لا يزال السطو العسكري الكيني يطال المخيمات والمنازل السكنية، ويسقط الأمهات والأطفال بدماء باردة تحت ذريعة ملاحقة حركة الشباب عسكريًّا داخل الصومال، كما أن تغلغلها العسكري لبسط نفوذها على أجزاء من التراب الصومالي، لا يزال مشهدًا عسكريًّا يفاجئ الجميع، بتقلباته وتغيراته وانعكاساته على الصعيدين العسكري والسياسي في الصومال.
فقبل أسبوعين فاجأتنا قوات كينية جرارة تقتحم البلدات الصومالية واحدة تلو الأخرى، وتضع أحذيتها العسكرية لأول مرة في تاريخها على التراب الصومالي، غير آبهةٍ على التبعات التي ستتمخض عن تدخلها العسكري، لكن المسألة التي لم تضع السلطات الكينية في حسبانها بعد، هي من سيدفع الضريبة مقابل بعد الغزو للصومال؟، أهي الجريحة (الصومال) التي تعيش مع واقع مأساوي منذ عقدين أم أن كينيا التي تطمح إلى أن تكون صاحبة نفوذ سياسي في شرق إفريقيا، لتحل محل إثيوبيا، وتكون الشرطي الجديد في المنطقة على حساب جارتها أديس أبابا.
حقًّا، إن كينيا جاهدة لصون أمنها القومي وتبديد المخاوف المحتملة من تفشي عدوى الفوضى الخلاقة إلى أراضيها، وحرصًا على مصالحها الاقتصادية بما فيها قطاع السياحة، لكن غزوها للصومال، سيفتح لها جبهات داخلية وخارجية، ينزف دمها ويضع اقتصادياتها على أبواب "تسونامي" اقتصادية جديدة، وتتجه بوصلته ومؤشره نحو الأسفل، فكينيا تصدر إلى الصومال تجارة (القات) الذي يستهلكه عدد كبير من الصوماليين، ويكفي فقط أن يشهد هذا القطاع التجاري انخفاضًا أو تدهورًا بل وانقطاعًا لمدة أيام فقط، إضافة إلى أنها تستورد من الصومال الماشية، ما يجعلها تفقد حليفًا اقتصاديًّا لها في المنطقة؛ حيث إن كينيا تدُر من وراء صادراتها إلى الصومال ملايين من الدولارات، لدرجة- بحسب علمنا- أنه جزء رئيسي في نمو اقتصادياتها.
الخبراء العسكريون يرجحون أن دعوة حركة الشباب للشباب الكيني إلى شنِّ هجمات انتقامية ضد مصالح كينية، قد تجد طريقها إلى آذان الفاعلين، إلى جانب أن كينيا نفسها أبدت قلقها من إمكانية عودة المجاهدين الكينيين الذين يقاتلون داخل الصومال جنبًا إلى جنب مع حركة الشباب، ويُعتبر هذا الأمر الخطير بالنسبة لكينيا ثمرة تدخلها العسكري في الصومال.
يقول المثل "من كان بيته من زجاج لا يرمي بيوت الناس بالحجارة" فكينيا التي تنعم بأمن واستقرار، رمت نفسها وسط قضية محفوفة بالتغيرات العسكرية والسياسية، كما أنها لن تستطيع على تحمل مزيدٍ من الصبر نحو البقاء في هذا الوضع الحر، فضلاً عن عدم قدرتها عسكريًّا في خوض غمار لعبة الرصاص الحية مع الصومال الذي أدمن فواجع الحرب طيلة عقدين من الزمن، إضافة إلى أنها ستفقد من يمدُّ لها حبل النجاة، متى شعرت بأن حال الخروج من الصومال حان، فإثيوبيا التي غزت الصومال واحتلتها عامين وشهر لا تزال تدفع فاتورة باهظة في تعويض تلك الخسارة التي تلقتها من تجربة دخولها عسكريًّا للصومال.
من الواضح أن الدعم الغربي للخطوة العسكرية الكينية، كان في محله بسبب بلوغ أطماعه الاستعمارية وسعيه الحثيث وراء ثقافة الهيمنة والسيطرة على القرن الإفريقي؛ حيث بارك الغرب الخطة الكينية في الوهلة الأولى، ففرنسا مثلاً نفذت غارات جوية على بلدات صومالية، كما أن أمريكا رأت أن الوقت قد حان لاستباحة الصومال بمبرر مكافحة القرصنة تارة والإرهاب تارة أخرى، فهاهو الغرب يشن حربًا جوية وبرية على الصومال من الجزء الجنوبي من الصومال، والوكيل الجديد في هذه المرة هي كينيا، التي تستغل فرصة تدخلها العسكري لاستحواذ أراضي صومالية ومساحات بحرية على حساب الصومال.
ومن غير المستبعد أن يمتد هذا التوغل الكيني في جنوب البلاد إلى مناطق أخرى وخاصة في إقليمي جوبا السفلى والوسطى، لإخراجها من مسلحي حركة الشباب؛ لتكون القوات الكينية تتربع على مراكزها وتكون هي الراعية والمسئولة عن شئون الصوماليين طوعًا أو كرهًا، وقبل تحقيق ذلك الأمر سيكون المشهد الدموي الناتج من استهداف المدنيين العزل بواسطة طائرات حربية هو الذي سيكون سيد الموقف، ومادة دسمة تتناولها وسائل الإعلام المحلية.
الجوار الإقليمي وخاصة الدول المنضوية تحت مظلة "الإيجاد" تلوذ بالصمت، وكأنها أخذت درسًا من التجربة الإثيوبية تجاه المشهد الصومالي قبل عامين، وأصبحت كينيا في غرفة التجربة، لترى نفسها تتخبط في مستنقع دموي، قد يكلفها نفسًا ونفيسًا، لتدرك فيما بعد خطورة تدخلها العسكري للصومال؛ لتكتشف أن توغلها للصومال كان مغامرةً خطيرةً، وخطأً ارتكبته إدارتها العسكرية تجاه هذا القطر العربي في القرن الإفريقي، وقد يضر بمصالحها التجارية والسياسية تجاه الصومال.
ساحة النقاش