فلاش بريس = طارق أوشن
الطاشرون
عندما دوت الاحتجاجات بالملعب الكبير بمراكش وصدحت حناجر الجمهور الحاضر، نيابة عن الشعب المغربي، معلنة «سخطها» على الوزير محمد أوزين، عرف هذا الأخير أنه في مواجهة قدر مختلف عن كل المرات السابقة التي أطلق فيها العنان للسانه، «يقترف» الأخطاء في حق هذا الشعب ومؤسسته البرلمانية. ومع كل تلك المؤشرات الدالة حاول السيد الوزير الاستقواء كالعادة بالحكومة والحزب والأقرباء، وترفع عن تقديم «الاعتذار» في انتظار نتائج تحقيق، بدا في البدء وكأنه مفصل على مقاس نتائج مطبوخة سلفا. أعلنت الحكومة على لسان رئيسها أن الأمر ليس بـ«الكارثة الوطنية» بل مجرد «حدث محرج» ستتم معالجته وفق الأعراف المعمول بها في النموذج المغربي.
وكتبت الصحافة أن الحزب ربط مصير أوزين ببقائه في التشكيلة الحكومية، أما حماة السيد الوزير فقد ذكرتنا جميعا بأن صهرها ليس «طاشرونا» بل وزير يحمل درجة الدكتوراه، ويتعرض لـ«حملة غير منصفة»، مطالبة باعتذار كل من يهاجمون قريبها في حال تمت تبرئته من أية مسؤولية في تحويل ملعب كرة قدم، بعاصمة المملكة، إلى مسبح بـ«كراطة» وإسفنجة وسطل صباغة من صنع محلي. لكن ما تناسته السيدة العسالي أن كثيرا من وزرائنا ومسؤولينا يتحولون إلى «طاشرونات» بمجرد تسلم المنصب، يشيدون الفيلات بعيدا عن أحياء الفقراء والمعدمين.
سكتت المعارضة وبقية البرلمانيين عن الإهانة التي وجهها إليهم وزير الشباب والرياضة، حين فضل حضور مباراة نصف نهاية «الموندياليتو» بمراكش عن الحضور لجلسة المساءلة التي استدعوه إليها. لكن الشعب انتقم لـ«شرفهم» وأعلن أنه صاحب الكلمة الفصل في البدء والانتهاء.
قبل شهور قليلة كان الوزير نفسه واضحا في «احتقاره» لممثلي الشعب، حين خاطبهم في جلسة للأسئلة الشفوية على مرأى ومسمع العالمين: إن لم تستحيوا فافعلوا ما شئتم. كيف لا وهو الذي صرح ذات لقاء إذاعي، أن ما من أحد في هذه البلاد يمكنه توقيف «سيادته» غير جلالة الملك، وكذلك كان. خرج بلاغ الديوان الملكي واضعا حدا لـ«شطحات» الوزير، فخرس الجميع وابتلعوا ألسنتهم، قبل أن يعودوا للعادة القديمة التي أوصلت رئيس حزب «السنبلة» للقول إنه «قرار صائب»، قبل أن تكتب المواقع الإخبارية عن تسريبات لاجتماع الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية، اعتبر فيها السيد الأمين العام، الذي هو رئيس الحكومة ذاته، أنه «لا يمكن أن نرضى بالإضرار بصورة الوطن وهدر المال العام»، في الوقت الذي ثمن فيه بقية الأعضاء القرار الملكي «الحكيم والذكي».
يبدو واضحا أن الأحزاب السياسية المغربية وتحالفاتها الهشة المبنية على مبدأ الهواية القاتلة التي تميز بنية اشتغالها، صارت عبئا حقيقيا على تحديث المجتمع المغربي والرقي بالممارسة السياسية بالبلد، بما يضمن «الحكامة الجيدة» في التدبير العمومي. في المغرب لنا وزارة كاملة مخصصة للحكامة، باعتبارها واحدة من المفردات التي صارت الألسن تلوكها وتتخذها شعارات للاستهلاك الانتخابي، دون فهم حقيقي لمعناها ولا تكريس لمبادئها أو إعمال لآلياتها.
ولعل الغريب في هذا النموذج السياسي المغربي هو الغياب الكلي لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة، وإلا كيف يمكن تفسير غياب أي نوع من المحاكمات لرجال السياسة والمسؤولين العموميين باختلاف درجاتهم إلا فيما ندر، رغم كل هذه «الفضائح» التي تنشرها الصحف وتكشف عنها تقارير المجالس الرقابية للحسابات وغيرها. لقد تحولت الساحة السياسية إلى نوع من «الأخوية» أو «الجماعة» المغلقة التي لا تسمح بالمس بأي من أبنائها، مهما كانت انتماءاته الحزبية واختلفت قناعاته الإيديولوجية، مخافة خلق الاستثناء الذي قد يفتح المجال أمام جولات إعادة لن تستثني أحدا. لا يبقى للشعب غير «مسرحيات» رديئة الإخراج تستهدف إلهاء العامة عن شؤون الخاصة ومغامراتهم واشتغالهم الدؤوب على تقسيم الكعكة مناصب وزارية أو استشارية أو تمثيليات دبلوماسية أو غيرها للآباء والأمهات فيها نصيب كما الفروع. والشاطر من يكون فعلا «طاشرونا» سياسيا محنكا يحسن «الاشتغال» دون ضوضاء أو جعجعة لن يجني منها صاحبها غير أنظار «الطابور الخامس»، الذي صار لصرخاته كبير الأثر على مراكز القرار يستجاب لها مهما اختلفت أشكال الاستجابة وتنوعت.
في كلمته الافتتاحية للمجلس الحكومي الأخير، قالها السيد عبد الإله بنكيران: «كل واحد يدير شغالو». ونحن نضيف ما قاله السلف: «كل الذي فوق التراب تراب»، وبعده قوله تعالى: «وكلهم آتيه يوم القيامة فردا».
رحم الله محمد بسطاوي «طاشرون» مسلسل «دواير الزمان».. هي فعلا «دواير الزمان» ولا من متعظ.
ساحة النقاش