<!--
<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->
فلاش بريس= رشيد نيني
مقلق ويسوط على كبالتو
أفتى أحمد الريسوني يوم 3 يناير الجاري، بكون ذكرى المولد النبوي «لا يجوز تخصيصها بأي عبادة أو أي عمل تعبدي صرف، كصيام أو صلاة أو أذكار مخصوصة معينة، وأي شيء من هذا القبيل، فهو مجرد بدعة وليس من الدين في شيء».
لا شك أن المغاربة على المستوى الاجتماعي تعودوا على اعتبار يوم مولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم عيد، يتزاورون فيه ويتهادون ويتبادلون التبريكات والكلام الطيب، فيما الدولة على المستوى الديني، وعلى رأسها الملك، تعودت على إقامة حفل ديني لتلاوة أذكار مخصوصة تستحضر مولد الرسول الكريم وتصلي عليه.
وعلى هذا الأساس، فإن فتوى الريسوني المقيم في الدوحة، تأخذ بعدا سياسيا ملفوفا في قفاز ديني، مفادها أن الملك بإقامته لحفل ديني بمناسبة المولد إنما يشجع البدع، خصوصا إذا استحضرنا عنف الهجمة التي تعرض لها الملك خلال الأيام الأخيرة من طرف الإعلام المصري، ناهيك عن الإعلام الجزائري الذي لا يفوت فرصة لمهاجمة الملك شخصيا.
وبغض النظر عن كون الدكتور قد جازف مرة أخرى بإطلاق حكم قطعي في قضية يعرف الجميع أنها قضية خلافية بين المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة، فضلا عن أن كبار الفقهاء والعلماء المشهود لهم في تاريخ الأمة بالعلم والفضيلة، قد أجازوا هذا الاحتفال، بل وحضوا عليه، من قبيل شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني والإمام المحدث جلال الدين السيوطي والإمام النووي وغيرهم، فإن خرجة الرجل هذه المرة، تحتاج لأكثر من وقفة. فالرجل المحسوب على الجناح الدعوي لحزب رئيس الحكومة، مادام لم يصدر حتى الآن ما ينفي ذلك، يُفتي بكون الاحتفال بعيد المولد النبوي بدعة، وهو يعلم علم اليقين بأن «إخوانه»، وعلى رأسهم عبد الإله بنكيران وعبد الرحيم شيخي، حضروا الاحتفال الرسمي المعتاد الذي يقيمه القصر الملكي بهذه المناسبة. والسؤال الذي يتبادر للذهن أول الأمر هو هل بنكيران وإخوانه مقتنعون بفتوى الريسوني، وبالتالي فهم يحتفلون مع الملك بالمولد النبوي من باب التقية؟ أم أنهم يعترفون، بحضورهم الحفل، بأن المرجعية المذهبية «الجديدة» للريسوني تعنيه وحده، لاسيما بعد أن هجر الرجل ما يعتبره «بلاد الكفر» ليستقر نهائيا في ما يعتبره أيضا «دار الإسلام».
طبعا وحدها دائرة القيادة في العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح قادرة على الإجابة على سؤال كهذا، لكن المؤكد هو أن الرجل أضحى عبئا حقيقيا عليهم، لاسيما وأن خرجاته، والتي يخلط فيها بين الرأي الشخصي والفتوى الشرعية، قد حولته إلى «سفير فوق العادة» للفتن المشرقية في المغرب، لكونه يضرب المبدأ الذي تأسست عليه التجربة السياسية لإخوانه في حزب العدالة والتنمية، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: إذا ثبت أن دائرة القيادة في العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح تختلف جذريا مع الريسوني، وأنها تضمر هذا الاختلاف في هذه المرحلة التي ماتزال تجربتهم في الحكم غضة، فهل نحن إزاء نسخة مغربية من الصراع التركي التقليدي بين حزب أردوغان وجماعة فتح الله غولن؟
ثم هل سيمتلك بنكيران الشجاعة ذاتها التي امتلكها نموذجه «المثالي» أردوغان ويعلن تبرؤه من الريسوني بوضوح، لاسيما بعد أن تجاوز هذا الأخير كل الخطوط الحمراء؟».
