<!--
<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->
المساء = إدريس الكنبوري
داعش والآثار.. قضية للنقاش
مارس 13، 2015العدد:2629
قبل أيام، قام تنظيم «داعش» بهدم آثار في مدينة الموصل، شمال العراق، يعود تاريخها إلى آلاف السنين، وذلك بدعوى أن تلك القطع الأثرية التاريخية، التي تمثل مجسمات، معبودات من دون الله كانت الأمم السابقة في العراق القديم تقيم لها الطقوس الدينية وتقدم إليها القرابين التعبدية، ولذلك فإن هدمها هو بمثابة قضاء على الشرك. وقد أعاد ذلك العمل التذكير بما قامت به حركة طالبان في أفغانستان قبل أزيد من عشر سنوات، حين أقدمت على هدم تمثالين كبيرين يمثلان شخصية بوذا.
في الخطوتين معا، كان الاعتقاد السائد أن تلك التماثيل الأثرية تمثل آلهة تقدس بالعبادة، دون أن يتم أخذ العامل الزمني -المدى الفاصل بين الفترة التي صنعت فيها تلك التماثيل والفترة الحالية- بعين الاعتبار؛ فإذا كانت تلك الآثار معبودات في زمن معين، يتميز بتعدد الديانات الوضعية وثقافة تجسيم الآلهة وانتشار الآلهة ذات الطابع القومي، كما هو الحال بالنسبة إلى إله بني إسرائيل مثلا، بحيث يكون الانتساب إليها انتسابا، في ذات الوقت، إلى قومية محددة، فإن الفارق الزمني الكبير بين المرحلتين يجعل تلك الآلهة المجسمة اليوم تاريخا مشتركا، نظرا إلى زوال الظروف التي كانت تجعلها مخصوصة بالعبادة، ولهذا السبب انتقد علماء دين مسلمون ما قامت به حركة طالبان، بل وتشكلت لجان للوساطة لديها من أجل العدول عن تلك الخطوة، وذلك على أساس أنها أصبحت إرثا إنسانيا مشتركا، وكونها كذلك يعني أنها لم تعد ملكية خاصة لأتباع ديانة معينة يظل لديهم الحق في التصرف فيها، للسبب الذي ذكرناه، وهو زوال الظروف التي كانت تجعل من تلك الآثار معبودات قومية خاصة.
بيد أن السؤال الذي يطرح نفسه، هو التالي: لماذا يصر السلفيون، أدعياء التبعية للسلف، على مثل هذا السلوك ضد مجسمات من الحجر، بينما نجد في البناء العقدي للسلفيين مبدأ التجسيم؟ قد يبدو السؤال غريبا بعض الشيء، ولكن التأمل فيه بإمكانه أن يساعدنا على الوصول إلى بعض الخلاصات التي لا بد منها.
تعتبر الديانتان اليهودية والمسيحية من الديانات التجسيمية، أي الديانات التي تمنح للآلهة خصائص تليق بالبشر، ولم يحدث هذا التحول في هاتين الديانتين إلا بسبب اختلاطهما بالديانات الوضعية التي كانت سائدة في زمنهما، وليس هناك بين الباحثين الأجانب الذين درسوا اليهودية والمسيحية من ينفي تأثرهما بالديانات الوثنية واقتباس الخصائص التي كانت تطبع فكرة الألوهية لديها، إذ يعتبر هؤلاء أن ما حصل من تأثر يدل على دينامية التطور لدى اليهودية والمسيحية والقدرة على استيعاب الثقافات السائدة، وهي الفكرة التي لاتزال سائدة حتى اليوم، بدليل النقاش داخل المسيحية المعاصرة بشأن المصالحة مع الحداثة، والقبول بالزواج المثلي، مثلا.
وقد عرف الإسلام بكونه دينا تجريديا، خلافا للأديان الأخرى، مما يعني نفي التجسيم، لكن علم الكلام الإسلامي انجر إلى نقاشات طويلة حول قضايا التجسيم والتشبيه والتعطيل، وليس بعيدا أن يكون ذلك بتأثير من علم الكلام لدى اليهود والمسيحيين، فقد ضرب المسيحيون الرقم القياسي في هذا الجدل، بسبب قولهم بالتجسيم، مثل مقولة إن «الله تجسد في المسيح» أو إن الكنيسة «جسد الله» أو إن البابا «رأس المسيح»، بل إن كتابا مثل «التوراة السامرية» كله تجسيم من البداية إلى الختام، فكأنك تقرأ رواية بطلها شخص من لحم ودم هو «يهوه». وإذا عرفنا أن علم الكلام في الإسلام نشأ بداية للرد على أتباع الديانات الأخرى، وتأثر في جزء منه بالفلسفة اليونانية القائمة على التجسيم، كما تدل على ذلك الملاحم، فإن ثقافة التجسيم تكون قد تسربت من خلال هذا الاحتكاك بين الكلاميين من الجانبين، من جهة، وبين الكلاميين المسلمين والثقافة اليونانية، من جهة ثانية.
لقد كشف الكثير من الباحثين عن وجود أفكار تقول بالتجسيم لدى ابن تيمية، وهو من يتخذه السلفيون قدوة لهم ويطلقون عليه تسمية «شيخ الإسلام»، وهناك من هاجمه في زمنه بهذه التهمة، وفي العصور اللاحقة أيضا؛ فقد كانت قضية التجسيم والتشبيه والتعطيل من القضايا الساخنة في الماضي، وماتزال حتى اليوم في الأوساط السلفية، ولذلك كان كل من يتصدى للكتابة في العقيدة يضمن كتابه موقفه من هذه القضايا، لأنها المدخل إلى تمييز عقيدة عن غيرها بين أرباب الكلام في العقائد.
الغرض من ذلك القول بأن فكرة التجسيم، التي أخرجها أتباع الديانات الأخرى من النظرية إلى التجسيد الواقعي، موجودة في تضاعيف الفكر السلفي، على الرغم من تأكيد وجود العكس، لأن القول بالتجسيم يتم الالتفاف عليه بتعبيرات لغوية تشبه شطحات الصوفية من بعض الوجوه، ولكنها تؤدي كلها في النهاية إلى نوع من التجسيم «السلبي»، أي نفي التجسيم بإثباته، فقد أخذت هذه الفكرة أصولها من الثقافات الأخرى، لكنها رفضت ما ترتب عنها تاريخيا، وهذه واحدة من أزمات الفكر الإسلامي القديم.
ساحة النقاش