فلاش بريس = وفاء المهدي
العرب.. حالة رثاء
كتب عبد الرحمان منيف في روايته «سباق المسافات الطويلة»، أن «الشرق بطبيعة تركيبه ونظرة الناس إلى ما يحدث يتسم بكثير من البلادة.. فالعاهل الذي كان مكروها ولا يتردد الناس عن شتمه بصوت عال، بدا لهم الآن إنسانا مسكينا يستحق الشفقة والعطف، وقيل لي إن كثيرين بكوا حين سمعوا بمغادرته، ونفس الناس الذين أسفوا لهذا الذي يحدث، ما لبثوا أن أصبحوا شيئا مختلفا حين سمعوا عن تنحية رئيس الوزراء، وقالوا: هذا الرجل المسن الذي تحمل الكثير أيام الجوع والصعوبات لا يمكن أن نتخلى عنه الآن.. ».
هذا السيناريو يتكرر لدى العرب على مدى التاريخ دون تغيير، فصدام حسين حين أعدم شنقا، صار بطلا وشهيدا لدى البعض، فبعدما كان يوصف بأكبر ديكتاتور عرفه العصر، وتنسب له أبشع المجازر وحالات التعذيب، صارت كلماته في المحكمة وهو يمسك القرآن الكريم من الكلمات الخالدة. وحاليا نشهد بكاء البعض على حسني مبارك بعدما كان في أعينهم عميلا وسلطويا ومتهما بالفساد..
الانتقال من الموقف المعادي للموقف الباكي، أمر لم يتغير، لذلك يمكن الجزم أن الثورات العربية هي أكبر كذبة عاشها العرب في هذا القرن، وأن حالة الرثاء والبكاء مادامت لم تتغير، فقد زادت تجذرا في الثقافة العربية، حيث تظل الأعين شاخصة للماضي، لكل ما يبتلعه الضياع، فلا موقف، ولا مستقبل يتم بناؤه في هذه الحالة.
في الأدب العربي، يعتبر الرثاء من الأغراض الشعرية المعروفة منذ العصر الجاهلي، وقد عرف تطورا لينتقل من رثاء الأشخاص إلى رثاء المدن، في مثل القصيدة الرائعة لأبي البقاء الرندي التي يرثي فيها الأندلس بقوله:
»لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول
من سره زمن ساءته أزمان
وهذه الدار لا تبقي على أحد
ولا يدوم على حال لها شأن«.
حاليا صار الرثاء حالة عامة نعيشها، إذ يكثر البعض الوقوف عند الخاطئ والصائب في الزمن الغابر، دون القدرة على صناعة القرار الآن لأجل الغد.لازال تحميل الآخر الذي هو جزء من «نحن»، مسؤولية ما يحصل وما حصل وما سيحصل، هو الأمر الذي يمكن اللعب به دائما، فبمجرد إثارة شخصية مضت لحال سبيلها في التاريخ إلا وستجد من ينصب نفسه ليدافع عنها، ومجموعة أخرى لتخونها وتكيل لها كل التهم، مما يستنزف الجهد والوقت. و«داعش» إذ تقول إنها دولة الخلافة، ليست إلا نموذجا لحالة الرثاء المتأصلة لدى البعض، ممن لم يستطيعوا تقديم الجديد في المسار التطوري الذي تلزمه سيرورة الزمن غير المنقطعة وغير المنعكسة، من لم يستطيعوا لملمة شتاتهم ومعرفة ذواتهم وسبب وجودهم بالحياة، فآثروا نبش الاختلاف والتموقع في زاوية من الزوايا. وهذه الحالة أمر عادي ما دام تاريخنا ضائعا بين المتن والحواشي وحواشي الحواشي..
ساحة النقاش