وهل يُقدر بنكيران خطورة التغاضي عن التجاوزات «الفقهية» لشخص يحسبه عموم الناس قياديا في حزبه وحركته؟
ربما نبالغ في المقارنة بين الكاريزما الفكرية والتنظيمية لفتح الله غولن ونظيرتها لأحمد الريسوني، كما قد نبالغ في المقارنة بين حجم توغل جماعة غولن في مفاصل الدولة والمجتمع التركيين وحجم توغل الريسوني في الحقل الديني بالمغرب، خاصة أن حجم تواجد هذا الأخير لا يتعدى بؤرا صغيرة جدا تابعة له في بعض شعب الدراسات الإسلامية بالجامعات. لكن أن يعبر بنكيران والشيخي، تحديدا، عن موقفهما بوضوح من فتاوى «أخيهما» السابق، هو أمر أضحى ضروريا، ليس من أجلهما فقط، بل من أجل الوطن أساسا، لأن الريسوني بوصفه نائبا لرئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، لا يعبر عن رأي كأي مواطن، بل يصدر فتاوى، والفتوى كما يعلم الجميع لم تكن يوما مجرد رأي قابل للاتفاق أو الاختلاف، فكما من مصلحة الوطن أن يظل الشأن الديني بعيدا عن تقلبات أهواء الأفراد، فإن من مصلحة الوطن أن يكون موقف الحزب الذي يقود حكومته واضحا تجاه ما صدر عن الريسوني لكون فتواه فتوى تحيلنا مباشرة إلى صلب مشكلات حقلنا الديني، فهي تعطي الدليل القوي على أن التسيب في الفتاوى، وإخضاعها للحسابات السياسية والفئوية والمذهبية، على النحو الذي نلامسه بقوة عنده، هي مصدر كل المخاطر التي تعيشها دول كثيرة في المشرق الآن، وتجعلنا نؤكد ما أشرنا إليه في مناسبة سابقة، على هامش أحد الدروس الحسنية التي ألقاها وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية في رمضان الماضي، وهو أن وحدة الأمة المغربية وسلامتها من الفتن، ما ظهر منها وما بطن، مشروطان بإبعاد الدين عن الاستغلال السياسي، لأن ذلك هو صمام الأمان ضد الغلو من جهة، وضد التيارات السياسوية التي ما فتئت تتناسل وتعتمد على ما تشابه في الدين دون مُحكمه، لتحصل على السلطة، من جهة ثانية، ولنا في ما يقع في لبنان واليمن والعراق من بلقنة دينية ومذهبية، الدليل الأقوى على أن أمن الوطن يمر عبر بقاء الدين بعيدا عن الاستغلال السياسي على النحو الذي يظهر جليا في فتاوى الريسوني.
فالذين كانوا بالقرب من الرجل عندما بدأت تظهر نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، سمعوه يقول: «هذه هي البداية»، والسؤال الذي نطرحه هنا هو عن أية بداية يتكلم «الشيخ»؟ أي هل الحصول على رئاسة الحكومة مجرد «بداية»؟ إذن ما هي هذه النهاية التي يمهد لها الحصول على الأغلبية في البرلمان والحكومة؟
لنكن أكثر وضوحا، هل يحلم الريسوني الآن بالعودة إلى المغرب عودة الفاتحين على غرار عودة الخميني قبله، عندما مهدت فتاويه طريقه من باريس إلى طهران؟
صحيح أن فتوى الريسوني نكرة، فملايين المغاربة، الذين يحتفلون بذكرى المولد النبوي بما تمليها عليهم فطرتهم الدينية السمحة، لا ينتظرون فتاويه لإعادة التفكير في احتفال اقتضته محبتهم الأصيلة والمتوارثة أبا عن جد للرسول الأعظم وآل بيته الطاهرين، لكن المعني الأول بالإجابة عن هذه الأسئلة هم إخوانه السابقون في الحزب والحركة، والذين يستمرون في غموض موقفهم من الرجل، وتخزينه لأيام مقبلة، إذا لم تهب رياح الانتخابات بما تشتهيه مصالحهم.
فالريسوني المعروف بتعاليه، نصب نفسه عالما للعلماء في المغرب، وذلك بعد أن أعطاه مجمع الفقه الإسلامي الدولي بجدة صفة «خبير أول»، لذلك فهو لا يعترف بأحد قبله أو بعده من «خبراء الدرجة الثانية» في نظره، فنراه يجازف كل مرة بإعادة النظر في قضايا لطالما شكل إجماع الأمة المغربية حولها عنصر تميز وتفرد قياسا لمشرق مفتون ومتقلب بتقلبات رياح المذهبية فيه، دون حتى أن يختم فتاويه بالعبارة الشهيرة، «الله أعلم»، والتي يختم بها كبار علماء الأمة فتاويهم، ويمكن للقارئ أن يتأكد من ذلك بالعودة لفتاويه الموجودة في موقعه الإلكتروني وكذا كتبه، مع ما لعبارة «الله أعلم» من ثقل لدى كبار العلماء والأئمة، لأنها تفيد التواضع والاعتراف بقصور العقل البشري عن إدراك المقاصد الأولى لأحكام الدين، الواردة في الكتاب والسنة، إذ نجده تارة يخرج فتاوى بناء على ما يعتبره سؤالا جاءه من سائل، وتارة أخرى نجده يُصدر أخرى دون مناسبة، وتارة يكيفها لتكون وهابية، وأخرى لتكون إخوانية، مع التنبيه على الفوارق الكبيرة بين المرجعيتين، والتي ظهرت بجلاء بعد أحداث 30 يونيو بمصر.
