فلاش بريس - المصطفى مورادي
كيف تكون موظفا برتبة تمساح أو عفريت؟
للمعلم الأول أرسطو جملة قوية هي «أن الفضيلة جديرة بالتزامنا وليس بمدحنا»، ومن يسمع بعض مسؤولينا يمدحون قيم الحكامة والشفافية والمحاسبة وغيرها من قيم التدبير الإداري الحديث، ويرى في المقابل ضيق صدورهم من النقد الموجه لأدائهم، وردود أفعالهم اتجاه مصدر هذا النقد، فإنه سيستنتج الحكمة البالغة الثاوية في هذه المقولة الأرسطية، تماما كما سيستنتج أن أولى المعارك لترسيخ كل قيم الإدارة الحديثة، تبدأ بترسيخ ثقافة المرفق العمومي، فعندما يعي كل مسؤول بأنه يقوم بخدمة عمومية مؤدى عنها من المال العام، وأن الصلاحيات الممنوحة لها هي صلاحيات مفوضة من مانحي الضرائب، فإن تعرضه للنقد يعد جزءا من هذه الثقافة، لأنه لا ينتقد في أمور تهم أسرته أو مزرعته أو بيته أو سريره أو حمامه، بل يُنتقد على مستوى أدائه للخدمة التي يقدمها في هذا المرفق العام الذي يحصل منه على راتبه وتعويضاته وامتيازاته..
يتعلق الأمر هنا بمعضلة عامة، تحكمها أعراف خاطئة، فعندما نجد شخصا في وزارة للتربية يحصل على منصب مدير مركزي أو مدير جهوي أو رئيس قسم أو رئيس مصلحة، أو على تفويض إداري ما، بسبب انتمائه الجهوي أو العرقي أو الحزبي أو العائلي، فإنه من الطبيعي جدا، أن «يُشخصن» كل نقد موجه لأدائه، لأنه يعرف جيدا أن هذه الاعتبارات الشخصية هي العلة الأولى لحصوله على منصبه، وليست كفاءته طبعا، وهي أيضا العلة الكافية لبقائه فيه وليست نتائج أعماله، لذلك لا يتردد في افتراض وجود اعتبارات شخصية تقف وراء منتقديه، فيشرع في المساومة حينا وفي إرسال مراسيل «الحزارة» و«المزاوكة» أحايين كثيرة.. إذ المهم هو أن ينعم براحة البال في إدارته/مزرعته/سريره.
في هذا المناخ غير السوي، ليس من الضروري أن تكون ذا شهادة معينة لتحصل على منصب أو على ترقية أو على امتياز في نظامنا الإداري، بل يمكن تكييف شروط الترشح لشغل هذا المنصب أو ذاك على مقاسك، بل ويمكنك أن تحصل على وعود بالحصول على مناصب قبل سنوات من ظهور «مذكرة» التباري حول المنصب، فتشارك أنت كأيها الناس، لتكون أنت «الفائز»، ويُقدم لرئيس الحكومة اسمك ليوقع على مرسوم تنصيبك، بينما يكون منافسوك مجرد «كومبارس» في لائحة «شفافة» معروضة على سعادته..
فإذا كانت هذه بعض المظاهر التدبيرية للمشكلة، فإن لها أيضا أوجها تربوية، إذ كم من مجاز لا يختلف عن الأمي إلا لكون هذا الأخير يعترف بأميته، وكم من حاصل على دكتوراه في مواضيع «قل ما شئت» يعجز عن كتابة سطر واحد من تلقاء ذاته، لكونه اعتمد بالكامل على الوباء الذي يعم كلياتنا وجامعاتنا ومدارسنا والذي هو copier_ coller، بل وتجده يصدر فتاوى في ما يعتقد أنه متخصص فيه، وكلما نوقش في ادعاءاته ومغالطاته الكثيرة، دلف للحديث عن الزمن الطويل الذي قضاه في أطروحته، وارتسامات لجنة المناقشة، والتي يعرف الجميع كيفية التئامها، وقد يحصل هذا «الدكتور» وكل من هم من فصيلته بسهولة على منصب في الجامعة، يبتز الطلبة ويتحرش بالطالبات، أو على منصب في مديرية مركزية أو مدير أكاديمية أو عضوية لجنة وطنية أو في مركز لتكوين الأطر، وإذا تصادف وهبت رياح السياسة الحزبية بما تشتهيه سفينة عائلته أو عائلة زوجته أو أصهارها أو حتى سفينة «رفاق الحانة وندماء الليالي الملاح»، فإنه يصبح وزيرا في حكومة «منتخبة»، والويل لمن سيذكره بأطروحته.
وكلا هذين الأمرين متشابهين، سواء كان الحصول على منصب بدون شهادة، أو الحصول على شهادة دون تكوين، لأنهما يفرضان على الأشخاص التنافس في التملق وموبقاته الكثيرة، إذ المهم في وزارتنا حفظها الله، هو أن تكون متعلما قليلا، وأساسا متملقا ووصوليا كبيرا لتحصل على ما تريد، ولا يهم هنا صدقك وإخلاصك فهما من تقدير رب العالمين، المهم هو أن تعرف المطلوب منك، فأنت مطالب بالتملق لمن هم أكبر منك، كل حسب شهيته و«بليته»، وأن تسلم مشعل التملق لمن هم أدنى منك عندما تصل، ليتحفوك بما تشتهيه أنت أيضا، وهكذا كلما زاد تملقك وشحت معرفتك ونقصت فضائلك ازداد بالمقابل بريقك لتصبح «موظفا ساميا» معينا بمرسوم، ليخاطبك المتملقون بـ«سيادة» و«سعادة»، ويخاطبون زوجتك الأمية بالأستاذة الجليلة و«لالة فلانة»، وقد يحصل معك إن كنت من الذين يعرفون كيف يغضون الطرف ويتساهلون مع النافذين، ويتشددون مع العامة من الموظفين، قد يحصل أن تترقى مثلا، ولله المثل الأعلى، من مجرد رئيس قسم إلى مدير أكاديمية أو إلى مدير مركزي، أو من مجرد مفتش قطاعي إلى مفتش مركزي لأنك ببساطة دخلت إلى نادي الموظفين برتبة تمساح أو عفريت!!
ساحة النقاش