عندما نتحدّث عن الإساءة إلى الطفل، فإننا نعني ما هو أكثر من الكدمات والرضوض والعظام المكسورة، لأن علامات الإساءة الجسدية تظهر بوضوح للعيان.
ولكن هناك إساءات كثيرة أخرى تترك ندوباً عميقة ودائمة يصعب إزالتها، لا تظهر للعيان، ولكنها تتسبب في أذية الطفل عاطفياً. منها: الإساءة العاطفية، أو إهمال الطفل وإهمال إحتياجاته، أو تعريضه للخطر، أو تركه بلا رقابة، أو جعله يشعر بأنّه بلا قيمة أو أنّه أحمق. وكي يتمكن الأهل من حماية طفلهم من آثار الإساءة، عليهم الإلمام بكل أنواع الإساءات ومعرفة ما هو مطلوب منهم. وكلما أسرعوا في تقديم المساعدة للطفل المعنف، زادت فرص شفائه وتخليصه من الآثار التي قد تدوم في ذاكرته لفترات طويلة.
يعتقد البعض أنّ الأشخاص السيِّئين، هم وحدهم الذين يسيِّئون إلى الأطفال، لكن هذه ليست هي الحقيقة. فالأشخاص الجيِّدون يستعملون العنف ضد أطفالهم أيضاً. ولكن نادراً ما يتعمد هؤلاء أذيتهم، وقد يكون العديد منهم تعرض للإساءة عندما كان صغيراً. لذا، فهم لا يعرفون طرقاً تربوية أخرى في تأديب الطفل سوى العنف. ومعظم هؤلاء يعاقبون الطفل جسدياً، إمّا بسبب شعورهم بالغضب، أو إعتقاداً منهم أن ما يفعلونه هو لمصلحة الطفل، لأن معظمهم قد تربى بهذه الطريقة.
إنّ إستعمال العنف المفرط ضد الطفل، في بداية حياته، يمكن أن يؤدي إلى اعتلاله جسدياً وعقلياً، وقد يصبح الطفل غير سوي وممزَّقاً إلى حد مواجهة صعوبات في إقامة علاقات طبيعية، وفي تحقيق تطور طبيعي.
والعنف ضد الأطفال لا يحصل فقط في نطاق الأسر الفقيرة. فهو يشمل كل الأعراق، بغض النظر عن وضعها الإقتصادي أو الثقافي. قد يكون الغرباء هم من يسيِّئون أحياناً إلى الطفل، ولكن معظم الذين يسيئون إليه، هم من أفراد العائلة نفسها أو من أحد المقربين منها. ومن بين أكثر الأشخاص إحتمالاً للإساءة إلى الغير هم الأطفال المعنفون عندما يكبرون فهم يكررون ويمارسون ، ومن دون وعي، التجربة التي مروا بها عندما كانوا صغاراً. وفي المقابل، هناك العديد من الأشخاص الذين تعرضوا للعنف والإساءة وهم صغار، يعملون كل ما في وسعهم لحماية أطفالهم حتى لا يعانوا ما عانوه هم. وهؤلاء هم آباء ممتازون فعلاً.
* تأثيرات الإساءة في الطفل: كل أشكال العنف والإهمال تترك آثاراً لا تزول بسهولة وتدوم طويلاً. قد يكون بعض هذه الآثار جسدياً، لكن الندوب العاطفية هي التي يدوم تأثيرها مدى الحياة. فهي تؤدي إلى تحطيم ثقة الطفل بنفسه، وتؤثر في قدراته على عقد صداقات وإقامة علاقات جيِّدة مع الآخرين، وفي قدرته على العمل في المنزل وخارجه وعلى أدائه في المدرسة من هذه التأثيرات:
- الإفتقار إلى الثقة بالنفس وصعوبات في إقامة العلاقات: إنّ الطفل الذي لا يستطيع الوثوق بأهله، لن يستطيع الوثوق بأحد. فإساءة الأهل إلى الطفل تضر بعلاقاته الأساسية والجوهرية. إذ إن من المفروض أن يجد الطفل الأمان، جسدياً وعاطفياً، عند أقرب الناس إليه. ومن دون هذه القاعدة، من الصعب جدّاً أن يتعلم الطفل الثقة بالآخرين، أو أن يعرف من هو الشخص الجدير بالثقة. وقد يقود هذا الشعور إلى صعوبة في المحافظة على الصداقات نتيجة الخوف من أن يتحكم فيه الطرف الآخر أو أن يسيء إليه، وقد يؤدي أيضاً إلى علاقات غير صحية. لأنّ الأطفال، حتى الذين هم في سن المراهقة، لا يعرفون ما معنى العلاقات الجيِّدة.
