المساء = عبد الله الدامون
الطائرات.. والسّْليبّات
العدد :2559 - 20/12/2014
في العاصمة مدريد، كنا في زيارة لواحد من أشهر مصانع الطيران في العالم. دلفنا إلى حيث نادرا ما يدلف الزوار وشاهدنا عن قرب آليات صناعة طائرات مدنية وعسكرية على قدر كبير من الدقة والتكنولوجيا المتطورة. إلى جانبي كان يقف مسؤول في الشركة، فقلت له: هل تدري أي شيء أثار إعجابي هنا؟ بدا الرجل ذكيا كفاية وقال لي: أكيد أنها ليست الطائرات التي أمامك لأنك صحافي ويُفترض أن تلفت انتباهك أشياء أكثر أهمية. قلت له إن أكثر شيء أبهرني هو أن هؤلاء العمال المهرة الذين يصنعون هذه الطائرات قطعة قطعة لا يصل سن أغلبهم إلى الثلاثين، وهم يتصرفون وكأنهم فوق الستين من فرط مهارتهم، والعمال كبار السن يرافقونهم في العمل فقط..
أجابني ذلك المسؤول بأن هذه الطريقة هي من أجل ضمان المستقبل، وأن الشركة التي لا تعتمد على عمال وتقنيين شباب ومهرة لن تضمن مستقبلها أبدا، خصوصا وأن شركة طيران عملاقة مثل تلك التي زرناها تخوض منافسة شرسة مع مقاولات أخرى عملاقة في مجال الطيران، وهي تتوقع أن تستمر تلك المنافسة لعقود، وربما لقرون أخرى مقبلة، وإذا لم تجعل من الشباب عمودها الفقري فهي ستنهار يوما ما.
في مناسبة أخرى، زرنا مقر القناة التلفزيونية الأولى في مدريد.. هي أقدم قناة تلفزيونية في البلاد، وتضم بين بُرجيها الكبيرين أزيد من ثلاثة آلاف صحفي وتقني وموظف وعامل، وميزانيتها هي الأضخم من بين كل القنوات التلفزيونية في إسبانيا كلها، وتحظى بمشاهدة كبيرة خارج البلاد. جلسنا ننتظر مدير الأخبار في هذه القناة العملاقة ونحن نتوقعه شيخا اشتعل رأسه شيبا أو رجلا يسير نحو الكهولة، متأنق بربطة عنق وبذلة غامقة، غير أنه انضم إلينا شاب لم نأبه له في البداية، يرتدي قميصا عاديا جدا وسروالا يسير نحو الشحوب وحذاء شاخ من فرط التنقل بين ردهات القناة.. تحدث معنا ذلك الشاب بصراحة مفرطة عن واقع القناة ومعاناتها، وبدا من كلامه أنه عاش مئات السنين في مجال الإعلام، ورسم أفقا للمستقبل، تفاؤلا وتشاؤما.
في ردهات ذلك التلفزيون، رأينا شبابا كثيرا في كل مكان، وأكثر ما أثار الانتباه هو تلك الملصقات النقابية في كل مكان، ملصقات تدعو إلى إضرابات أو اجتماعات، وفتيات جميلات يبدين مثل الرجل مهنية وصراحة.
في أي مكان ندخله نجد أن كل من يحتل منصبا أو يجلس في مكتب ما يحس بمسؤولية حقيقية على عاتقه من أجل خدمة بلاده أولا، ويحس أيضا بأن أي تهاون منه سيجعل الرياح تطير به لكي يأتي مكانه شخص آخر أكثر منه كفاءة.
عندما عدت من إسبانيا اتصل بي صديق وثوق وقال لي إنه يريد أن يخبرني بشيء مهم، وما أكثر الأشياء المهمة في هذه البلاد.
جلس الصديق وتنهد وقال إن ذلك المصنع «الدولي» الشهير الذي يتحدث عنه الناس وكأنه معجزة حطت علينا من السماء، تجري فيه أشياء مهينة، بل مشينة، أولها أن من يريد العمل هناك يجب أن يدفع ما بين خمسة وعشرة ملايين سنتيم، وإذا كان المتقدم لطلب العمل فتاة فإن هناك شروطا أخرى، وهي أن تمر من على فراش من سيوظفها.
استرسل الصديق في الكلام وكأنه لم يقل شيئا، وأضاف: «هل تعرف أن هناك مصلحة طبية في هذا المصنع؟ وأن أي أحد يتم قبول ملفه لا بد أن يخضع لكشف طبي؟ قلت له هذا تحصيل حاصل، فأجاب أن هذه هي «الحصْلة».
قال الصديق، وبنبرة واثقة، إن فتيات جميلات يتقدمن للعمل، وغالبا ما يدفعن المال ليتم قبولهن، وفي آخر مراحل القبول يُطلب منهن المرور عبر المصلحة الطبية، وفي غرفة «السّكانير» يُطلب من الفتاة التجرد من ملابسها كافة ولا تبقى إلى بـ»السّليبْ»، وهذه العملية غير قانونية بالمرة، لأن «السّكانير» متطور اليوم ولا يحتاج إلى «تزْبيط»، لكن هذه العملية تجري حتى يرى الرؤساء في المصنع جسد كل فتاة ويقوّموا قوامها من أجل المستقبل، وكل واحد من الشلة الفاسدة يختار الفتاة التي تعجبه أو القوام الذي يستهويه أكثر... لأنه بعد ذلك مباشرة يبدأ كل غراب أسود في التحليق فوق فريسته.
بدوتُ غير مُصدّق.. غير أن الرجل أقسم لي بأغلظ الإيمان أن ذلك ما يجري، فتذكرت وجودي في مقر التلفزيون وفي مصنع الطائرات بمدريد، وقارنته بما يجري في مصنع «الرعب» بطنجة، وقلت مع نفسي كيف لا يذهب المغاربة جميعا نحو السكة الحديدية تحت جنح الظلام ويمسكوا برؤوسهم وينتظروا القطار السريع ويقولوا: مرحبا بك أيها الموت... هذه بلاد زفْت!!
ساحة النقاش