بل إن أيام الثورة المصريَّة استطاعت أن تصنع تلاحمًا غير مسبوق بين أبناء الشعب المصري قضت ولفترة مؤقتة على حالة التوتر الأيديولوجي والطائفي التي كانت تصبغ الحياة المصرية خلال سنوات حكم "مبارك".. هذا التلاحم اعتبره كثيرون أحد أهم المكتسبات العظيمة للثورة المصريَّة وشكَّل فاتحة خير للدولة المصريَّة الجديدة، ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن.
فقد صحونا جميعًا من حلم النضال والكفاح الذي تشكَّلَت ملامحه على أرضيَّة ميدان "التحرير" وكل ميادين النضال والتحرير في مصر على واقع مصر المأزوم والأليم والذي يشكِّل تحديًا هائلًا أمام قوى الإصلاح والتغيير، فبعد ثلاثين عامًا قضاها مبارك في مصر استطاع أن يصنع فيها من الخراب والسوء ما يعجز عن صنعه أشدّ الأعداء سوءًا وكراهية لمصر وشعبها.
ففي مجال التعليم استطاع نظام مبارك تخريب العمليَّة التعليميَّة بصورة متعمدة كانت تتمثَّل في تخفيض نسبة الإنفاق على التعليم لحساب مخصَّصات الأمن وشئون الرئاسة؛ إذ كانت المخصصات المالية للتعليم لا تزيد على نسبة 3% فقط من إجمالي الدخل القومي.. وربما كان التعليق الذي أطلقة رئيس لجنة التعليم والبحث العلمي بمجلس الشورى د. فاروق إسماعيل في 7 نوفمبر 2009 بنقابة الصحفيين هو أصدق تعبير عن الحالة التعليميَّة في عهد مبارك، فقد قال: "التعليم في مصر أصبح شعبطة في الأتوبيس ووضع الطلبة يشبه أوضاع الركاب في الأتوبيس المصري، فهناك المبطط وهناك المهروس وهناك المتشعبط"، ثم أضاف قائلا: "التعليم الجامعي في مصر يفتقر إلى استراتيجيَّة طويلة الأمد لا تتغير بتغير الوزير.." ووفقًا للإحصائيات الرسميَّة فقد بلغت نسبة الأمية ما بين 30 إلى 40%، وبلغت نسبة التسرُّب بين تلاميذ المرحلة الأساسيَّة 23.13% حسب تقرير للأمم المتحدة صدَر سنة 2005 وفي تقرير صادر في عام 2006 من جامعة شنجهاي عن تصنيف أول 500 جامعة في العالم تبيَّن منه خلو أي جامعة مصريَّة – أو حتى عربيَّة – من تلك القائمة، بينما احتلَّت أمريكا المرتبة الأولى بعدد 168 جامعة وإسرائيل المرتبة الـ 12 بعدد 7 جامعات منهم جامعة ضمن المائة جامعة الأولى عالميًّا.
وفي مجال الصحة.. احتلت مصر "مبارك" المرتبة الأولى عالميًّا في أمراض الكبد والسرطان والفشل الكلوي وكذلك ضغط الدم (26% من عدد السكان مرضى بارتفاع ضغط الدم).
وذكر تقرير الجمعيَّة الأفريقيَّة لأمراض الكبد عن عام 2006 أن 12 مليون مصري مصابون بالكبد الوبائي، أضاف التقرير أن بعض محافظات الدلتا -مثل المنوفية -تبلغ نسبة الإصابة بها 62% من السكان.. وذكر المشروع القومي لمكافحة السرطان في تقريره الصادر في عام 2008 أن هناك مائة ألف حالة جديدة على الأقل تصاب بالسرطان سنويًّا حيث تضاعف السرطان في عهد مبارك إلى ثمان مرات لتحتل مصر أعلى نسبة في السرطان بالعالم..
كما أصدرت المنظمة الدوليَّة لحقوق الإنسان تقريرا في يونيه 2008 صنفت فيه مدينة قها بمحافظة القليوبية كأعلى منطقة في العالم تتكبد وفيات بمرضى فيروس سى والفشل الكلوى بسبب تلوُّث مياه المختلطة بالصرف الصحي..
