فلاش بريس = محمد الأشهب
الهاربون من أطباء العيون
رفض الحسن الثاني أن يصبح زبونا دائما لدى طبيب عيون. قالها بنفسه عندما سئل عن حدود الثقة في محيطه الأقرب، بعد أن تعرض نظامه لأكثر من محاولتي انقلاب. استخلص بعدها عدم الثقة حتى في الوسادة التي يضع عليها رأسه أثناء النوم. وظل على عادته لا ينصح مساعديه بزيارة الأطباء إلا لماما.
الاستعارة هنا تذهب في اتجاه الرؤية والسمع والحدس، لكن مسؤولا اختلط عليه يوما التقاط ما يمكن أن يقوله الملك موجها إليه الكلام. ولأن حالة ارتباك تمكنت منه انفرطت حاسة السمع إلى مستوياتها الدونية. لم يفهم شيئا مما تناهى إلى سمعه. هل كان شكرا أم عتابا، مدحا أم ذما؟ ولجأ إلى وسيلة ترفع عنه بعض الحرج. زار طبيب أذن، عساه يشخص ما اعتراه من خلل، وحين واجهه بأنه لا يشكو شيئا في سمعه، أسر إلى صديق حميم بما حدث، فرد عليه بالقول: «ما هو الشيء الذي لا تفعله؟».
من وقتها أدرك المسؤول، الذي لا يزال حيا، أن أصعب المشاكل لا تأتي دائما من الأفعال غير المكتملة التي قد تكون خطأ أو صوابا، ولكنها تنبع أيضا مما لا يفعله المرء، حين يجب أن ينتبه إلى جوانب التقصير في عمل لم ينجزه أصلا.
في قصة أن الحسن الثاني رأس مجلسا وزاريا، وكانت مناسبة استفسر فيها وزيرا عن قضية لاحت له في آخر لحظة. فجاءه الجواب أقل إقناعا، بل أبعد ما يكون عن الإقناع، فردد أمام الجميع بصوت مسموع: «ماذا أقول للناس إذا كان لدى الحسن الثاني وزير بهذا المستوى». وأدرك النبهاء أن عمر الوزير حان قطافه، قبل أن ينضج، مع فارق في أن الرؤوس التي رأى الحجاج بن يوسف الثقافي أنها أينعت، لا تقطف في المغرب، إلا من خلال الإحالة على التقاعد المريح إلى حد كبير. فالوزير يبقى وزيرا في التقاليد الاعتبارية، لكن الشاطرين ممن اجتازوا الممرات الصعبة، مثل صحاري الإبعاد، يعودون إلى ممارسة المهن التي وجدوا لها، إن لم يكن بعضهم نسي أصول الحرفة الأولى مصدر الرزق.
أسعف الحظ الدكتور سعيد بلبشير ليصبح كاتب دولة في التعليم العالي والبحث العلمي، لأن شخصية أخرى تحمل نفس الاسم، سبق له أن عارض توجهات طرحت لإصلاح منظومة التعليم. وكان أكثر تشددا في رهن العملية بثلاثية التعريب والتعميم والتوحيد. وفي رواية أن الحسن الثاني عين بلبشير الأول، على رغم واقعة الانتفاء تلك، معتبرا أن آل بلبشير كرماء في عالم المعرفة والعلم والوطنية الصادقة. وظل التدقيق في المدرسة والأسرة والسمعة في مقدمة الأشياء التي يقاس بها ميزان التعيين في المناصب والمسؤوليات. لكن ليس كل ما ينقل يكون صحيحا دائما، إذ تختلط الأسماء والعناوين والكفاءات. ويكفي أحيانا أن يقال عن المسؤول المرتقب تعيينه «ولد الدار الكبيرة». وفوجئ وزير مرة، لدى طرح اسم شخص لتولي منصب سفير في دولة أوروبية، حيث واجهه الحسن الثاني بأن الاسم المقترح يعاني من مرض ما، لكن حدس الوزير حضر بقوة، ورد: «لهذا السبب يستحسن أن يتلقى العلاج هناك ويكون برفقة أسرته بدل إرساله وحيدا»، فالعلاقات بالدولة المعنية جيدة، بلا سفراء ولا ممثلين.
بعض المناصب تأتي على قدر العزائم والسلوكات والبيئة الحاضنة. وكنت إلى جانب مولاي أحمد العلوي، حين دعانا وزير لأن نزوره في بلدته. ومن أجل الإقناع بجدوى الزيارة قال: «ستركبون البغال» وكان يعني بذلك أن مسقط رأسه المعلق بين الجبال لا يمكن الوصول إليه إلا عبر استخدام الدواب في النقل، فرد مولاي أحمد: «الحمد لله أنك لست وزيرا للنقل»، والتفت إلى الحاضرين: «في هذه الحالة سنضيف ركوب البغال إلى عجائب جامع الفنا وحامة مولاي يعقوب ودفء مرزوقة».
في طرافة أن مولاي أحمد انتبه إلى نادل فندق وقد وضع أمامه فاتورة بما استهلكه أثناء استراحة دأب عليها كلما سقط الظلام، نادى على النادل وسأله: هل تعرفني؟ رد الآخر مؤكدا: نعم إنك مولاي أحمد العلوي. أمعن في تدقيق السؤال: هل تعرف مهمتي؟ رد النادل: نعم إنك وزير دولة محترم. ثم استغرق في السؤال: وهل تعرف معنى وزير دولة؟ صمت النادل قليلا، وقبل أن يجيب فاجأه مولاي أحمد العلوي بالقول: وزير دولة معناه وزير بلا حقيبة، فمن أين لي أن أدفع وأنا بلا حقيبة؟
تلك قفشات تصدق عليها أحيانا مقولة أن المستمع يجب أن يكون عاقلا. ولأن الرأي العام منشغل هذه الأيام بما يعرف بـ«فضيحة عشب المركب الرياضي»، أنقل واقعة عن بعض الآراء التي همت كيفية استغلال مرافق ذلك الملعب، روى الوزير الأول المعطي بوعبيد أنه دعي إلى اجتماع تحدد جدول أعماله في نقطة واحدة، تشمل كيفية استعمال مرافق تابعة لذلك المركب. لم يكن الاحتضان الرياضي تبلور في شكل قوانين وإجراءات. وأنقل عنه القول إن الحسن الثاني أخبره بأن تدبير تلك المرافق لجلب موارد مالية تخصص للفرق الرياضية، يشكل بداية تجارب تشمل باقي المركبات الرياضية، خصوصا في المدن الكبرى.
ترى من يستسيغ اليوم أن أرضية ملعب الأمير مولاي عبد الله جلبت العار على أوضاع التجهيزات والمرافق الرياضية. من يدري فما كل التعيينات تخضع لمعايير موضوعية وإن رددت على مسامعنا في كل حين، أن المغرب دخل مرحلة ربط المسؤولية بالمحاسبة.
وأختم بقصة سيدة عاينتها في مستشفى في باريس. كانت فرحة، ولم تفتأ تردد أنها تكون أكثر سعادة عند زيارة المستشفى وعرض نفسها على طبيب. وما كل الناس يحبذون عرض معضلاتهم على أطباء.
ساحة النقاش