<!--
<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->
فلاش بريس = محمد الأشهب
أسرار العبور قبل الرحلة الأخيرة
ألقى الرائد محمد أمقران بجسده المتعب على أريكة. منذ شهور عديدة لم يتمدد في استراحة مماثلة. إلى جواره جلس رفيقه امحمد كويرة الذي لا يقوى على التركيز. وكان ثالثهما كاميرات تصوير وآلات تسجيل وصمت مطبق يبعث على الدهشة.
عندما فتح باب الزنزانتين اللتين كانتا تأويهما في سجن القنيطرة، اعتقدا أن ساعة الرحيل حلت، وأنهما سيساقان من «رواق» الإعدام إلى ساحة مجاورة لتنفيذ حكم الإدانة الذي قضت به محكمة عسكرية قبل أسابيع. لكن توقيت الظهيرة أعاد إليهما الاطمئنان، فالموت لا يأتي إلا في ساعات الفجر الأولى، وفي ظل طقوس يحضرها الادعاء والمحامون ورجال الدرك وبعض الأئمة الذين يصبحون شهودا على النهاية.
لا شيء من ذلك حدث. أوحي لهما بحلق ذقنيهما والاستعداد لسفر قصير لن يتجاوز حدود العاصمة الرباط، ركبا حافلة نقل ملأى بالحراس المدججين، أقلعت من السجن المركزي في القنيطرة في اتجاه يجهلانه. ثم توقفت عند إقامة رسمية، وطلب من الرائدين أن يتقدما نحو قاعة الانتظار. كان ذلك أول خروج لهما من السجن، وخيمت تساؤلات إن لم تكن مغادرتهما إلى ساحة الإعدام، فماذا يفعلان في قاعة انتظار تتدلى من كل جوانبها حبال علامات استفهام، لم تكن في قسوة حبال المشنقة في تلك اللحظة.
انقضت بضعة أسابيع على صدور أحكام بإعدام الرائدين أمقران وكويرة، على خلفية ضلوعهما في الهجوم على الطائرة الملكية العائدة من باريس.كانت المحكمة تضم قضاة عسكريين،وكان العقيد أحمد الدليمي ضمن تركيبتها، رفقة الجنرال محمد بن العربي والضابط أبو بكر سكيرج. وحين دخل الدليمي بلباس مدني إلى غرفة الانتظار، أدرك الرجلان أن فصول المحاكمة انتهت لتبدأ أخرى، لم يتبينا بواعثها.
انتظرا طوال الأيام والليالي الأخيرة طرقات الأقدام الثقيلة التي تقودهما إلى حتفهما، وإذا بهما يواجهان لحظة أخرى، لا تماثل ما بينهما. إبان فترات التحقيقات وأشواط المحاكمات والمرافعات عاشا اللحظات العصيبة في حنايا بعضهما، فقد كان أمقران يعد أيامه الأخيرة، نتيجة استفحال المرض العضال الذي ألم به، قبل أن يغامر بتوجيه قذائف الطائرة إلى غير الداء الذي استشرى في الجسد. وكان رفيقه كويرة استلذ أن يهوي بطائرة في الأجواء،قبل أن يسقط«أسيرا» في ساحة أخرى لا علاقة لها بشرف القتال.
طلب إليهما هذه المرة أن يتحدثا بسخاء، في كل ما يخطر وما لا يخطر على البال. بدءا من نشأة فكرة الإطاحة بالنظام وصولا إلى مراحل التخطيط الأولي.مرورا عبر كافة الاتصالات المعلنة والسرية التي دارت في الرباط وباريس والقاهرة،وربما أماكن أخرى. ما من أحد وقد غاب شهود الفترة يستطيع أن يجزم في الوقائع التي تلت ذلك الطلب. هل كانت أقرب إلى صفقة، أم مجرد رفع العتب بعد أن قضي كل شيء. فمن لم يقتله المرض قتله الرصاص عند فناء العمر. وفي حالات العيش بعد الموت المحقق لا يهنأ المرء بغير التأمل في ما فعلته يداه.
أثناء محاكمة القنيطرة جرى التداول في أكثر الأسرار التصاقا بالحادث. بما في ذلك تشكيل مجلس عسكري ذي امتدادات سياسية. وعرضت أسماء شخصيات حزبية في المنفى وأخرى داخل البلاد.لكن المحاكمة اهتمت بالوقائع التي حفلت بها محاضر التحقيقات.وصادف أن وزير العدل آنذاك الحاج محمد أبا حنيني الذي حرك الدعوى القضائية ركز على الأفعال والوقائع المنسوبة للمتورطين ذوي الرتب العسكرية. فيما انبرت محاكمة لاحقة في أحداث ما يعرف بـ«قضية مولاي بوعزة» لكشف ظلال متشابكة، ظلت تتوارى إلى الخلف.
أهم ما تسرب عن تلك الوقائع التي دفنت مع أصحابها، ممن لهم قبور تزار وأخرى مهجورة بلا شواهد. أنه حين عادا إلى زنزانتهما دخلا في نقاش ما بعد فوات الأوان. قال بعض من أصغى إلى حوارهما أنهما تعاتبا كثيرا حول إخفاء جوانب من تلك الاتصالات. بيد أن معطيات سياسية تقود إلى القطيعة بين اتجاهات داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، أسفرت عن تأسيس الاتحاد الاشتراكي الذي أقر خيار «التغيير الديمقراطي من الداخل».
وبعد أقل من عشر سنوات سيتم الزج بزعيم الاتحاد الاشتراكي الراحل عبد الرحيم بوعبيد في السجن، على خلفية رفضه إجراء استفتاء في الصحراء، من دون العودة إلى استفتاء المغاربة حول خيار الاستفتاء. فيما أن الفقيه محمد البصري عاد من منفاه، ولم يكتب في سجله، على عكس قادة آخرين أن تصافح والملك الراحل الحسن الثاني الذي كان يقول دائما بتغليب شعار «ثقافة النسيان» كونها أزالت الكثير من الحساسيات والمطبات.
ذات فترة أراح الدكتور عمر الخطابي الذي كان يعالج الرائد محمد أمقران في عيادته في القنيطرة، ببعض ما لم يقله الأخير على قيد حياته. وما كان يفكر فيه رفيقه كويرة قبل العبور إلى الرحلة الأخيرة.
ساحة النقاش