فلاش بريس = حسن البصري
»ضربو تران«
تقول إحصائيات شبه رسمية إن قطارات المكتب الوطني للسكك الحديدية تقتل يوميا كائنا حيا، سواء أكان إنسانا أو حيوانا، وتدهس كل شهر ناقلة أكانت عربة أو سيارة أو دراجة. وتصاب بالقلق فتخرج عن سكتها مرة كل ستة أشهر.
وتقول قاعدة ثابتة لدى محققي السكك الحديدية، إن «القطار يتحول إلى ضحية بمجرد دخول عنصر غريب إلى سكته». وفي هذه الحالة فهو بريء من دم كل الضحايا الذين سقطوا في طريقه، إلى أن تثبت إدانته.
نحن على يقين بأن هذه الإحصائيات سترتفع بشكل صاروخي حين سيدشن لخليع القطار فائق السرعة، وسيكتب على قاطرته عبارة «كل نفس ذائقة الموت».. ولأن «التي جي في» لا يمكنه أن يتوقف لتسجيل محضر الحادثة، فإن جميع الفواجع السككية ستسجل ضد مجهول.
في الخطاب الدارجي هناك إشارات لخطورة حوادث القطارات، سريعة كانت أم بطيئة، فحين يحول قطار جثة مواطن أو أي كائن يدب على الأرض إلى أشلاء، يردد الحاضرون «ضربو تران» أي أن القطار معفى من كل متابعة وأن حظوظ الحصول على تعويض على الوفاة ضئيلة. لذا يصرف أصحاب الحقوق نظرهم عن «دية التران»، ويرفعون أكف الضراعة إلى العلي القدير كي يرحمهم من مداهمة قطارات تزهق الأرواح.
قال سائق القطار الذي دهس وزير الدولة عبد الله باها، إن الرجل ارتبك حين سمع منبه القطار، وحار في أمره قبل أن يجد نفسه في مواجهة الموت، بينما قال منشط برامج كان يمتطي نفس القطار، إن المسافرين أشعروا بوقوع ارتطام مع شخص دون تحديد هويته، فاكتفوا بترديد عبارة «إنا لله وإنا إليه راجعون».
السائق الذي كان يقود القطار رقم 45 القادم من الدار البيضاء والمتجه إلى القنيطرة، تحول إلى شخصية عمومية، فهو قاتل باها، رغم أنه قتل عددا من الأشخاص دون أن ينتبه لذلك أحد، بل إن لكل سائق حكايته مع الموت، قد تبدو تافهة حين يتعلق الأمر بدابة تسير على السكة، وعادية حين يتعلق بمواطن غالبه السهو، أو شخص يفضل أن تكون خاتمته تحت قطار بلا رحمة ولا شفقة، وصولا إلى شخصية عمومية يتصدر موتها الصحف والنشرات الإخبارية، رغم أن الجميع سواسية أمام سلطان الموت الرهيب.
في معبر حي النسيم بالدار البيضاء، «المسجل خطرا» لدى مكتب السكك الحديدية، مات مئات الأشخاص دون أن يذكرهم أحدهم باستثناء أهاليهم، وتحولت حياة الناجين من الموت إلى سجن مؤبد على كراسٍ متحركة، دون أن ينالوا درهما من صناديق التأمين، وحين يطالبون بتعويض ترد عليهم علبة النداء «ضربك تران».
يعلم مسؤولو المكتب الوطني للسكك الحديدية أن عشرات المعابر السككية غير محروسة، ورغم ذلك يفضلون الاستثمار في القطار فائق السرعة القادر على تحطيم أرقام عويطة في دهس الكائنات، فقط لأن بعض المسؤولين يستبقون الزمن للوصول إلى مقاصدهم قبل الوقت الافتراضي. والغريب أن ربيع لخليع، المدير العام للسكك الحديدية، لا يتردد في الإشادة بـ«التي جي في» الذي سيربط الدار البيضاء بطنجة، حين يقول إن «هذا الخط سيعود بالنفع على المناطق التي سيقطعها من خلال زيادة تنقل الأشخاص، وتحسين جاذبية المدن التي سيمر منها»، دون الإشارة إلى الارتفاع المرتقب لحصيلة القتلى الذين سيسقطون فوق سكته.
مات باها وتحدثت بعض المنابر عن خضوع السائق لحصص إعداد نفسي على يد أخصائيين بعد أن هجر النوم عينيه، بينما لازالت أسر ضحايا عاديين لا يرقون لمكانة وزير الدولة، يعانون من الأرق بعد أن انقطع صبيب الحياة بوفاة عنصر أساسي من عناصر أسرهم.
مات عبد الله باها وتحدث أنصار ديكارت عن فرضية الانتحار، واتهم كائن «فايسبوكي» السائق بالقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، وفتش في أوراقه الاتحادية القديمة، واستفاق أصحاب نظرية المؤامرة واتهموا القطار والمقطورة بالخروج عن النص، وتجدد الحديث عن مقتل المهدي بن بركة، والتصفية السككية لرموز البلد، وهلم شرا..
ساحة النقاش