هذان المثالان يوضحان حجم الانهيار الذي أصاب الدولة المصريَّة على مدار ثلاثين عامًا إضافة إلى التخريب المتعمَّد لقطاعات الزراعة والصناعة والتجارة في مأساة تحتاج إلى شرح آخر مفصل.
وكانت الثورة المصريَّة في مجملها ثورة على كل هذه المفاسد والرزايا، وقد المنتظر أن تتلاحم كل القوى الوطنية على أرضية "إعادة بناء النهضة" ولكن الحادث الآن أن الثورة المصرية أحدقت بها المخاطر من كل جانب وباتت مشرفة على منعطف بالغ الخطورة يهدد مسيرتها نحو تحقيق مجتمع الديمقراطية وإعادة وضع الدولة المصرية الحديثة على خارطة النهضة من جديد.. ورغم تعدد المخاطر إلا أنه يمكن إجمالها في الآتي:
أولًا : خطر الفتنة الطائفيَّة
وهي أشد ألوان الخطر وأصعبه، والتي قد تدفع بالمجتمع المصري إلى شكل من أشكال "اللبننة" إن لم يتدارك عقلاؤه الأمر ويسعون سعيًا جادًّا لمعالجة الأزمة من جذورها وليس بطريقة الأحضان والقبلات التقليديَّة.
فالاحتقان الطائفي هو أخطر ميراث عصر "مبارك" ولم تكن الثورة المصريَّة المجيدة مهيَّأة له بقدر ما كانت كاشفة لأبعاده وكوامنه في لحظة ضعفت فيه قبضة الدولة وتراخت بفعل ما أصاب جهاز الشرطة في أحداث الثورة.
فقد شهدت فترة ما بعد الثورة العديد من الأزمات الطائفيَّة المرعبة بدءًا من أحداث قرية "صول" بمحافظة الجيزة جنوب القاهرة والتي شهدت احتراق كنيستها بالكامل مما أدى إلى تدخل العديد من الدعاة المشهورين للتهدئة وقيام المجلس العسكرى بإعادة بناء الكنيسة على نفقته الخاصة.
كما شهدت قرية أبو قرقاص البلد بمحافظة مصادمات طائفية دامية أدت إلى مقتل اثنين من المسلمين قبل أن يتدخل قادة الجماعة الإسلامية والحركة السلفية بالمنطقة لمنع انتشار أعمال انتقاميَّة بالغة السوء ضدّ المسيحيين الموجودين في القرية والقرى المجاورة.. وعلى إثرها قرَّر المجلس العسكري تحويل عشرة أقباط إلى النيابة العسكرية تمهيدًا لاتخاذ عقوبات رادعة بحقهم حال ثبوت إدانتهم.
وفي منطقة إمبابة اندلعت اشتباكات طائفية تعتبر الأسوأ من نوعها حتى الآن فعلى إثر سريان إشاعة باختطاف فتاة أسلمت منذ حوالي ستة أشهر ووجودها في إحدى دور الرعاية التابعة لإحدى الكنائس بمنطقة إمبابة بالجيزة وقعت اشتباكات بين المسلمين والمسيحيين تطورت إلى إطلاق نار من جانب النصارى وردود فعل من جانب المسلمين مما أدى إلى مقتل عشرة أشخاص من الجانبين إضافة إلى مائة وخمسين مصابًا وإحراق كنيستين بمنطقة إمبابة.
ومن ناحية أخرى فقد شهدت الأيام الماضية العديد من الوقفات الاحتجاجية للمطالبة بإفراج الكنيسة عن النساء اللائي أشهرن إسلامهن ويعتقد أنهن موجودات داخل الأديرة بعد أن قام نظام "مبارك" بتسلميهن للكنيسة في إطار صفقة كانت تستهدف دعم الكنيسة الأرثوذكسية المصرية لملف توريث الحكم.. واللافت للنظر أن هذه المظاهرات تصدرها التيار السلفي مما أدى إلى حالة من ردَّة الفعل الإعلاميَّة العنيفة ضدّه.
