فلاش بريس = سعيد الباز
غراب لافونتين
تدور هذه الأيام معركة غريبة بين مثقفي العراق حول الشاعر العراقي المعروف سعدي يوسف ومواقفه من وطنه العراق. وجه الغرابة في الأمر أن هؤلاء المثقفين دعوا إلى إحراق كتب الشاعر، وفي شارع المتنبي ببغداد تحديدا، وهو الحامل للعديد من الأبعاد الرمزية. السبب في ذلك هو ما يمكن تسميته بقصيدة لسعدي يوسف «مصر العروبة.. عراق العجم»، والتي رأى فيها خصوم الشاعر إذكاء للنعرة الطائفية في بلده. ورغم أن المعارك بين المثقفين العراقيين تأخذ طابعا يتّسم بالحدة المبالغ فيها، وأن سعدي يوسف معروف بخرجاته الإعلامية، كان آخرها وصف القصيدة المغربية بأنّها كما قال: «لا تقول شيئا»، وذلك بعد أن نزل ضيفا مكرما في المغرب لأسابيع طويلة في ما يشبه ردّا للجميل وحسن الضيافة على طريقته السعدية الغريبة.. فإن ما يمكن استنكاره هو قضية إحراق الكتب ومن قبل مثقفين وشعراء عرب ضد شاعر.
لقد عرفنا قصة إحراق الكتب في التاريخ باعتبارها وسيلة لجأ إليها الطغاة والمستبدون لإسكات صوت الحرية، وإخفاء شمس الحقيقة بإشاعة الظلام. عرفنا حكاية إحراق كتب ابن رشد ومحنته، عرفنا كذلك حكاية أبي حيان التوحيدي في إحراقه احتجاجا على عصره الذي أهمل واحدا من أهمّ المفكرين العرب والمسلمين، الذي اضطرته ظروفه القاهرة إلى امتهان الحرفة الكاسدة أصلا، حرفة الوراقة أي كتابة الكتب بخط يده وبيعها.
عرفنا قضية إحراق الكتب مع الكنيسة أيام سطوتها وقبضتها الحديدية على ما ينبغي للمسيحي الصالح أن يفكّر فيه أو يقرأه. عرفنا كذلك قضية إحراق الكتب مع النازية التي أحيت هذه الممارسة الشنيعة بإشعال النيران وسط الساحات العامة، في الكتب التي تعتبرها معادية من شيوعية أو لكتاب يهود، أو لكلّ ما يحمل فكرا متحرّرا خارج تعاليم القائد الفوهرر. لكننا لم نشهد أبدا حالة غريبة مثل هذه، حين تدعو جماعة من المحسوبين على فئة المثقفين والمبدعين، إلى تبنّي أسلوب الطغاة والمستبدين ضدّ شاعر هو في كلّ الأحوال معدود من بينهم، رغم بذاءة مواقفه أحيانا ونزق بعضها في أحيان أخرى. قد يكون سعدي يوسف قد انجرّ إلى عادته في إثارة بعض الفقاعات الإعلامية التي يبدو أنّها تسلّيه في مهجره اللندني، أو تخفّف عنه ضجر الشيخوخة، لكن لا يمكن لنا أن ننكر أنّ حال العراق ما عاد يسرّ أحدا، وأنّ انزلاق بلد في حجم العراق الحضاري والتاريخي إلى طائفية مقيتة فقد فيها الكثير من مكوناته العرقية والدينية، من آشوريين و كلدانيين وأيزيديين وصابئة وأكراد، كانت تشكّل إضافة إلى الشيعة والسنة تنوعا قلّما حظى به بلد في الشرق الأوسط، إذا ما استثنينا بلدا مثل لبنان.
يبدو أن المثقفين المغاربة لم ينساقوا في السنة الماضية إلى خرجة سعدي يوسف ضد الشعر المغربي، إلا في بعض الردود التي تتالت في وسائل التواصل الاجتماعي، وتيّقن الحصيفون منهم أن أشكال التزلّف لبعض الأسماء العربية التي دأب الكثير من الواهمين من المثقفين المغاربة على اتّخاذها وسيلة إلى الشهرة وتحقيق مطامحهم الأدبية، وأن ذلك هو السبيل الوحيد لطبع كتبهم وحضور المهرجانات ونيل الجوائز.. هي السبب في تعامل ما يدعونهم بالكتاب الكبار مع ثقافتنا المغربية وممثليها بالتعالي والصلف أحيانا. ولعل من يحضر لقاء أدبيا وشعريا لهذه الأسماء الكبيرة هنا في المغرب، لا يمكن له إلا أن يعتبر بعض الأوصاف والتعابير والممارسات تخرج عن حدود التكريم والحفاوة إلى ما يصل إلى درجة التعظيم والتهويل، التي ليست من خصائص الشخصية المغربية المعروفة بعزوفها عن الإطراء وإسباغ الصفات المبالغ فيها. لذلك لابد أن يلاحظ المرء في الوقت نفسه أن عادات ثقافية رديئة بدأت تتسلّل إلى الوسط الثقافي المغربي، وصار من المألوف المناداة بالكاتب الكبير والشاعر العظيم، وما إلى ذلك من الصفات التي كانت إلى زمن قريب مثار السخرية والاستهجان. أمّا في الوسط الأكاديمي فلا يمكن لك أن تقدم أكاديميا لم يكتب سوى أطروحته المغمورة دون لقب الدكتور وبنبرة مفخّمة. ولم يكن أحد في الماضي يعير اهتماما لهذا اللقب، حين يذكر محمد عبد الجابري أو عبد الله العروي أو عبد الكبير الخطيبي.. هذه الأمور ستذكرنا ولا شكّ بغراب لافونتين في حكاياته، حين استسلم لإطراء الثعلب والجبنة في فمه واعتقد في نفسه بأنّه طائر مغرّد، وحين سقطت الجبنة، عرف أنه أغبى الطيور.
ساحة النقاش