- الشعور بعدم الجدارة بالثقة: إذا ذكرت الأم على مسامع طفلها أنه أحمق أو تافه، فإن من الصعب عليه التغلب على شعوره بالإساءة نتيجة وصمه بمثل هذه الصفات. فقد يعتقد أنها حقيقية، فلا يسعى إلى الحصول على المزيد من العلم والثقافة عندما يصبح في سن المراهقة، إعتقاداً منه أنّه لن يستطيع تحقيق أي نجاح. أمّا الأطفال الذين يتعرضون للإساءة العاطفية، فإنّهم غالباً ما يسعون جاهدين إلى التخلص من شعور العار الذي لحق بهم.
- الشعور بالحرج: لا يستطيع الطفل المعنف التعبير عن مشاعره بثقة، ومن دون شعور بالحرج أو بالخوف. ونتيجة لذلك، يحتفظ بمشاعره لنفسه. وإذا حاول إخراجها إلى العلن، فإن ذلك يتم بطرق غير متوقعة. وعندما يصل الطفل المعنف إلى سن المراهقة، فإنّه يجاهد للتغلب على إضطرابه أو شعوره بالإحباط أو بالغضب، وقد يلجأ إلى المخدرات للتخلص من هذه المشاعر المؤلمة.
* أنماط عديدة من العنف ضد الطفل: هناك العديد من أنماط العنف التي يتعرض لها الطفل، ولكن نتائجها واحدة. وأهم هذه النتائج، تأثيرها العاطفي في الطفل. يفتقر الأطفال الصغار إلى إحتياجات كثيرة، منها على سبيل المثال: القدرة على التنبؤ، والحاجة إلى العناية والرعاية، وإلى قوانين واضحة، وإلى معرفة أن أهاليهم يهتمون بهم ويسعون إلى تأمين سلامتهم. والطفل المعنف لا يستطيع التنبؤ به، إنّه عالم مخيف لا تحكمه قوانين. وسواء أكانت الإساءة صفعة على الخد أم تعليقات مؤلمة أم إلتزام الصمت معه أم تركه جائعاً، فالنتيجة الحتمية واحدة، طفل لا يشعر بالأمان، ومهمَل وخائف ووحيد.
- الإساءة العاطفية: هناك مثل يقول: "قد تكسر العصي والحجارة عظامي، لكن الكلمات لا تؤذيني أبداً". وعلى العكس من هذا المثل القديم، فقد تسبب الكلمات، أي الإساءة العاطفية، ضرراً حاداً في صحة الطفل الذهنية أو في تطوره الإجتماعي. وقد يكون تأثيرها النفسي عميقاً ويدوم لفترة طويلة. وتتضمن الإساءة العاطفية الكثير من الأمثلة، منها: التقليل من شأن الطفل، إذلاله، إطلاق ألقاب وصفات مذلة في حقه، التكرار على مسامعه أنّه طفل "سيِّئ" و"عديم القيمة"، تهديده بإستمرار، إهماله وعدم التحدث معه، تركه جائعاً... إلخ.
- إهمال الطفل: وهو نمط شائع جدّاً. وهو نموذج للفشل في تأمين إحتياجات الطفل الأساسية من طعام ولبس وعناية صحية ورعاية. فمن غير السهل تمييز الطفل المهمل. أحياناً لا تتمكن الأُم، لا من الناحية الجسدية ولا الذهنية، من العناية بالطفل، إمّا بسبب مرضها، أو بسبب شعورها بالإحباط أو بسبب إضطرابها. وفي مثل هذه الحالات يشعر الطفل بأنّه مهمَل ومنبوذ.
- الإساءة الجسدية: وتتضمن الإساءة الجسدية ضرراً جسدياً وجروحاً. وقد تكون الجروح نتيجة تعمُّد بعض الأهل أذية الطفل أحياناً، وليس دائماً، بقصد تأديبه. إذ قد يلجأ البعض منهم إلى ضرب الطفل بحزام جلدي أو إلى معاقبته جسدياً، بما لا يتناسب مع سن الطفل أو وضع جسمه.
