<!--
<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->
المساء = عبد الله الدامون
اختصاصنا تضييع الفرص: نحن واليابان (1)
العدد :2571 - 03/01/2015
هناك أمم وشعوب تعودت على اغتنام كل فرص التاريخ من أجل التقدم، وهناك أمم وشعوب تعودت على تضييع كل فرص التاريخ من أجل أن تبقى في قعر سلم البشرية.
اليابان، مثلا، توجد في أقصى الكرة الأرضية ومحشورة في رقعة ضيقة لا يمكنها أبدا توسيعها لأنها عبارة عن جزيرة محاطة بالماء من كل جانب، وحتى عندما أرادت اليابان أن تتوسع على حساب الأمم الأخرى فإنها «جابْتها فراسْها» ثم عادت لتبحث عن نفسها داخل جلبابها الضيق، فصار الجلباب أكبر من العالم، فلا يهم الجغرافيا بقدرما يهم ذلك الشيء الموضوع على قمة الجسد البشري والذي يسمى.. الرأس، وبداخله شيء اسمه الدماغ.
المغرب كان إمبراطورية ممتدة الأطراف على مدى زمن طويل، وأخذت رقعته تتقلص على مر القرون والسنين كما يتقلص الثوب المبلل تحت أشعة الشمس؛ وعندما خرج المغرب من الحماية أواسط الخمسينيات، بدا وكأنه قطعة مشوهة من الماضي، إلى درجة أن من يعرفون تاريخ بلادهم يحسون وكأن أرجلهم قـُطعت وأطرافهم بُترت.
اليابان بلد في أقصى الأرض ظل بعيدا عن تقدم أوربا بمسافات طويلة، ومع ذلك انتفض مبكرا وصار ينافس أوربا في آخر صرعات التقدم العلمي والتكنولوجيا، بل تفوق عليها.
والمغرب وُجد على بعد 14 كيلومترا من أوربا، وظل كذلك مذ خلق الله الأرض ومن عليها، لكنه لايزال إلى الآن وكأنه في باطن الأرض بينما أوربا في عنان السماء.
عندما أرسلت اليابان طلبتها للتعلم في أوربا في القرن التاسع عشر، كان المغرب أيضا على رأس البلدان التي أرسلت طلبتها إلى أوربا. بعدها عاد الطلبة اليابانيون إلى بلادهم وساهموا في صنع مستقبلها عبر توفير كل سبل العمل والتحفيز، وظلوا متشبثين بعاداتهم وتقاليدهم لأن العلم لا يتنافى مع الدين والتقاليد. وعندما عاد الطلبة المغاربة إلى بلادهم صاروا قيادا وباشوات وكتابا في بلاطات الحكام، وتعلموا العادات الإفرنجية وسلوكات استهجنها مجتمعهم إلى درجة أن الناس اتهموهم بالكفر والزندقة، فذهبت كل تلك العلوم والجهود أدراج الرياح.
اليابان دخلت عزلة قاسية على مدى أكثر من قرنين، من 1657 إلى 1837، وأغلقت كل مجالات الاتصال بالعالم الخارجي مخافة أن تتعرض للغزو والاحتلال؛ وطوال هذه المدة، تربى اليابانيون على روح المواطنة الصارمة وأنجبت البلاد قادة عسكريين من طراز «الساموراي»؛ لكن عندما خرجت اليابان من تلك العزلة سنة 1860، وجدت العالم قد تغير كثيرا من حولها، وتعرضت لسيل من محاولات الاحتلال، وصارت موانئها تحت رحمة الاحتلال الغربي، واكتشف الغرب أن هذه اليابان المخيفة التي طالما خشيها، لم تعد سوى نمر من ورق، واضطرت اليابان إلى طأطأة الرأس مؤقتا، مثل شجرة تميل أمام العاصفة، لكنها لم تنكسر.
المغرب بدوره دخل في عزلة قاسية في عهد السلطان المولى سليمان بين أواخر القرن الثامن عشر وأواسط القرن التاسع عشر، وفعل كما فعلت اليابان قبله، فأقفل موانئه أمام العالم، وانكمشت البلاد نحو الداخل. وعلى الرغم من قربه الكبير من أوربا، فإن المغرب انكفأ على نفسه مثل قوقعة وأدار ظهره للعالم؛ وعندما خرج من هذه العزلة، كان أول امتحان حقيقي له هو معركة «إسلي»، التي خاضها المغاربة دفاعا عن الجزائر، وكما تحولت اليابان إلى لقمة سهلة في فم الغرب، فإن المغرب بدوره سقط في مهاوي هزيمة منكرة في معركة «إسلي» سنة 1844، فاكتشف الغرب أن هذا المغرب، الذي طالما خشيه وخاف الاقتراب منه، ليس إلا نمرا من ورق.
كان المغرب واليابان، إذن، نمرين من ورق في أواسط القرن التاسع عشر، مع وجود الفارق طبعا، لكن بعد العزلة وبعد الهزيمة والإحباط سيكون الاختيار الأخير والحاسم للبلدين.. هما اختياران يتشابهان في البداية، لكنهما على طرفي نقيض في النهاية.
في أواخر القرن التاسع عشر، أرسلت اليابان طلبتها إلى أوربا ليمتحوا من آخر صرعات التكنولوجيا والتقدم العلمي وقتها، وفي الوقت نفسه كان طلبة مغاربة ضمن نفس البعثة في زمن السلطان الحسن الأول.
عاد طلبة اليابان ليساهموا في صنع التقدم العلمي والتكنولوجي لبلادهم، وعاد الطلبة المغاربة لكي يساهموا بدورهم في التقهقر العلمي والحضاري لبلادهم، فدخلوا فورا في عجلة التخلف السائدة عوض أن يكونوا قاطرة للتقدم.
في اليابان كانت الرغبة جماعية وصادقة من أجل الانطلاق نحو المستقبل، وكانت البعثة الطلابية مجرد حلقة صغيرة في سلسلة طويلة من الإصرار على التقدم؛ وفي المغرب كانت البعثة الطلابية إلى أوربا مجرد حلقة صغيرة في سلسلة طويلة من الإصرار على التخلف.
تشابهْنا مع اليابان كثيرا في التفاصيل، لكننا لم نشبهها أبدا في العمق.. وفي الصدق.
في الأسبوع المقبل، نتحدث عن تضييعنا الانتصار الباهر في معركة وادي المخازن.
ساحة النقاش