فلاش بريس = محمد الأشهب
صدقت كنانيش الحالة المدنية أم كذبت؟
أوقف شرطي المرور سيارة تجاوزت السرعة المسموح بها. تقدم نحو السائق، من غير أن تلتقي نظرات أعينهما، طلب إليه الأوراق التي لا تقبل النسيان. أخذها وانصرف إلى الطوار المقابل. وفيما كان الشرطي إياه الذي تجاوز العقد الخامس من عمره، يهم بتسجيل مخالفة مرور. انتبه رفيقه في محطة المراقبة إلى أن سائق السيارة شخص ليس غريبا عن نظره، فسار نحوه لمعالجة الأمر.
تبادل الرجلان التحية، وأسر له السائق، كما يفعل كثيرون، أنه في الطريق إلى صيدلية لاقتناء دواء لابنه المريض. الأكيد أن هكذا مزاعم، أكانت حقيقية أو من نسج الخيال، تبدو من باب الادعاءات التي سمع بها شرطيو المرور، وباتوا يحفظونها عن ظهر قلب مثل أسطوانة مشروخة، إلى درجة أن الواحد منهم في إمكانه أن يجمع كما هائلا من الروايات التي تلتمس الأعذار. ومن لم يكن يبحث عن صيدلية ادعى أن ابنه ينتظره أمام باب المدرسة، وقد مر زمن على إغلاق المؤسسة التعليمية.
هو الخيال بطعم الكذب الأبيض يحضر فجأة. وكما الغائب حجته معه، فمن يخرق آداب الطريق على صهوة عربة فارهة أو مهترئة أو ما بينهما، يبحث في الغالب عن أعذار ذات طابع إنساني. لكن الشرطي الشاب قفزت إلى ذهنه فكرة محاباة، وهمس إلى السائق: أن رفيقه من جيل آخر لا يرغب في تفهم المواقف التي يمكن الاستئناس بها، إذا لم يحدث ضرر جراء مخالفة غير مقصودة، فقد مارس نميمة غير جارحة. طالما أن التفاوت في الأجيال والأعمار ينعكس على مستوى السلوك الفردي والجماعي.
تفهم السائق حيثيات لا تعنيه كثيرا، ففي كل المهن والمسؤوليات يسدل التفاوت هيئته. وحين كنا صغارا أتحفنا الأجداد والآباء بما كانوا يعتبرونه حكمة الحياة، لأن الذي «فاتك بليلة فاتك بحيلة»، وأن «قرن اربعطاش فيه المسكين طاش»، لكن أبناء الأمس الذين كانوا عفاريت صاروا كهولا يقدمون أطباق النصيحة لمواليد القرن الواحد والعشرين.
استدعى السائق كلام الشرطي الشاب، ثم تناساه لأنه تسلم أوراقه الثبوتية، من دون تسجيل مخالفة. كان يقيس الطريق بأعداد شرطيي المرور الذين يعرفون كيف يختفون عند بعض المنعطفات المغرية بانتهاك علامات الطريق، ثم ينبتون فجأة لتسجيل المخالفات. تلك مهامهم التي تحمي الراكبين والسائرين من زيغ المغامرات.
صفارة أخرى رست على سمعه الذي أصبح مرهفا، جراء تكرار المحاولات، أوقفه شرطي شاب عند معبر في اتجاه مدخل المدينة التي كان يقصدها. سلمه الأوراق من دون أن يطلبها منه، ردد في نفسه أن بعض النهارات تلوح نذرتها من الساعات الأولى. ترجل الشرطي بضعة أمتار يتأمل الأوراق قبل تسجيل مخالفة جديدة مفترضة.
تحولت الطريق إلى غرفة انتظار، لكن شرطيا ثانيا متقدما في العمر لاحظ دهشته. تقدم نحوه لأنه كان يعرفه، ربما من خلال التلفزيون. سأله عن نوعية المخالفة، فرد بأنه لم يفعل شيئا. ثم أطلق الشرطي الأكبر سنا العنان قائلا: «لا تغضب، إن صديقي من الشباب الجدد الذين التحقوا بالمهنة أخيرا»، وطلب إليه أن يتفهم حيوية واندفاع مراحل العمر، ثم تدخل خيطا أبيض لإنهاء المشكل الذي تعود على أصنافه. ومن غير شرطيي المرور يعرفون طباع الناس، إذ يجرون في اتجاه مكاتبهم صباحا أو يغادرونها قبل نهاية الدوام. فالطباع تتغاير بين راكب وراجل، وإن كانا يقصدان نفس العنوان. تماما كما تتباين بين الذكور والإناث. ويا ويل من يضع علامات التسعين على الزجاج الخلفي لعربته. لكن سعادة تغمره لأن الزجاج يقيه سماع أصوات منتقديه في طريقة قيادة السيارة.
شرطيان بهمة واحدة، تفصل بينهما سنوات التجربة. يقفان معا على نفس الحد من الضيق أو التفهم. في الأولى بدا من تقدم به العمر لا يريد أن يتعلم أو ينسى ما تعلمه من صرامة. وفي الثانية زايد عليه الأصغر سنا في تمثل أداء الواجب. غير أن هفوة السائق غير المتعمدة، كانت وراء اكتشاف «صراع أجيال» من نوع آخر.
في مطلع تسعينيات القرن العشرين التقيت دبلوماسيا صديقا تعلوه تقاطيع الحزن وخيبة الأمل. كشف أنه كان ضمن قائمة محتملة لتعيين سفراء جدد في عواصم غربية وإفريقية، ووفق شهادات زملائه، فقد كان نموذجا للدبلوماسي المرن الذي درس القانون الدولي وعلوم السياسة في معهد عالمي. وأضفت عليه بعض سنوات التجربة طموحا كبيرا، كان مؤهلا لإنجازه. غير أنه قبل أن يتسلم أوراق اعتماده، قيل له إن لديك «عيبا» يحتاج إلى تصحيح. التفت إلى نفسه وتجربته، قبل أن يعرف أن عيبه كان صغر سنه. وفي العمل الدبلوماسي يتطلب الأمر النضج والاتزان.
في الفترة إياها كان عمره لا يزيد عن بداية العقد الرابع. غاب الرجل في زحمة الأيام والمشاغل والغابات التي تترعرع في أوساط المدن والأمكنة والأزمنة. عندما التقيته آخر مرة قبل بضعة أيام كان أقل حماسا وأكثر إنهاكا. سألته ما السبب، فرد بتلقائية: في أيام خلت كان ينظر إلى جيلنا بأنه صغير في العمر والتجربة، واليوم ينظر إليه بأنه متقدم في العمر. قلت له إن بعض الأجيال مثل الأفكار أشبه بقناطر العبور، وإن كان جوهر الأشياء لا يقاس بالأرقام المسجلة في كنانيش الحالة المدنية، وإنما بالقدرات والأفعال والكفاءات.
لكن صراع الأجيال كاف لأن ينزع عن الوجوه ما تدثرت به من أقنعة، ولولا الصراع الذي يشمل كل مناحي الحياة، لما صار لها المعنى الذي ينشده الجميع. ولازال السائق يتوقع أن يوقفه شرطيان من جيلين يتعلم أحدهما من الآخر.
ساحة النقاش