المساء = محمد أمزيان
حاشية السوء
العدد :2555 - 16/12/2014
أنا روما»! كان يصيح كاليغولا في حاشيته المنافقة فتصفق بخشوع. الطغاة عادة ما يختزلون الوطن في «أناهم» المتخمة بالجنون، ولهم عبر التاريخ حاشية تمسح عنهم قذاراتهم وذماماتهم الخُلقية والخلقية. يحكى أن الزعيم بورقيبة تملكه بدوره الإحساس بالعظمة وهو في القاهرة منفيا. سقط ذات يوم في الحمام فصرخ: كادت تونس تضيع!
الحقيقة المؤلمة أن التاريخ ميال في الغالب إلى تسجيل «إنجازات» الطغاة، أكثر من الالتفات إلى من عرفوا بنوع من الرأفة برعاياهم. صحيح أن درجة الطغيان تختلف من طاغ إلى آخر، إلا أن معاناة الناس تبقى واحدة. فكاليغولا، قيصر روما الذي كان يصلح لكل شيء إلا للحكم، زينت له حاشيته أنه مثل الإله، وربما أكثر لأن عقابه لا يؤجل، وأنه على كل شيء قدير، وكثيرا ما كان يتفجر غضبا من «فشله» في التحكم مثلا في مسار الشمس، مشرقها ومغيبها، مما كان يثير لدى العامة «وشوشات» تصل أصداؤها بطبيعة الحال إليه، فيزداد غضبه ويشتد انتقامه، ومن ذلك أنه قرر ذات مرة أن يحدث «مجاعة» عامة يعقبها «رخاء»، فمنع القوت عن فقراء شعبه حتى كاد يفنى. ولعل أطرف قرار اتخذه هو تعيين فرسه المحبوب عضوا في مجلس الشيوخ! في الواقع قرار صائب لأن الفرس مطيته في التنقل، ومجلس الشيوخ مطيته في الحكم والتحكم في رقاب الناس. نزوات الانتقام عنده لم تقتصر على الإهانة فقط، بل تعدتها إلى القتل والتشويه. وهكذا كان ينتقم من خصومه بأن يرغمهم على التمدد فوق مصطبة، فمن كانت قدماه قصيرتين مددهما حتى تقطعت أوصاله، ومن تعدت قامته طول المصطبة أمر بجز الأطراف الزائدة بالمنشار! كاليغولا هذا هو عم نيرون الذي أحرق روما بأهلها، بينما صعد هو إلى إحدى التلال السبع المحيطة بروما لينتشي بمنظر الحرائق، وهو ينشد أشعار هوميروس في حرق طروادة.
تاريخ المنطقة العربية يزخر بدوره بجنون طغاته، لعل أقربهم إلى الأذهان العقيد القذافي ملك الملوك. هذا المجنون أصر على تشييد نهر صناعي يحول الصحراء الليبية القاحلة إلى جنة خضراء، وكتب كتابا صدر في طبعة تشبه طبعات القرآن الكريم. وقيل إن «محتالين» أقنعوا القذافي بأن يأمر بنقش مضامين «الكتاب الأخضر» على لوحات من المرمر الإيطالي الرفيع، وإيداعها قيعان البحار والمحيطات، حتى إذا ما انتهت الحضارة الإنسانية الراهنة، فإن البشرية القادمة ستهتدي بنور الكتاب الأخضر
المحفوظ.
صدام حسين زينت له حاشيته أيضا كتابة اسمه بالأحرف المسمارية وحشره ضمن الكتابات الكثيرة التي تزخر بها جدران بابل، ليُقرأ اسمه وكأنه نابع من عبق التاريخ والحضارة البابلية القديمة. كما نحت فنانون عراقيون معروفون تماثيل لـ «القائد الضرورة» على نمط الصورة المتخيلة للقائد البابلي نبوخذنصر الذي تقول كتب التاريخ القديم إنه قهر اليهود وأسر أعدادا منهم ورحلهم مذلولين إلى بابل عقب غزوه فلسطين.
ولعل أغرب قرار مجنون تناولته الصحف مؤخرا، هو ما انتهت إليه عبقرية الحاشية المستحكمة في كوريا الشمالية. ففي هذا البلد المعزول عن العالم تقرر منع تسمية المولودين الجدد باسم الزعيم الفذ، والقائد الملهم ووارث عرش أسرته الخالدة الزعيم كيم يونغ أون. وتقول بعض الأخبار الواردة من هذا البلد المسي، إن الحكومة شرعت فعلا في تنفيذ مقتضيات فرمان صودق عليه قبل ثلاث سنوات، ويقضي بمنع إطلاق أسماء الأسرة الحاكمة في البلاد على أي مواطن آخر. نفاق الحاشية لم يتوقف عند «حرمان» المولودين الجدد من حمل اسم «زعيمهم» المفدى، بل وصل إلى حد إحصاء كل من يحمل اسم الزعيم الحالي أو اسم والده أو جده، وإجبارهم على استبدالها بأخرى. والهدف من هذه العملية الغريبة هو أن لا يذكر التاريخ إلا أسماء أسرة يونغ العظيمة وكأن الزمن بدأ معها وسيستمر معها وحدها
ساحة النقاش