فلاش بريس - المصطفى مورادي
بكاء الوزير الصديقي
شهد أول اجتماع للمجلس الإداري للوكالة الوطنية لمحاربة الأمية، والذي ترأسه رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، حادثا إنسانيا عميقا، تجلى في استسلام وزير التشغيل عبد السلام الصديقي للبكاء، عندما كان يلقي كلمته، والتي لم تخل من عمق إنساني، قلما نجده في الاجتماعات الرسمية، إذ بدأ مداخلته بالحديث عن أهمية ورش القضاء على الأمية بالنسبة لمستقبل المغرب، ليأتي في حديثه ذكر لبعض المعطيات التي تهم أسرته، حيث تحدث بعاطفية محترمة عن نضال بعض أخواته الأكبر منه سنا ضد آفة الأمية.
وإلى الصديقي الإنسان نهدي هذا المقال:
التعليم والتثقيف صنوان للتنوير، وأما التجهيل فكان دوما أداة للطغيان، ومتى استشرى الجهل والأمية في قوم صاروا عبيدا لحكامهم، ولم يعرف العالم الحر سبيله للتحرر الجماعي الذي نسعى للاقتداء به بشكل حثيث إلا بعد أن تحرر أفراده، فتحررت العقول من الخرافة والوصاية، والقلوب من الخوف والترهيب. عندها تحررت ملكاتهم فأبدعوا وأجادوا وأفادوا..
والتاريخ يعلمنا أن الأميين هم سند المستبدين في أي زمان وأي مكان وجدوا واستنبتوا... وهذا التاريخ أيضا يعلمنا أن الحرية و الحق لا يستقيمان دون علم و التزام، فالأحرار الحقيقيون هم متنورون وملتزمون بالضرورة، فإن كان بعض الشباب المغربي اليوم يعتقد أنهم تحرروا من الخوف، وأضحوا يجدون في أنفسهم مقدرة على أن يقولوا ما يفكرون فيه دون أن يفكروا في ما يقولونه، فلأن زوال حجاب الخوف عندنا لم يرافقه للأسف زوال لحجاب الجهل بعموم المعنى. فاليوم، من السهل أن نعلن كل شيء باسم كل شيء، ونشتم الجميع باسم شعارات تحكمها الأهواء والانفعالات، ونمضي لبيوتنا مطمئنين أننا أضحينا مناضلين لا يشق لنا غبار.
اليوم، من السهل أن نضرب عن العمل لشهور معتقدين أننا أصحاب قضية وحق مطلق، مع أننا نفوت على أنفسنا كل مرة نقوم بذلك، فرصا ثمينة لمساءلة وضعنا، إن كان فعلا ما نقوله ونطالب به يستقيم والمهمة التي التزمنا أمام هذا الشعب أن نقوم بها بتفان، عندما نتقاضى أجورنا من جيوب هذا الشعب ولكننا نساهم في تجهيل أبنائه، ونقدمهم لقمة صائغة للمستبدين والفاسدين.
ما يؤسف له، هو أن المدرسة المغربية كانت على مدى أربعين سنة رقعة شطرنج تدار من خارجها، كان يشارك في لعبتها لاعبان اثنان، وتتحكم في قواعدها عقول لم تنتم لها يوما، لذلك كانت كل برامج إصلاح التعليم يراد منها التجهيل، أو تنتهي إليه، إذ على مدى أربعين سنة كان النظام ينظر لها باعتبارها مشتلا لاستنبات الانقلابيين والساخطين والمعارضين، وكانت بالمقابل قوى المعارضة تعتبرها ورقة كاسحة لمحاربة هذا النظام. أما اليوم فلاتزال القطعة ذاتها، ولكن ليست بين لاعبَيْن اثنين بل بين لاعبِين كُثر أغلبهم يلعب بعبث، وبدون قواعد أو روح رياضية. والنتيجة هي أن المدرسة المغربية أضحت رافدا للأمية بدل أن تكون رافدا للتنوير.
اليوم، إن كنا فعلا مؤمنين بكوننا قد دشنا بعد 9 مارس مغربا جديدا، فإن اللبنة الأولى لبناء هذا المغرب، هي التثقيف والتعليم، ومن العبث أن نطمئن لبروباغندا كشف لائحة المنتفعين بالمأذونيات أو تقديم هذا «الفأر» أو ذاك للمحاكمة، فعملية التغيير لا يمكن أن تصبح تقدما بالمعنى العميق للكلمة إلا إذا كسرنا جدار الأمية ووسعنا أفق الرؤية بالنسبة لأفراد الشعب.
فما بين ارتجالية التدبير الحكومي في محاربة الأمية، و«لاوطنية الباطرونا» ولامبالاة الأحزاب والنقابات.. تضيع هذه الحقيقة، ويصبح الجميع، مساهما بهذا القدر أو ذاك في تكريس التخلف والجهل، وتصبح الحرية في عرف أبنائنا هي تخريب الممتلكات العامة، وحرية التعبير هي الشتم والسب والطعن في الشرف. فزوال حجاب الخوف لم نوفر له شروطه ليصبح تحررا بالمعنى القوي للكلمة، إذ حولنا تعليمنا إلى مؤسسة للإبقاء على حجاب الجهل، والشعب الجاهل وغير الخائف، هو إعصار يصعب التنبؤ باتجاهاته.
اليوم، الحكومة الحالية يفترض أن تكون توافقا على تصور موحد لمشروع مجتمعي ما، فإذا كان الدستور الجديد قد وضع لبنات مغرب متنوع وحديث فإنه لا يمكننا أن نسكن اللّبِنة، بل نبني عليها ما نعتقد أنه منزل المستقبل، وهذا المنزل يصبح جحيما لا يطاق، جسما هلاميا مرعبا بعقول تكره هذا المنزل، أو عقول تستغل هذا المنزل، أو عقول تخربه. فما قيمة أن نبني قنطرة جديدة أو نستورد قطارا جديدا أو نبني مطارا جديدا إذا كان من سيستعمل هذه المنجزات مخربا وأميا من ناحية ثقافة احترام المرفق العام، فنحن بهذا نكون كمن يريد دخول المنزل عبر سقفه وليس من أبوابه، دون أن ندرك أن دخولنا عبر السقف فيه تخريب لهذا المنزل، فنحن نراهن على تحديث المجتمع من خلال التوجه لقطاعات نعتقد أنها «منتجة»، بينما لا نلقي بالا للقطاعات التي يبنى عليها المشروع المجتمعي للأمة، أي القطاعات التي تكون وتنمي العقول المنتجة والمؤمنة بمصير وطنها، العقول المتنورة والمبادرة والمتطوعة، لا العقول المخربة والخرافية والريعية. لذلك يحق للصديقي الوزير والإنسان أن يبكي، يبكي نضال أخواته، ويبكي نضال أمة لم تستطع بعد أن تزيل حجاب الجهل عن ثلث أبنائها.
ساحة النقاش