فلاش بريس = طارق أوشن
لا حول ولا قوة إلا بالله!
صباح الثلاثاء،وأنا في الطريق لإيصال أطفالي إلى مدرستهم، وبينما أنا في تقاطع طرق، رن هاتفي فإذا بها زوجتي التي غادرت منذ أقل من عشر دقائق تخبرني أن باها مات. أجبتها: من هذا الباها الذي مات؟ فردت: باها العدالة والتنمية. كان سؤالي منبعثا من عدم رغبة أو قدرة على تصديق الخبر. الموت علينا حق، لكننا نفاجأ دوما حين يتعلق الأمر بشخصيات عامة وكأننا نحسبها خالدة لا تموت.
زوجتي ليست مهتمة كثيرا بالشأن السياسي، لكنها رأت في الخبر ما يستحق أن يبلغني وبسرعة. قبلها بشهر تقريبا، بعثت لي زميلة في العمل في وقت متأخر من الليل أن أحمد الزايدي في ذمة الله.
نحن هكذا أبناء المغرب المنتشرون في المهجر،تصلنا الأخبار غالبا مع فارق زمن،لكننا رغم الفارق الزمني مهتمون بكل صغيرة وكبيرة بالبلد ولو كانت أخبار وفاة أو جنائز. ما زاد الأمر غرابة أن الخبر جمع الاثنين، حيث أن الوزير غادرنا في نفس مكان مغادرة النائب البرلماني، في صدفة لا يمكن أن ينسجها غير خيال عابث.
مات عبد الله باها، وزير الدولة الصامت، الذي لم يسبق لغير أبناء حركته وحزبه الاستماع إليه. لم أتذكر حين بلغني الخبر عن الرجل إلا صوره التي نشرت، قبل أشهر، وهو يزف ابنته إلى القفص الذهبي بلباسه التقليدي و«رزته» الأمازيغية التي تزيد قسمات وجهه أصالة و«مغربية». هو الانتماء القبلي يحركنا دوما ولو في حالات الحزن والوفاة.. رحم الله عبده باها.
بوزنيقة، المدينة الممر بين الدار البيضاء والرباط، تصنع الحدث مرة أخرى. لكن ما الذي جعل المرحوم عبد الله باها يتنقل شهرا بعد الوفاة التراجيدية للزايدي لتفقد مكان وفاة الأخير؟ سؤال ذهبت الإجابة عنه مع صاحبها ولن يعلم أحد أسباب مقنعة لما حدث بالضبط، ولمَ حرك الرجل وجعله يترجل من سيارته ويمشي في اتجاه حتفه المحتوم. أهو تواصل الخواطر أو نداء القدر أم الأجل انتهى؟
في الفيديو الذي انتشر لجمع أشلاء الراحل، ظهر وزير التجهيز عبد العزيز الرباح وهو يستمع إلى مواطن أخبره أن مكان الحادث «مسكون». صمت السيد الوزير متأملا قبل أن يبادر بالسؤال إن كان الأمر متعلقا بالقنطرة أو المنطقة كلها. قد لا نجد تفسيرا لما وقع غير الجنوح للغيبيات والاستعانة بها في انتظار تحقيق معلن قد لا يفضي إلى شيء. فالقدرة الإلهية ربما قررت أن تبدأ في إفراغ الساحة السياسية المغربية من «حكمائها»، وتفسح المجال للطفيليات لترتع فيها فسادا ومهاترات وصراع ديكة لا ينتهي.والخوف كل الخوف على مستقبل بـ«نخبة» سياسية جاهلة تفتقد الحكمة نبراسا بما يؤهلها للسير بالبلاد إلى بر الأمان. الزايدي كان ممثلا لفكر اتحادي متزن وقابل للدخول في توافقات غير مؤدلجة ولا منبعثة من أهواء لحظية راهنة. وباها كان صمام الأمان وكابح الفرامل لأية انحرافات ممكنة من طرف من يعتقدون أن «الثورة» علامة نضج. وحين تفقد بلادنا الاثنين في شهر وعلى نفس القنطرة اختناقا وأشلاء مبعثرة، فإن الأمر يحتاج من الطبقة السياسية، إن كان لدى أهلها بقية إيمان بالوطن، الكف عن التراشق والتنابز بالألقاب والتحلي بقيم «رجال الدولة»، إكراما للرجلين ومعهما هذا الشعب الذي سينسى كل أحزانه ومفقوديه خلال فيضانات، واجهها وحيدا أعزل، بعد أن أتت على الأخضر واليابس، ليبكي رجلا فردا قدر لوفاته أن تحمل رمزية دلالية لا يخطئها ذكاؤه وقلبه على حد سواء.
مات عبد الله باها، والأمل كله ألا يتحول رفيقه عبد الإله بنكيران، الذي طالما استشهد به، إلى جثة متحركة وجسد بلا روح. فاللحظة لحظة استجماع للقوة لتحقيق وعود الإصلاح، بما يجعل الفقيد مرتاحا في قبره، ويحقق للمغاربة كرامة وعزة في الدنيا قبل المغادرة إلى حيث الحساب والجزاء.
ساحة النقاش