التربية عن طريق الحوار تقوم على حقيقة مؤداها أنّ العيش إنسانياً يعني معرفة العالم المحيط حتى يمكن أن نقوم بتغييره، فبمجرد أن يعرف الإنسان العالم، تتجلّى حقيقته، في نظره كمشكلة تتطلب مواجهة وحلاًّ، ومن ثم فإنّ الذين يعيشون عالماً يظلله الصمت يتخلون عن أبرز الصفات التي تميز الإنسان عن غيره من الكائنات، فالبشر لابدّ لهم من الحوار والعمل المتبصر بالوعي والإدراك.
وعندما نؤكد على الرأي القائل بأنّ الكلمة وحدها هي التي تقود العمل الذي يغير العالم، فإنّ هذا يعني أنّ هذه الكلمة ليست حكراً على طائفة معيّنة من الناس، وإنّما هي ملك للجميع، ومن ثمّ فالكلمة الصادقة لا يمكن أن يقولها رجل واحد سواء كان ما يقوله لنفسه أو للآخرين، فإصرار مثل هذا الرجل على إسماع كلمته وحدها، يعني تجريداً للآخرين من فرصتهم في أن يقولوا كلمتهم.
والسعي نحو معرفة العالم ودراسته بالحوار لا يمكن لها أن تتم في غياب الحب الذي هو أساس الحوار، بل لعله الحوار نفسه، وعلى عكس ذلك، فإنّ "السيطرة" هي بالضرورة آفة ضد الحب؛ لأنّها تمثل في واقعها نزعة سادية يمارسها القاهرون و"ماسوشية" يتمثلها المقهورون، ولما كان الحب موقفاً شجاعاً، لا يحفل بالخوف فإنّ يعترف بالآخرين وحقهم في الحياة، وهو حق يتمثل في تحقيق الحرِّية لهم، وبما أنّ الحب موقف شجاع؛ فإنّه لا يمكن أن يقوم على مبدأ الإستغلال، بل يجب أن يولد في الآخرين الرغبة في تحقيق الحرِّية.
وعندما تؤكد التربية الحوارية على التواضع، والثقة بالآخر وبالنفس، ويحكمها الحب؛ فإنّها تكرس العلاقة الأفقية بين المتحاورين، ولعله من غير المعقول ألا تكرس مثل هذه العلاقة في مثل هذه الظروف، ذلك أنّ الذي ينشأ من مثل هذا الحوار هي علاقة تضامنية في معرفة العالم وإدراكه، وذلك ما يفتقر إليه التعليم التلقيني الذي يقوم في الأساس على غير الثقة.
ولابدّ أن نعترف بأنّ الهوة بين "المثال" وبين "الواقع" أصبحت واسعة للغاية، لقد انحرف عدد غير قليل بالعقيدة، وغاب تطبيق الشريعة وسيطرت أساليب التربية التي تقوم على التلقين والقهر، هذا الوضع غير الطيب يصعب علاجه مرّة واحدة، كما أنّ هذا التغييب لقيم الإسلام ومثله في تربية الناس، يصعب إحضاره في فترة زمنية سريعة، ومن هنا لابدّ من التدرج.
والتدرج في الحقيقة هو سنة من سنن الله في خلقه للكون والعالم بمساواته وأراضيه، مما يحتم الإستناد إليه في عمليات الحوار، وخاصة تلك التي تستهدف تغييراً سلوكياً، أو تحولاً أساسياً في المفاهيم.
فلقد خلق الله تعالى السماوات والأراضين وما فيهما في ستة أيام من أيام الله (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ...) (الأعراف/ 54)، (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) (فصّلت/ 9-12).
فتدرج خلق الله لها في ستة أيام من أيامه تعالى وهو القادرة على أن يقول لها في جزء من لحظة: كن؛ فتكون.
والرسول (ص) نفسه سلك في دعوته هذا المنهج، فكان يراعي بشكل واضح مبدأ الأولويات، يقدم ما يستحق التقديم ويؤجل ما لا يناسبه الظرف، رغم طلب أصحابه، بل إلحاحهم أحياناً إستصدار بعض الأحكام، كما كان يعطي لكل واقعة حجمها الحقيقي وما تستحق من عناية وإهتمام، بل إنّ الأهداف الإستراتيجية للدعوة اختلفت إختلافاً بيِّناً من العهد المكي إلى العهد المدني.
ساحة النقاش