ويبقى أن نشير هنا إلى العديد من النقاط الهامة في هذا الملف الملتهب :
1- يجب على الدولة المصريَّة وهي تسعى إلى إعادة بناء هيبتها ونهضتها أن تسعى إلى تصفية الجيوب التي كانت بمثابة كيانات موازية داخل الدولة أعطت لنفسها حق احتجاز النساء والتحكم فيهن وفي اعتقادهن، وهو أمر لم يحدثْ إلا في عصور التفتيش، كما أنه يجب شنّ حملات لجمع السلاح من الكنائس والدور الملحقة بها وهو الأمر الذي أشار إليه اللواء منصور العيسوي وزير الداخلية في حديثه عن وجوب عدم حمل السلام أثناء دخول الكنائس!! فالرسالة التي يجب أن يفهمها الجميع أنه ليس هناك أحد فوق القانون وسلطته وأن ممارسات عصر مبارك التي حابت الكنيسة لصالح مشروع التوريث قد ولَّت إلى غير رجعة.. فالدولة المصريَّة في عهد مبارك التي تنازلت عن هيبتها وسلطانها طواعيةً يجب عليها اليوم أن تثبت أنها حاضرة وبقوَّة.
2- يجب على التيار الإسلامي (والسلفي منه بصفة خاصة) أن يتقن إدارة الأزمات بحرفيَّة ومهارة عالية فقد كان بوسعه أن يحوِّل ملف (كاميليا شحاتة) التي يعتقد أن الكنيسة تحتجزها عقب إشهار إسلامها إلى ملف حقوقي من الدرجة الأولى يجذب العديد من المنظمات الحقوقيَّة -رغم تمويل بعضها المشبوه – ويحرم المتربصين بالتيار الإسلامي والسلفي منه بوجهٍ خاص من إمكانيَّة التربُّص به والإيقاع به.
3- البعد عن الإثارة والحشد والتعبئة ومراعاة الظرف الدقيق الذي تمرُّ به البلاد وترتيب دقيق للأولويات إذ يبقى على الحركة الإسلاميَّة أن تعرف أن قضية الحريات هي القضيَّة الأهمّ التي يجب السعي لإقرارها فقد رأى الإسلاميون كيف أن غياب الحريات أصابهم بضرَر بالغ يتضاءل بجواره كل ما أصاب الآخرين.. وهناك بعض القوى يهمها تعطيل مسيرة الديمقراطيَّة والانتخابات البرلمانية والرئاسية. فلا ينبغى على أبناء الحركة الإسلاميَّة أن يستدرجَهم بعيدًا عن الحلم الذى تهفو إليه الأفئدة وتشتاق.
ثانيًا : خطر البلطجة
ولم تكن ظاهرة البلطجة التي يعانى منه الشارع المصري أحد تداعيات الثورة المصرية بقدر ما كانت تعبيرًا صادقًا عن الأسلوب الذي كان مبارك يدير به الدولة.. إذ ظلَّ "البلطجيَّة" في عهده يمثلون رقمًا مهمًّا في صراع الحزب الوطني مع خصومه السياسيين حتى تمكن من تكوين جيش جرار من البلطجيَّة ظهروا بوضوح في الانتخابات البرلمانية عام 2005 كما لعبوا الدور الأعظم في الاعتداء على المتظاهرين بميدان التحرير يومي 2و3 فبراير فيما عرف إعلاميًّا بموقعة "الجمل" لذا يعتقد كثيرون أن حالة الترويع التي يعاني منها الشعب المصري اليوم إنما جزء من خطة محكمة للوصول بالبلاد إلى حالة من الفوضى تمنع من استكمال محاكمة رموز الفساد وتقديم الرئيس السابق إلى محاكمة عادلة.
