التاريخ علم أم فن
مع نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين دار نقاش كبير حول التاريخ، وعما إذا كان علما أم فنا؟، ولقد استمر هذا النقاش واستغرق وقتا طويلا في أوروبا، وخاصة في ألمانيا، وكان الناس في العصور الوسطى يعتبرون التاريخ فنا وأدبا ولا يدرجونه ضمن إطار العلوم.
أما في العصر الحديث فقد احتدم الخلاف؛ فنجد الفلاسفة الطبيعيين يرون أن التاريخ لا يمكن أن يكون علما، وينفون عنه صفة العلم تماما، مستندين إلى عدة أمور، منها: أن التاريخ يعجز عن إخضاع الوقائع التاريخية لقانون التجربة والمشاهدة والاختبار؛ مما يخضع له العلم من قوانين، وبذلك لا يمكن في دراسة التاريخ استخلاص قوانين علمية يقينية ثابتة، على نحو ما هو موجود بالسبة لعلم الطبيعة أو أو علم الكيمياء مثلا.
أما المدافعون عن التاريخ كعلم، فيرون أن أقرب العلوم الطبيعية شبها بالتاريخ هو علم الجيولوجيا، إذ يدرس المؤرخ ماضي المجتمعات الإنسانية، بينما يدرس الجيولوجي ماضي الكرة الأرضية، والأخير حين يدرس تطور تكوين الأرض الراهن، وكيف صارت إلى هذه الحال، يتشابه مع المؤرخ الذي يدرس أحوال الإنسان في الماضي، ليفسر بواسطتها-قدر الإمكان- أحوال هذا الإنسان في الحاضر، ومادة المؤرخ الوثائق، بينما مادة الجيولوجي هي الأحجار والصخور، ويزيد عمل المؤرخ على عمل الجيولوجي، من حيث إضطرار الأول إلى أن يدرس ويفسر ويحلل العامل البشري الإرادي الانفعالي، حتى يقترب من تحقيق هدفه وهو الوصول إلى الحقيقة التاريخية المجردة بما لها وما عليها.
فيرى هرنشو (الأستاذ بجامعة لندن): " برغم أننا لا يمكننا أن نستخلص من دراسة التاريخ قوانين علمية ثابتة على غرار ما هو كائن في العلوم الطبيعية، فإن هذا لا يجوز أن يجرد التاريخ من صفة العلم، لأنه يكفي في إسناد صفة العلم إلى موضوع ما، أن يمضي الباحث في دراسته مع سعيه إلى توخي الحقيقة، وأن يؤسس بحثه على حكم ناقد، تجرد فيه من هوى النفس وابتعد عن كل افتراض سابق، مع إمكانية تصنيفه وتبويبه"، وبذلك يقرر هرنشو أن التاريخ ليس علم تجربة واختبار، ولكنه علم نقد وتحقيق.
أما بيوري (الأستاذ بجامعة كمبردج) فيقرر أن التايخ ليس فرعا من فروع الأدب، وأن حقائق التاريخ تشبه علم الجيولوجيا أو علم الفلك.
كما يرى كولنجود أن التاريخ نوع من البحث العلمي، فهو من حيث الأصل يندرج تحت ما نسميه بالعلوم، وهي التي نقصد بها ألوانا من التفكيرتثير فينا أسئلة معينة نحاول الإجابة عليها.
كذلك يقرر شتويل أن التاريخ في الحقيقة علم وفن، بل إنه الأمران معا؛ ذلك لأنه من حيث مجال البحث الذي يشتمل هذه المادة يدخل ضمن نطاق العلوم، ومن خلال السرد القصصي والروائي، هو يدخل في مجال الفنون، فهو إذن علم وفن، وهنا تكمن عظمة دراسة التاريخ.
والسبب الرئيسي لذي يدعو المدافعين عن التاريخ كعلم إلى التمسك برأيهم، هو أن الباحث في التاريخ لا يقف عند حد وصف الحوادث الماضية وتنسيقها فحسب، بل يهدف إلى كشف العلاقات السببية التي توجد بينها لتفسيرها وتعليلها، وقد أشار إلى ذلك العلامة المسلم ابن خلدون قبل مئات السنين في مقدمته الشهيرة عند تعريفه لعلم التاريخ: "إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأولى، وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها".
المصدر: أ.د.السيد محمد الدقن، علم التاريخ- نصوصه ووثائقه وتدوينه ومناهج البحث فيه (القاهرة: المؤلف)
ربي اغفر وارحم عبدك السيد محمد الدقن وزوجته - نسألكم الفاتحة والدعاء وجزاكم الله خيرا ولكم بمثل ما دعوتم
نشرت فى 26 يوليو 2019
بواسطة DRDEQENSAYED
عدد زيارات الموقع
150,599
ابحث
موقع العبد الفقير إلى الله تعالى المؤرخ أ.د/السيد محمد الدقن رحمه الله
يهدف هذا الموقع إلى نشر أجزاء من علم العبد الفقير إلى الله سبحانه وتعالى المؤرخ المصري الدكتور السيد محمد الدقن غفر الله له ورحمه، أستاذ التاريخ بجامعة الأزهر، وكذلك نشر كل ما قد يكون في ميزان حسناته وحسنات زوجته رحمهما الله، نسألكم الدعاء والفاتحة للفقيد والفقيدة ولكم بمثل ما دعوتم »
ساحة النقاش