<!--
<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->
المساء = إدريس الكنبوري
1924-2014
فبراير 27, 2015العدد: 2617
قبل تسعين عاما، أصدر الشيخ علي عبد الرازق كتابه المثير «الإسلام وأصول الحكم»، فتصدى له جميع من تشربت ثيابه رائحة الفقه، وكان على رأس الذين هاجموه وجردوه من ألقابهِ العلميةِ الأزهرُ، الذي يصارع اليوم من أجل استعادة دوره الضائع في زحمة اختلاط الدين بالسياسة، منذ ثورة الضباط الأحرار إلى ثورة 25 يوليوز. كان الهجوم على الكتاب وصاحبه دينا؛ ولأن الخلافة سقطت في الأستانة فقد أصبح الرد على عبد الرازق نوعا من الجهاد اللغوي، تعويضا عن الخسارة؛ فقد تم تجريده من ألقابه العلمية وقطع رزقه، وهو أسلوب يلجأ إليه المستبدون حين تضيق بهم الحيل، قبل أن يتم في ما بعد إنصافه.
بعد هذه المدة الطويلة، وبسبب التحولات التي تحصل اليوم، أعيد إلى الكتاب موقعـُه في الفكر الإسلامي الحديث، وبدأ كثيرون من داخل المؤسسة الدينية الرسمية في مصر، بما في ذلك الأزهر نفسه، يطالب بإعادة طبع الكتاب، علما بأن الكتاب طبع مرات عدة منذ 2011. ونقطة الإحالة هنا أن الثقافة التقليدية التي رفضت الكتاب قبل تسعين عاما، هي نفسها التي تريد اليوم استعادته مجددا، لكشف ما يعتور مقولة الخلافة من خلاف.
فتح عبد الرازق بكتابه بابا في مناقشة موضوعة الخلافة لم يفتح من قبل، ولكن الفقهاء الجامدين في تلك الفترة أصروا على إغلاقه، بدوافع سياسية ملفعة بالفقه لا بمبررات فقهية معقولة؛ فالرجل لم يقل أكثر من أن الخلافة ليست قضية دينية ولكنها قضية مدنية؛ غير أن كلمة «مدنية» في تلك الفترة كانت مخيفة تقريبا، وربما كانت قريبة من كلمة الكفر، لأنها كانت مشربة برواسب التاريخ الأوربي الذي بدأ المسلمون يطلعون عليه مع نهاية القرن التاسع عشر، فعلموا منه أن المدنية تعارض الدين، لأن الأوربيين فصلوا بين السلطتين الدينية والمدنية، بالرغم من أن محمد عبده كان أول من استعمل هذه المفردة في كتابه المعروف الذي رد به على إرنست رينان، وأعطى للكلمة فيه معنى قريبا من كلمة العمران الخلدونية.
هناك رقمان يستحقان الوقوف عندهما اليوم: الرقم الأول هو 1924، وهي السنة التي أعلن فيها عن نهاية الخلافة في عاصمتها بتركيا، والرقم الثاني هو 2014، وهي السنة التي أعلن فيها عن قيام خلافة من عاصمتها الموصل. لكن الأزمة الفقهية الأولى التي ظهرت قبل تسعين عاما، من خلال الهجوم على عبد الرازق، تعود اليوم لتشكل عنصر رخاء في التجارة الفقهية التي يقوم بها تنظيم «داعش». بالأمس، تباكى الفقهاء على زوال الخلافة العثمانية؛ واليوم، يتباكون على قيام الخلافة الداعشية، لكنهم يحتفظون بنفس العدة الفقهية التي ساجلوا بها عبد الرازق، والتي يساجلهم بها اليوم تنظيم «داعش».
اتفق الفقهاء والمؤرخون على توصيفات لأشكال الخلافة المتعاقبة دون إدراك واع لما تستبطنه؛ فقد وافقوا على منح تلك الأشكال ألقابا ترتبط بالانتماء القبلي أو العائلي أو بالتحزب، فأطلقوا عليها تسميات الخلافة الأموية والخلافة العباسية والخلافة العثمانية، واتفقوا على تسميات للخلافات المناوئة الأخرى، مثل الفاطمية، مما يعني أنها كانت خلافة عائلية أو تنظيمية مرتبطة بحلقة معينة أو مركز نفوذ. وبقي السؤال حول تمثيلية هذه الأشكال للإسلام معلقا، وربما كان هذا السؤال هو ما جعل عبد الحميد بن باديس يبدي رضاه إثر سقوط الخلافة العثمانية، طالما أنها كانت مجرد أشكال ورسوم.
لم يتجرأ الفقهاء في تلك الفترة على إعادة النظر في «رسوم» الفقه التي نحتها الفقهاء السابقون عليهم، فبقيت الخلافة معلقة ما بين متغلب مطاع ومغلوب لا رأي له، أي أنهم حافظوا على نفس التقاليد السابقة التي طبقت عمليا. وحاصل المسألة أن ذلك التراث وضع قسمة ضيزى، إذ جعل كفة القوة هي الراجحة، وذلك على حسب كفة الدين، وبات على هذا الأخير أن يتبع القوة متى ما أخذت بالزمام، بتسويغ شرعي من أهل الفقه أنفسهم؛ فالخلافة لم تنتقل من الأمويين إلى العباسيين ومن هؤلاء إلى العثمانيين اعتمادا على الدين، بل على السيف، والسيف والجغرافيا هما اللذان ساعدا الناصر لدين الله على إقامة خلافته في قرطبة، وهما اللذان مكنا للفاطميين في القيروان ومصر. لم يدرك الفقهاء أنهم أسهموا بتراثهم المتراكم، حول حكم الضرورة وخلافة القهر، في فتح المجال أمام أي جماعة قادرة على حمل السلاح والهجوم عنوة لإعلان الخلافة باسم الدين، من أي مكان كان ذلك، والبدء في جمع البيعات الشرعية من الأطراف، مثلما تفعل «داعش» اليوم. شتت الفقهاء بذلك التراثِ المشروعيات السياسية في الفضاء العام، وتركوها لمن يتطوع لحملها أو التقاطها إذا توفرت له القوة والنفوذ.
من هنا تأتي هذه المفارقة حول كتاب مغضوب عليه قبل تسعين عاما، يصبح الخشبة التي يتمسك بها اليوم مـَن طاولته أهوالُ التقاتل باسم شرعية الخلافة. كتب عبد الرازق كتابه ردا عليهم، ويريدونه ردا منهم اليوم على المتطرفين.
ساحة النقاش