه المدارس -في عهد محمد علي- بحاجة الدولة من الموظفين والغنيين جعل هذه المدارس تتعرض في عددها وعدد تلاميذها للزيادة والنقصان تبعا لحاجة الدولة؛ الأمر الذي ترتب عليه نكسة في التعليم في أواخر عهد محمد علي وخلفائه إذ أعلقت معظم هذه المدارس في أواخر عهده، واستمر جمود النهضة العلمية طوال عهدي عباس وسعيد إلى انبعثت من جديد في عهد اسماعيل.
ساحة النقاش