من جهة أخرى، تطرح فتاوى الريسوني مشكلة إضافية، ففضلا عن مزجه بين الرأي الشخصي والفتوى، وتعاليه وعدم تريثه في إصدار الفتاوى، دون حتى أن يسأله أحد، أو ما يسميه بعض علماء الأمة «كسر القلم»، أي التأني والتؤدة في الإفتاء، هناك أيضا تأرجح فتاوى الرجل بين المذاهب، أي انتقاله من مذهب فقهي لآخر، وهذا أمر خطير لا يستقيم بإجماع العلماء، إذ لا يستقيم إيمان مسلم، يتعامل مع أحكام الشرع في المذاهب كما يتعامل المرء مع «السلع» في الأسواق الممتازة، إذ منهم من يُدخل هذا في مجال الفسق، فتارة نجد الريسوني مالكيا، لكون «المذهب المالكي يحظى قديما وحديثا وفي واقعنا المعاصر باهتمام خاص على مستوى الاجتهاد والتطبيق والعمل، حيث إن تنوع وتعدد أصوله وارتكازه على البعد المقصدي سمح بمسايرته للمستجدات واستيعابه للقضايا المعاصرة»، وهو كلام قاله الريسوني في محاضرات توجد في موقعه الإلكتروني، وتارة نجده حنبليا، ويتجلى هذا في اعتماده على فتاوى كبار شيوخ المذهب، وخاصة في نسخته الوهابية المعاصرة، من قبيل ابن باز والعثيمين والألباني، كفتواه التي يحرم فيها الاحتفال برأس السنة الميلادية، وتارة نجده إخوانيا، يكيف فتاويه مع أجندة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، مثل تبنيه فتوى للقرضاوي تحرم العمل في صفوف الشرطة المصرية بعد الإطاحة بمحمد مرسي، مع أن الشرطة ذاتها لم تكن تعطي للمواطنين المصريين الورود أو ترش عليهم ماء الزهر عندما كان محمد مرسي رئيسا. لذلك فقد اختار الانحياز للأجندة الإخوانية في موقفه مما يجري في مصر بعد 30 يونيو، علما أنه وبخصوص الموقف الفقهي من الاحتفال بعيد المولد النبوي، فإن الريسوني فضل عدم الاعتماد على فتوى القرضاوي ذاته، والذي يُجيز الاحتفال بهذه المناسبة، بل عاد مرة أخرى للمرجعية الوهابية، دون مشكلة.
وأمام «فيض» فتاوى أحمد الريسوني، حول كل شيء تقريبا، نرى كيف أن شيخنا سكت عندما انفضح أمر تدخل وزير الاتصال مصطفى الخلفي لابن الحمداوي، الرئيس السابق لحركة التوحيد والإصلاح، لكي يشتغل في أحد البنوك، رغم أن الريسوني هو صاحب فتوى تحريم كراء العقارات للبنوك، فما بالك بالاشتغال بها.
كما أننا لم نسمعه يفتي أو يدلي برأيه عندما انفضح أمر ابن محمد يتيم، زميله في الحركة، بمناسبة فوزه بخمسين مليونا في القمار بكازينو في مراكش، رغم أن الريسوني صاحب فتاوى كثيرة حول تحريم القمار وعائداته.
هنا نفهم جيدا أن فتاوى الريسوني محكومة بالوازع السياسي في المقام الأول، وأن البعد الديني في فتاويه ليس سوى مطية لإيصال رسائل الحزب والحركة من الخارج نحو الداخل.
ولعل ما يؤكد هذا المنحى ما قاله عزيز العماري، المدير العام لحزب العدالة والتنمية، في كلمته الافتتاحية بمناسبة لقاء بنكيران بالكتاب المجاليين لحزبه في بوزنيقة، من أنه لا يوجد من هو أكثر نضالية من شباب العدالة والتنمية لأنهم «خدامين مع الله». بمعنى أن كل من لا يحمل بطاقة الانخراط في حزب العدالة والتنمية «خدام مع الشيطان».
وهكذا ينطبق على بنكيران وحزبه وحركته المثل الشعبي الذي يقول «مقلق ويسوط على كبالتو».
ساحة النقاش