يصر العديد من المسيئين إلى الطفل على أنّ العنف والضرب، هما وسيلة تأديب ووسيلة تعليم الطفل على التصرف الجيِّد. ولكنّ هناك فرقاً كبيراً بين معاقبة الطفل من دون التسبب في أذيته، بقصد تأديبه، والإساءة إليه جسدياً للغاية نفسها. إنّ الهدف من التربية هو تعليم الطفل التمييز بين الصواب والخطأ، لا أن يعيش حياته في خوف دائم والشعور بالذل.
لا يعرف الطفل ماذا يخبئ له الأهل. إذ ليس هناك قوانين واضحة تحدد هذه العلاقة. لذا، يبدو الطفل دائماً وكأنّه يسير فوق قشر البيض، أي يكون غير متأكد أبداً من التصرف الذي يدفع الأهل إلى إهانته والإساءة إليه جسدياً. إنّ إساءة الأهل إلى الطفل جسدياً، تدل على شعورهم بالغضب والتوتر الدائم، وعلى رغبتهم في فرض سيطرتهم بالعنف وليس بالمحبة. وكلما زاد غضبهم، زادوا عنفاً. وقد يعتقد البعض من هؤلاء الأهل أن على الطفل أن يخافهم. لذا يلجأون إلى العنف "كي يبقى الطفل تحت السيطرة". ولكن، فعلياً، عندما يعنّف الأهل الطفل فإنّه لا يتعلم التصرف الجيِّد، بل تجنب الضرب والإساءة. وهذا يعوق الطفل عن النمو والتطور كبقية الأطفال.
لا تظهر علامات العنف على الطفل دائماً. ولكن من الممكن أن تعرف الأُم ما إذا كان طفلها قد تعرض لعنف عاطفي أو جسدي، وذلك من خلال مراقبة تصرفاته، وتفقُّد جسده بإستمرار حتى تتمكن من مساعدته على الشفاء. من علامات الإساءة الجسدية: معاناة الطفل الإضطراب وشعوره بالخوف من إرتكاب أي خطأ كي لا يُعتدى عليه بالضرب، وذهابه إلى أبعد حد في تصرفاته، مثل الإفراط في الشكوى وفي الطلبات وفي الإنفعال والعدائية، وإبتعاده عن أُمّه وعدم تعلقه بها، والقيام بتصرفات غير مقبولة مع الأهل ومع أطفال آخرين، القيام بحركات لا إرادية، مثل هز جسمه ومص إصبعه والصراخ بصوت عالٍ وبغضب. أمّا علامات الإساءة الجسدية فهي: جروح متكررة أو ندوب مجهولة الأسباب، وعلامات ضرب بحزام، حالة ترقب دائمة وكأنّه ينتظر حصول ما هو سيئ، الشعور بالخجل عند لمسه، حيث يجفل عند أي حركة فجائية، أو بالخوف من الذهاب إلى البيت، إرتداء ثياب لا تتناسب مع حالة الجو لتغطية الجروح والندوب. ومن علامات الإهمال: مظهر مزرٍ، مثل لبس ثياب مهلهلة ولا تتناسب مع حالة الجو، عادات صحية سيِّئة، مثل عدم الإستحمام، شعر منكوش، رائحة سيِّئة، إضافة إلى عدم الإهتمام بصحة الطفل، وتركه وحيداً ومن دون رقابة، أو عدم تأمين البيئة المناسبة من حوله.
* كسر حلقة العنف: من المحتمل أن تكون الأُم نفسها قد تعرضت لإساءة جسدية أو عاطفية في صغرها. لذا، قد تصاب بصدمة قوية وغضب عارم عندما يصبح لديها أطفال مسؤولة عنهم، فتشعر بأنّها لا تستطيع السيطرة على مشاعرها أو التحكم فيها. ولكن علها أن تتذكر بداية، أنها أم مثلها مثل غيرها من الأُمّهات، وأنها أهم شخص في حياة طفلها الذي يستحق كل جهد تبذله في سبيله، من أجل حمايته من أي أذى يمكن أن يلحق به. وقد تساعدها الأفكار التالية على التحكم في ردود فعلها.
