فلاش بريس - المصطفى مورادي
انفتاح ثقافي مؤسسي ومنظم
يفترض في النظام التعليمي أن يحتضن تكوينات حقيقية عن الترجمة وعلومها ومجالاتها، فالذي يلاحظ هو أن بعض الأساتذة الجامعيين يعتبرون الترجمة امتيازا لوظيفتهم، وبالتالي يحتكرون النصوص المترجمة، ويعطونها للطلبة مترجمة وسهلة، معتقدين أنهم يحسنون صنعا، هذا على فرضية أنهم يتقنون اللغات المختلفة التي ينسبون أفكارهم لها. فكل التخصصات والشعب هي في حاجة لعمل ترجمي منظم، فلو أن كل شعبة تكون في كل أربع سنوات عشرة متخصصين في الترجمة منذ الاستقلال، لكان مستوى التكوين في الجامعة المغربية على نحو مغاير.
ففي مجال الفلسفة، لا نملك متخصصين في اللغة الفارسية واللغة اللاتينية، أما اللغتان الألمانية والإنجليزية فهناك حالات قليلة لا يمكنها، مهما كانت قوة أصحابها، إحداث الانفتاح المنشود على فلسفات الألمان والإنجليز. الأمر نفسه في العلوم الإنسانية، من قبيل علم الاجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا والتاريخ، فنحن في حاجة ماسة لمترجمين متخصصين في الترجمة للانفتاح على الثورة الهائلة التي تحدث اليوم في هذا المجال. الشيء نفسه في الآداب، فنحن لا نملك عملا ترجميا منظما من اللغة الروسية التي أنتجت ديستوفسكي وتولستوي وباختين وغيرهم، ولا نملك مترجمين من الإنجليزية الأمريكية والفلامانية لغة الهولانديين، بل حتى ترجماتنا من اللغتين الفرنسية والإسبانية غير منظمة، لأن الدولة ليست لها استراتيجية لمؤسسة الترجمة.
ولأن عمل الترجمة في مجال الآداب والعلوم الإنسانية لم يكن فقط تعريبا ونقلا لغويا ميكانيكيا، على شاكلة الترجمات الفورية في الخطاب اليومي النفعي كالصحافة مثلا، بل هو مثاقفة وتثاقف وتبادل وانفتاح، فإن أي نظام تعليمي لا يدمج الاشتغال على الترجمة في صلب تكويناته، هو نظام تمامي يكتفي بالمنجز والمعطى، ولا يمكن أن يطور ذاته، لأنه يعتمد على النسخ ويهمش الأصول، ويمجد الذات ويقصي الآخر، وكل مخرجاته تكاد تكون متشابهة ونمطية تجتر الأخطاء، وهذا أصل كل رزايا التعليم المغربي اليوم.
ولأن الترجمة في المغرب تتم بمبادرات فردية منعزلة لباحثين ومجتهدين، ولا تتم في إطار مؤسساتي منظم، إذ يتم تقسيم العمل الواحد على عدة متخصصين، فإنها تبقى محدودة الأثر في أحسن الأحوال، وأحايين كثيرة نجد أن ضررها أكثر من نفعها. ولإخواننا في المشرق باع طويل في الترجمات السيئة والتجارية، والتي لا تخدم في المحصلة أي أحد، اللهم إلا تفريخ العشرات من النماذج عن الشاعر الواحد والفيلسوف الواحد، ولا أحد منها يقربنا حتى من حقيقته. والأخطر هو أن تجد مترجما عربيا يترجم من الإنجليزية مفكرا أو فيلسوفا أو أديبا ألمانيا أو فرنسيا، وعندما يستدعى إلى الندوات، غالية التكلفة، يتم تقديمه على أنه متخصص فيهم مع أنه يجهل تماما لغتهم الأصلية، بل وأحيانا نجد مترجمين إلى اللغة العربية يرتكبون أخطاء فادحة في اللغة العربية التي يترجمون إليها، خصوصا على مستوى التراكيب والنحو، ومنهم متعسفون يعمدون إلى اللغة فيشتقون منها مفردات ومفاهيم لا يفهمها إلا هم، ظنا منهم أنهم بهذا يبدعون ويحسنون صنعا.
أما تأثير هذا الوضع في المستوى التحصيلي، فخطير جدا، يكفي أنه ينتج متخرجين انفصاميين وأحاديي التفكير واللغة، كأن نجد مثلا مجازين في اللغة الفرنسية يحتقرون اللغة والثقافة الفرنسيتين، ونجد مجازين في اللغة العربية لا تتعدى قراءاتهم الأدبية ما قرؤوه في المقررات. وتجد مجازين في الفلسفة يعتبرونها كفرا وزندقة، والأمر نفسه في الزمن الماضي عندما كان البعض يفتي في ماركس، مع أن قراءاته كانت في الأحسن الأحوال عبارة عن تلك الترجمات العربية السيئة ذائعة الانتشار لدار التقدم السوفياتية..
ينبغي، أيضا، ونحن نتناول مسألة الترجمة، القول إنه منذ الإقرار الرسمي لمبدأ التعريب، الذي حكمته أجندة سياسية انفعالية غير رصينة، هو خطأ استراتيجي. فإذا كانت فرنسا، على جلال قدرها في العلوم والآداب، غير قادرة على الاستغناء عن الترجمة من اللغتين الإنجليزية والألمانية، فكيف سيتسنى لنا مواكبة عالم اليوم بلغة واحدة لا نكاد نتحكم فيها؟ كيف سيتسنى لنا الانفتاح والتعايش مع الآخر إن كنا غير قادرين على فهمه وإفهامه؟ هل من المعقول أن نعطي مكانة الأستاذية في الجامعة لشخص يشرف على عشرات البحوث سنويا في مواضيع «قل ما شئت»، وهو لا يتقن لغتين على الأقل؟
هكذا نخلص إلى أن الترجمة أكبر من أن تكون مجرد مادة دراسية، أو مجرد بحث عشوائي منحول، أو مجرد كتاب تجاري لتحقيق الشهرة، بل هي الرهان الأكبر الذي ينبغي تقعيده بوضوح في صلب تكويناتنا سواء المدرسية أو الجامعية أو المهنية، لكونها فرصتنا الوحيدة للعبور نحو العالمية.
ساحة النقاش