فلا يكاد يمرُّ يوم إلا ويعاني المصريون من حالات الترويع التي وصلت إلى حدِّ غلق شارع "عبد العزيز" الشارع التجاري الأشهر في وسط العاصمة القاهرة إثر مشاجرة نشبت بين البائعين بالشارع استخدم فيها الرصاص الحي وزجاجات المولوتوف الحارقة، مما أدى إلى غلق الشارع بأكمله، وهو الشارع الذي لا يكاد المارُّ يجد فيه موطئًا لقدمه من شدة زحامه!! والمطلوب الآن تفكيك عاجل لبنية "البلطجة" كما يقول مأمون فندي في الشرق الأوسط 18/4/2011: "نحن أمام حالة ليس من كشف البلطجة في مصر بل كشف الغطاء عنها، تفكيك بنية البلطجة أساسي في مصر، وتفكيك الحزب الوطني الذي كان حاكمًا هو بداية طيبة، ولكن البلطجة لم تتأصلْ فقط في الحزب الوطني، بل في مؤسسات أخرى، بعضها خشنة، ومؤسسات أخرى مثل الصحافة والإعلام، التي تبدو على السطح ناعمة، ولكنها كانت أوكار تغطية على البلطجيَّة، وأحيانًا تزويقًا وتلميعًا لهم، وبعضها ما زال يؤدي ذات المهمَّة، ولكن بوجوه جديدة .
لن يكون هناك أي معنى لثورة 25 يناير إن لم يفكك القائمون على الحكم بنية البلطجة التي ما زالت تسيطر في مصر، والتي تروِّع الداخل وتثير جوًّا من الخوف والقلق في الخارج.. مطلوب إجراءات حاسمة وجادة تقنع الخارج بأن نظام فرض الإتاوات قد انتهى إلى غير رجعة، وحتى هذه اللحظة هذا الأمر ليس محسومًا، و«الشاطر» يفهم".
ثالثًا : خطر الاحتجاجات الفئويَّة
فالاقتصاد المصري يعانى من انهيار كامل قبل الثورة نتيجة حالة النهب المنظم التي مارستها العصابة الملتفة حول الرئيس المخلوع ونجله، وظلَّ تحسين مستوى المعيشة هو الحلم الأكبر الذي يطمح إليه المصريون خاصة بعد تكشف حجم المبالغ والثروات المسروقة مما يؤكِّد على وفرة الثروة المصريَّة، ومع تفهم الجميع لعدالة المطالب الفئويَّة المتعلقة بتحسين مستوى المعيشة، إلا أن الجميع يدرك في الوقت ذاته أن التحسُّن المأمول مرهون بدوران عجلة الإنتاج خاصة مع الخسائر المتوقعة التي منِّي بها الاقتصاد المصري بعد ثورة 25 يناير فتقديرات خسائر الاقتصاد المصرى وفقًا لمركز الدراسات الاقتصاديَّة تشير إلى أنها بلغت في الفترة منذ 25 يناير حتى مارس الجاري نحو 200 مليار جنيه، وفى رأى صلاح جودة، مدير مركز الدراسات الاقتصاديَّة- والذي نشره موقع اليوم السابع -فإن تلك الخسائر الاقتصاديَّة ستؤثر على عجلة الاقتصاد بشكلٍ كبير خلال المرحلة المقبلة، موضحًا أنه يجب أن نحتاط لأمرين، هما الأمن ومدى توافره، والغذاء ومدى كفايته، مشيرًا إلى أن العنصرين من العناصر المهمَّة التي تحيا بها الشعوب .
لذا فإن هذه المطالب الفئويَّة والاحتجاجات العماليَّة تسهم في زيادة العبء على الحكومة الحالية وتحول بينها وبين تنفيذ أجندتها الخاصة بتحسين مستوى المعيشة وزيادة الأجور كما أنه يؤدى إلى انهيار الدولة المصريَّة، خاصةً مع تفاقم الوضع الاقتصادي ووصوله إلى المؤشر الخطر.
وبالجملة فالدولة المصريَّة تمرُّ بمنعطفات صعبة وخطيرة تعكس حجم التآمر الداخلي والخارجي على الثورة المصرية المجيدة التي يوقن الجميع أنها ستغير وجه مصر الحضاري وتعيدها إلى قلب أمتها العربيَّة والإسلاميَّة، فهل ثمة محاولات جادة لإنقاذ الحلم قبل إجهاضه؟
ساحة النقاش