- أن تكون واقعية: إذا كانت الأُم واقعية، ولديها تصور مسبّق عما يستطيع الطفل فعله في كل مرحلة عمرية، فإنّ هذا قد يساعدها على التغلب على شعورها بالإحباط والغضب، حيال تصرفات طفلها الطبيعية. مثلاً، على الأُم أن تدرك أنّ الطفل حديث الولادة لا يمكن أن ينام طوال الليل من دون أن يستيقظ مرّتين على الأقل، ومن دون أن يبكي، وأنّ الطفل بعد عمر السنة، لا يستطيع الجلوس في مكان واحدة لفترة طويلة.
- أن تعتني بنفسها: إذا كانت الأُم لا تحصل على ما يكفي من الراحة والدعم، فمن المحتمل أن تستسلم لليأس والغضب. إن عدم النوم، وهو أمر شائع بين الأُمّهات اللواتي يعتنين بطفل صغير، يزيد من كآبة الأُم ومن حدة طبعها ونكدها، ويدفعها بالتالي إلى الإساءة إلى طفلها، مع أنّ المطلوب أن تكون الأُم هادئة ومحبة حتى تتمكن من رعاية طفلها والعناية به وحمايته من الأذى. لذا، عليها تجنب كل ما يمكن أن يثير غضبها، وأن تطلب مساعدة زوجها، أو أي شخص مقرب منها، للعناية بالطفل أحياناً، كي تتمكن من الحصول على الراحة الكافية.
- أن تتعلم السيطرة على إنفعالاتها: إنّ الخطوة الأولى نحو التوصل إلى التحكم في الإنفعالات، هي الإعتراف بوجودها. فإذا كانت الأُم قد تعرضت للإساءة وهي صغيرة، ستواجه أوقاتاً صعبة عند ملامستها إنفعالاتها من خلال طفلها المعنف. على الأُم أن تحاول الإبتعاد قليلاً عن طفلها إذا زادت إنفعالاتها على حدها كي لا تسيء إليه، بضربه أو بإستخدام كلمات نابية ضده أو الأستهزاء به وبقدراته. ولكن عليها ألا تطيل مدة إبتعادها عنه حتى لا يشعر بأنّه مهمَل ووحيد. وعندما تتحكم الأُم في مشاعرها، عليها التوجه حالاً إلى طفلها وضمه إلى صدرها، وأن تحاول أن تشعره بأن لا علاقة له بإنفعالها وغضبها.
- مساعدة الطفل المعنف أو المهمَل: ما الذي تستطيع الأُم فعله إذا شكّت في أن طفلها تعرض لإساءة؟ كيف يمكنها التقرب منه؟ أو ماذا لو اعترف لها الطفل بأنّه تعرض لإساءة؟ من الطبيعي أن تشعر الأُم بالغضب والإرتباك. إنّ الإساءة إلى الطفل موضوع صعب تقبله، والأصعب هو الحديث عنه. ولكن على الأُم أن تتذكر أنها تستطيع إحداث فرق كبير في حياة الطفل المعنف، خاصة إذا أخذت خطوات جادة لوقف الإساءة في وقت مبكر. على الأُم أن تقدم الدعم غير المشروط للطفل وأن تعبر له عن حبها ووقوفها إلى جانبه.
في جميع الأحوال، على الأُم ألا تتعامى عن الحقيقة عند إكتشافها أن طفلها تعرض للإساءة، أو أن تُظهر صدمتها أمامه. فقد يشعر الطفل بالخوف من رد فعلها ويتوقف عن الإعتراف بالحقيقة كاملة: نوع الإساءة، جسدية أم عاطفية، اسم الشخص الذي تسبب في أذيته... إلخ. ومهما يكن الأمر صعباً على الأُم، عليها المحافظة على هدوئها وطمأنة طفلها، وأن لا تطرح الكثير من الأسئلة عليه بقصد الحصول على المزيد من المعلومات، لأنّ هذا سيربك الطفل ويزيد من صعوبة إستمراره في قول الحقيقة. من الضروري أن تؤكد الأُم للطفل أنّ الإعتداء عليه، سواء أكان بالضرب أم بالكلام أم بأي طريقة أخرى، لم يحصل لخطأ ارتكبه هو، بل لخطأ في الآخرين، وليس لأنّه شخص سيِّئ، بل لأنّ الآخرين هم السيِّئون.
ساحة النقاش